«كتاب خالد» وفن القصّ عند أمين الريحاني

04-06-2011

«كتاب خالد» وفن القصّ عند أمين الريحاني

قبل مئة عام، اصدر أمين الريحاني كتاباً مدهشاً، يندرج في عداد البدايات الروائية الطليعية في الأدب العربي الحديث ـ بعنوان «كتاب خالد» ـ الأوساط الثقافية عندنا، وفي عدد من بلدان العالم، تحتفل بمئوية هذا الكتاب الريادي.
أرجو لهذه المقالة ان تشكل نوعاً من الإسهام في قراءة راهنة لهذه الرواية/الكتاب، فتحاول ان ترى إلى ريادية الريحاني في هذا الإنجاز الريادى، فنياً وفكرياً ورؤيوياً، في مسيرة الثقافة العربية الحديثة، قبل مئة عام من يومنا هذا... كلمة تمهيدية لعل عنوان «البدايات الروائية» هو التعبير النقدي الأصح، واقعياً وتاريخياً وموضوعياً، وبالتأكيد فنياً، لتوصيف المسألة/ الإشكال: مسألة (الريادة) في الرواية العربية! رســوم داخلــية وضعــها خصيــصاً للرواية: جبران خليل جبران، عام 1911
ففي يقيني ان النقد الأدبي العربي يكون أكثر انسجاماً مع حداثته إذا تخلى عن مثل هذه التحديدات الحاسمة: (ـ أول رواية عربية! ـ أو: أول قصيدة عربية حديثة!ـ أو: أول مسرحية عربية! الخ..) ...ذلك ان حركة تكوّن نوع أدبي فني ما، وتكامل هذا النوع الأدبي/ الفني في عمل محدد او ـ غالباً ـ في عدة اعمال، وصولاً إلى تميّزه كنوع جديد، مختلف... إنما تسير إلى التشكل في سياق (عملية) تطول او تقصر زمنياً، ولكنها عملية متعددة الإسهامات، متنوعة، متفاعلة، تتجاذبها التقاليد والأنواع الأدبية المتواجدة، ولكنها تنجذب إلى جديدها واستقلاليتها وتكاملها، استجابة لضرورات العصر والمستقبل، وإسهاماً في رسم معالمه أيضاً... وقد لا ينفصل النوع الأدبي الجديد هذا، في حركة تكامله وتمايزه، عن القول الجديد الذي يحمله.. قول يتصف هو أيضاً، وغالباً، بطابع ريادي، تقدمي.
ولعل هذه الفقرة التمهيدية الأولى، كان لا بد منها على عتبة الحديث عن كتاب «روائي»، إشكالي، ومتميّز هو من جملة الاعمال الروائية الريادية الأولى في الأدب العربي الحديث.
رواية الريحاني تطرح أسئلتها
«كتاب خالد»، العمل «الروائي» الأول لأمين الريحاني، يطرح سؤاله الفني على الاعمال القصصية الروائية الاخرى للريحاني نفسه، وعلى الروايات العربية التي ظهرت في زمنه ذاك، وكذلك على النقد الأدبي العربي في يومنا هذا...
[ [ [
فعندما أخذ الريحاني يكتب بعض القصص ـ في أوائل هذا القرن ـ لم يكن يهدف إلى اقامة بناء قصصي فني بقدر ما كان يهدف إلى ايصال أفكاره وآرائه، في عدد من قضايا عصره، إلى ناس زمانه، فاختلط عنده شكل القصة بشكل المقالة، هكذا كان أيضاً شأن الآخرين من كتّاب زمانه: سليم البستاني، مثلاً، وفرح انطون، ونقولا حداد، ويعقوب صروف، وحتى قصص جبران اللاهبة لم تسلم من هذا الترسل الوعظي الذي يضع هذه الكتابة على التخوم بين القصة والمقالة كوسيلة مرغوبة لإعلان الأفكار الإصلاحية، متحمس ينثر مواعظه على العالمين.
«قصص» الريحاني، إذن، هي بنت ذلك الزمن، من حيث الطريقة والاسلوب، ولكنها تحمل قيمة تاريخية. روايته التي قيل انها روايته الأولى، «زنبقة الغور»، الصادرة بالعربية عام 1915، هي الارجاء، أجواؤها متنوعة جداً، وأحداثها الكثيرة لم تقتصر على بلد واحد، بل كان مسرحها العالم الأوسع: تبدأ في الناصرة بفلسطين، ثم طبريا فحيفا، وبعدها تنتقل الأحداث إلى القاهرة وإلى باريس، وإلى لبنان، ثم إلى عكا، فالناصرة وبحيرة طبريا من جديد. هيكل الرواية: أحداث مأساوية ناتجة عن استسلام امرأة لرجل بدون زواج. غدر الرجل بها. تشردت الامرأة وتالياً طفلتها في انحاء الأرض. وكذلك طفل طفلتها الذي جاء، هو أيضا، نتيجة غدر رجل آخر ـ أحداث الرواية هذه متشابكة بشكل مشوّق بحيث يتابعها القارئ بلهفة رغم تلك الصفحات الكثيرة التي يقطع بها الريحاني الأحداث، ليعلّق عليها وليكرز بآرائه في الكون والحياة.
نستطيع القول إن الريحاني قد تأثر هنا كثيراً بروايات هيغو ودوماس وغيرهما من الروائيين الرومنتيكيين الذي تتشابك الأحداث في رواياتهم وتتعقد وتتسع بهذا الشكل الرحيب، كما ان تلك الصفحات التي يصوّر فيها الريحاني البؤس الرهيب والتدني المريع في معيشة الناس القاطنين حول بحيرة طبريا، تذكرنا بأجواء هيغو في «البؤساء». ولعل فضل «زنبقة الغور» أنها أسهمت في انتقال أدبنا الروائي من اشكال المقامات والسجع التقليدي، ومهّدت الطريق أمام أدب روائي عربي اكثر دخولاً في العصر من حيث البناء الفني الحديث.
بعد «زنبقة الغور» اصدر الريحاني (عام 1917) رواية «جهان، او خارج الحريم»، أحداثها تدور في تركيا اثناء الحرب العالمية الأولى. أجواء الدسائس والتجسس والمؤامرات والفساد، وعنصرية الضباط الألمان، وأصوات الحرية خافتة، ولكنها ملحاحة وسط فوضى الصراع المحتدم.
وكان قد أصدر عام 1909، مجموعة أقاصيص «سجل التوبة»، أحداثها مأخوذة من التاريخ القديم وتاريخ تركيا أيام السلطان عبد الحميد. وفيها يصوغ الريحاني الكثير من آرائه في الحرية والطغيان، وإدانته للسيطرة التركية، واستشرافه مستقبل العرب في الحرية والاستقلال.
قصص الريحاني هذه قد لا تطرح من القضايا «الفنية» ما يختلف عن قصص وروايات ذلك الزمان: اختلاط بين شكل القصة وشكل المقالة، ودور يمهّد للدخول في مرحلة الرواية العربية الحديثة. دخول مبكر في الحداثة الروائية ولكن رواية الريحاني التي جعل عنوانها «كتاب خالد» تختلف، ربما جذرياً، عن أعماله الروائية والقصصية هذه، وكذلك عن العديد من روايات الكتّاب العرب الآخرين المعروفة في ذلك الزمان.. فرغم أن رواية «كتاب خالد» صدرت عام 1911 (أي: قبل رواية «زنبقة الغور» بأربع سنوات، وكذلك قبل الرواية التي اعتبرها النقد الأدبي العربي «الرواية العربية الأولى»، نعني رواية «زينب» لمحمد حسين هيكل، الصادرة عام 1914) فإن رواية الريحاني هذه متقدمة فنياً وفكرياً سنوات كثيرة إلى الأمام.
والمعروف ان رواية «كتاب خالد» كتبت أساساً باللغة الانكليزية.. فهل توجهه إلى القارئ الأميركي مارس تأثيراً ما في صياغة هذه الرواية وفي تشكيلها الفني؟.. ام ان القضايا الفكرية والروحية التي تحملها الرواية هي في أساس نسيجها التركيبي المتشابك، والتقدم النسبي في بنائها الفني؟
ثم، هل عدم صدورها بالعربية أساساً، وانها لم تنقل إلى اللغة العربية إلا بعد 75 عاماً من صدورها الاول ([) رغم ان أحداثها تتناول الواقع العربي في ذلك الزمان، وان مؤلفها هو من الرواد الدعاة إلى الوحدة العربية منذ أوائل القرن العشرين.. هل هذه الأسباب هي في أساس عدم إدراج هذه الرواية في السياق الريادي الطليعي للرواية العربية؟ اسئلة كثيرة يطرحها على النقد الأدبي العربي واقع المستوى المتقدّم لهذه الرواية، المتجاوزة لزمان صدورها، وواقع القضايا الفكرية الاجتماعية المتقدّمة التي تحملها هذه الرواية الرائدة!
ولكن، لنحاول التعرّف على بعض هذه الاسئلة، عبر التعرف على الرواية: شخصياتها، وأفكارها، وأحداثها، وبناؤها التركيبي.
من هو «خالد»، وما هو نوع «روايته»؟
نستطيع القول، بداية، ان هذا الكتاب هو القاعدة الفنية والفكرية التي نهض فوقها كتابان متميزان في تاريخ أدبنا العربي، صدرا أولاً بالانكليزية أيضاً، هما: كتاب «النبي» لجبران خليل جبران، وكتاب «مرداد» لميخائيل نعيمة. وليست تهمنا هنا المفاضلة بين هذه الكتب القيمة الثلاثة، وأيّهما الأجمل والأهم... ولكن ما تشترك فيه هذه الكتب هو تلك اللهجة الفلسفية النبوية، ولكون كل منها يضمّ تعاليم وتطلعات باتجاه نوع من الأفكار في إصلاح حال البشرية جمعاء، وتحلم بنوع من العالم الأفضل او «المدينة الفاضلة».
على أن «كتاب خالد» يتميّز عن هذين الكتابين بأنه، إلى هذا، يضم نوعاً من السيرة الذاتية لهذا الكاتب/ المصلح، الذي يطلق عليه الريحاني اسم «خالد»، في حين انه يشكل الصورة الروائية لجوانب من مسيرة الريحاني نفسه وتجارب حياته بين لبنان واميركا والبلاد العربية، مع تركيز واضح على (الأفكار والآراء والتعاليم)، بحيث يصير هذا الكتاب نوعاً من السيرة الذاتية لفكر الريحاني وأيضا للفكر النهضوي العربي حتى فترة كتابة الكتاب... ويرسم الريحاني، هنا، ملامح من صورة الشرق والغرب، على صعيد أنماط الحياة والفكر والفن، وعلاقات التوافق والتناقض والتنافر بين هذين العالمين.
[ [ [
عندما صدر «كتاب خالد» بالانكليزية، عام 1911، أحدث ضجة أدبية فكرية واسعة في عدد من الصحف الاميركية والعربية على السواء، وأثار اهتماماً جدياً في النقد الأدبي، نظراً لما يشكله من نوع أدبي/ فكري مختلف، وله جاذبية خاصة نابعة من هذا المزج التناقضي بين صورة الشرق وصورة الغرب، بقلم أديب شرقي اكتسب خبرة ومعاناة لأنماط الحياة في هذين العالمين. وأثار الكتاب في حينه، وربما الآن أيضاً، العديد من القضايا النقدية والفكرية.
من هذه القضايا، مثلا: مسألة النوع الأدبي الذي ينتسب إليه «كتاب خالد» هذا ـ فهل هو (رواية)؟.. ام هو (سيرة ذاتية) للمؤلف؟.. ام هو مجرد (إطار قصصي) اتخذه المؤلف ذريعة لعرض آرائه ومواقفه بصدد الأنظمة الاجتماعية، ومستقبل البشر، وقضايا الحرية والتقدم، والمقارنة بين أنماط الحياة والفكر والفن في الشرق وفي الغرب؟ ام هو نوع من (الجمع التأليفي) بين هذه الأنواع الثقافية/ الإبداعية الثلاثة كلها؟..
فإذا أردنا ان نتفحص مدى انتساب هذا الكتاب إلى النوع الروائي، فليس يصح مطلقا ان نقارن «كتاب خالد» ـ الصادر عام 1911 ـ بما صار إليه فن الرواية العربية اليوم.. بل من الضروري، اولاً، ان نقارن هذا الكتاب بما كان عليه حال «الرواية العربية» في زمن صدور الكتاب نفسه، فنرى مدى الجديد الذي حمله إلى النوع الأدبي الذي ينتسب إليه.
في هذا الإطار، نستطيع القول: إن «كتاب خالد» اقرب إلى النوع الروائي منه إلى أي نوع أدبي آخر... بل نستطيع ان نذهب إلى أبعد من هذا فنرى: ان الفن الروائي في «كتاب خالد» ليس من النوع السردي البسيط، حسب أساليب الروايات العربية في تلك الفترة، بل هو يتخذ ذلك الشكل التركيبي المعقد الأقرب إلى ما يوصف بالحداثة في الرواية العربية المعاصرة. تعدد الأصوات فالمسار الروائي، في «كتاب خالد»، يمر عبر ثلاثة أصوات لثلاث شخصيات (هي: الراوي، ثم: خالد نفسه، وصديقه: شكيب).. وهذه الأصوات لا تتناوب القص، كأن يروي كل منها فصلاً او حادثة، بل هي تتداخل في مختلف الفصول، بحيث يرى القارئ إلى الحادثة الواحدة، أحياناً، من زوايا مختلفة ومن خلال عيني كل من هذه الشخصيات.
وهذا التعدد في الأصوات، والتداخل بينها، واختلاف زوايا النظر إلى الأحداث والناس والأفكار، يمتد على مدى الرواية كلها.
[ [ [
يقول لنا الراوي، في مطلع الكتاب، إنه عثر في المكتبة الخيديوية بالقاهرة على مخطوطة كتاب يقول كاتبه ان اسمه «خالد» وهذه المخطوطة مثيرة للفضول بحيث يعمل الراوي على نسخها كاملة، ليعرف منها حياة كاتبها خالد وأسراره.
ثم يفهم الراوي، من أحاديث بعض الناس، ان «خالد» هذا هو شخص حقيقي موجود، وهم يلقبونه بـ«النبي» ويقولون: إن رجال «تركيا الفتاة» يلاحقونه.. ثم يقولون له: إذا أردت ان تعرف المزيد من أخبار خالد ومكان وجوده، فاسأل صديقه الحميم جداً وتلميذه الذي اسمه «شكيب».
يعثر الراوي على شكيب هذا، فيجده حزيناً جداً، ويخبره ان صديقه الحميم خالد «قد اختفى بصورة غامضة تكتنفها الأسرار»، ثم يخبره بأنه انتهى لتوّه من وضع مخطوطة عن حياة معلمه خالد ووصف أخلاقه وطباعه ومزاياه وأحلامه، وقد اطلق على المخطوطة اسم «التاريخ الحميم»، وهو يضع هذه المخطوطة بين يديه، لتذهب عبره إلى اوروبا والعالم: «ينبغي على اوروبا ان تعرف خالد معرفة أفضل..».
...وهكذا، يعمد الراوي إلى حياكة نسيج روائي، متشابك، يأخذ بعض خيوطه من (مخطوطة خالد)، وبعضها من (مخطوطة شكيب)، وبعضها من مشاهدات واختبارات الراوي نفسه، ومن تعليقات شكيب، وذلك في سياق من السرد المركب، يسوق إلينا الراوي، عبر هذا النسيج الشبكي ـ وفي أشكال من التشويق، والسخرية، والقفز السريع بين الواقع والخيال، السرد والفانتازيا ـ أحداث حياة خالد وأفكاره وأحلامه معاً:
خالد، فتى لبناني من مدينة بعلبك، تدفعه الحاجة والمشاكل العائلية، وهوس التغرّب، إلى الهجرة برفقة صديقه شكيب إلى اميركا التي يقال إنها «فردوس الناس المهاجرين» ـ كأن هذا في زمان ما قبل العام 1911 ـ وخلال المسيرة نحو اميركا، يتكشّف الأمر، تدريجياً، عن ان هذا الفردوس ليس فردوساً.. فالصديقان يعانيان صعوبات الذل والإهانة والجوع أحياناً وهما، بعد، في الطريق إلى... «الأرض الجديدة».
وفي «الأرض الجديدة» هذه، تبدأ المعاناة الحقيقية.
امام مرفأ نيويورك، خالد يتساءل: «أهذا هو باب الفردوس، ام المرفأ التابع لمدينة دنيوية تحرسها الشياطين؟».. ومن المرفأ إلى الدخول في «يوم الحشر» بين الآلاف المؤلفة من المهاجرين الفقراء المرضى التائهين اللاجئين إلى هذا «الفردوس» من مختلف انحاء الأرض.. يعاني الصديقان ذل التزاحم، وذل الوقوف في الصفوف الطويلة للفحص الطبي، ثم للاستجواب، وفحص الأوراق، ورهبة الخوف الممزوج بالجوع والوهن، وبعد أن يفلت الصديقان من «يوم الحشر» بما يشبه التسلل والهرب. يبدأ البحث عن الأقارب والمعارف، ثم الدوران في الشوارع الضيقة بحثاً عن العمل.. ثم الدوران في أزقة «أبناء العرب» يحملان الكشة ويبيعان «الصلبان الصغيرة وشارات الكتف وسبحات الصلاة» بدعوى انها من «الأرض المقدسة»، وينامان كل يوم في مكان، حتى يتاح لهما، بعد عذاب البحث الطويل، ان يسكنا في قبو مظلم، خانق في الصيف. وتغمره المياه في الشتاء.. فيعمل الصديقان باستمرار على ضخ المياه منه، والبرد ينخر عظامهما.. ويسأل خالد صديقه: «هل تعتقد أنت بأن سكان العالم الجديد هم أفضل حالاً من أهل العالم القديم؟». ويعود خالد بذاكرته إلى بعلبك، فيقول لصديقه: «هكذا.. من تحت الدلفة إلى تحت المزراب».. ويعود إلى سؤاله الساخر: «هل أنت متأكد بأننا أحسن حالاً هنا؟».
[ [ [
ويوغل الراوي في تصوير حياة الصديقين ومعاناتهما في اميركا، من خلال نظرة تنطوي على موقف انتقادي خفي وعميق، وبلهجة من الفكاهة الناعمة والسخرية الخفيفة، ولكن المستمرة، والتي تطال حتى تلك «الأفكار الكبيرة» نفسها التي يكرز بها خالد بهدف... إصلاح حياة البشر!
خالد يلتهم الكتب.. يستمع بهوس إلى خطباء مختلف الفرق «المتطرفة». يحاول الدخول في الحياة السياسية، دهاليزها ومعاركها.. وهو يفتش عن الأفكار الكبيرة التي تصلح حال بني الإنسان.. تتأجج الأفكار في رأسه وتعصف: من أدنى الأفكار الفوضوية صعوداً إلى سماوات الفكر المثالي والروحانيات.
ولكن الخيبات المعيشية والفكرية تتوالى.
ففي أفكار خالد مثالية اخلاقية لا تحتملها حتى الأحزاب المعارضة في اميركا.. فيعود بها خالد إلى الشرق، حيث يصطدم أيضاً بمواضعات ومواصفات اجتماعية ودينية وعقائدية لا تتحمل آراءه ومواقفه وأفكاره الداعية إلى التغيير، ونشدانه المثالي للعدالة، فيصطدم بالسلطات الروحية وبسلطة الدولة معاً، فينعزل في الجبل.
ثم يبدأ خالد برحلة تبشير إلى بعض ديار العرب، يدعو فيها إلى توحيد هذه البلاد في دولة عظيمة تجمع بين منجزات الغرب العلمية التكنيكية، وحضارات الشرق المثالية بما يضمن، حسب تصورات خالد، العدالة لبني البشر، متوهما ان هذا المزج الكيميائي بين «عقل الغرب».. (او القدرات العجائبية «للملايين الأميركية»..) وروح الشرق.. ينتج امبراطورية عظيمة! على ان (الراوي)، في «كتاب خالد»، لا يخفي سخريته الناعمة والودية، من بعض أفكار خالد الإصلاحية هذه، الممزوجة بالكثير من الأوهام. الرواية، الأفكار، تعدّد الأصوات ولسنا هنا، على كل حال، في مجال عرض أفكار خالد في «كتاب خالد» ـ الذي وصفه الريحاني بأنه «رواية فلسفية اجتماعية» ـ ولا في مجال مناقشتها.. بل نحب ان نقول إن أمين الريحاني استطاع إيراد هذا السيل من الأفكار ضمن نسيج روائي، متشابك، ومتعدد الأصوات، طريف وساخر ومشوّق غالباً، الأمر الذي يجعلنا نرى إلى روايته هذه بوصفها شكلاً متقدماً على صعيد الفن الروائي، في تلك الفترة، وهذا يطرح مسألة ضرورة اعادة النظر في التقييم الفني، لا الفكري فقط، لأدب الريحاني.
ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أن تداخل أصوات شخصيات الرواية الثلاث (خالد ـ الراوي ـ شكيب) يحمل في الوقت نفسه دلالة على كون هذه الشخصيات الثلاث، تصوّر وتمثل، في جوانبها الأساسية، الحالات المختلفة والمتناقضة، لشخصية واحدة هي: خالد (التي تحمل جوانب ـ مجرد جوانب ـ من شخصية الريحاني). وفي هذا أيضاً دلالة على القدرات التأليفية في الفن الروائي عند أمين الريحاني.
وهو ـ في الرواية ـ يتعاطى مع فلسفات العصر ليس من موقع الإيمان المطلق بتيار من تياراتها، بل من موقع الناقد المتفحص والباحث بشكل محموم عن فلسفة اجتماعية يطمئن إليها، ويطمئن على الأخص إلى الانسجام بين جانبي الفكر والعمل، والعقل والروح، في سلوك الآخذين بهذه الفلسفة.
من هنا نلمس، على مدى الرواية كلها، تلك الروحية النكهة والساخرة التي يتعاطى بها الريحاني ـ المؤلف ـ مع شخصية «خالد» بالذات، ومع مختلف الأفكار والفلسفات والتيارات والحركات الاجتماعية التي يمر بتجارب معها.. فكأنه ـ في هذه المسافة، الفنية والفكرية التي يخلقها بين القارئ وبين الأحداث والشخصيات والصور والأفكار التي تتالى، وتتناقض، أمامه ـ كأنه، بهذا، يمارس أمتع صفات الديموقراطية الفنية، إذ يجذب القارئ إلى التفكير وإلى الاختيار الحر بين الأفكار والمواقف والحالات... وهو، بهذا، يصل إلى عقل القارئ وإلى تحريك قدرات التفكير عنده، عبر الإمتاع الفني.
على ان الخيط الاساس الذي يمر عبر كل التجارب مع هذه التيارات والأفكار، هو: التفتيش المحموم عن السبل والمناهج والأنظمة والأفكار التي تضمن التقدم الاجتماعي والتطوّر العلمي لبلدان الشرق، التي كان يرى ان عليها ان تستعين بكل منجزات العصر العلمية والفكرية من دون ان تفقد روحها الإنساني، مع ضرورة ترسيخ ديموقراطية حقيقية تحترم الإنسان وترى فيه القيمة الأساسية للمجتمع.
هذا الهدف، لم ير الريحاني، في تلك الفترة، ولم ير لاحقاً، ان نموذج الرأسمالية الأميركية يمكن ان يوصل البلاد المتخلفة إليه. وفي ظني ان «كتاب خالد» ـ كنوع أدبي مركب ـ لا يزال يطرح علينا، وعلى الرواية العربية، اسئلته الفنية والفكرية معاً، حتى يومنا هذا...
([) صدرت رواية «كتاب خالد» بالعربية عام 1986 ـ ترجمها عن الانكليزية د. أســعد رزّوق ـ صدرت عن المؤسسة العربية للنشر (مع رســوم داخلــية وضعــها خصيــصاً للرواية: جبران خليل جبران، عام 1911).

محمد دكروب

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...