علاء الأسواني : هل نحارب طواحين الهواء؟

31-05-2011

علاء الأسواني : هل نحارب طواحين الهواء؟

«لقد عاش المسلمون أزهي عصورهم وحكموا العالم وأبدعوا حضارتهم العظيمة عندما كانوا يعيشون في ظل الخلافة الاسلامية التي تحكم بشريعة الله .. في العصر الحديث نجح الاستعمار في اسقاط الخلافة وتلويث عقول المسلمين بالأفكار الغربية، عندئذ تدهورت أحوالهم وتعرضوا الى الضعف والتخلف.. الحل الوحيد لنهضة المسلمين هو استعادة الخلافة الاسلامية..».
كثيرا ما استمعت الى هذه الجملة من بعض خطباء المساجد وأعضاء الجماعات الاسلامية ولا شك في أن كثيرين في مصر والعالم العربي يؤمنون بصحة هذه المقولة مما يجعل من الواجب مناقشتها. الحقيقة أن الاسلام قدم فعلا حضارة عظيمة للعالم فعلى مدى قــرون نبغ المسلمــون وتفــوقوا في المجالات الانسانية كلها بدءا من الفن والفلسفة وحتى الكيمياء والجبر والهندسة.. أذكر أنني كنت أدرس الأدب الأسباني في مدريد وكان الأستاذ يدرسنا تاريخ الأندلس وفي بداية المحاضرة عرف أن هناك ثلاثة طلبة عرب في الفصل فابتسم وقال لنا:
«يجب أن تفخروا بما أنجزه أجدادكم من حضارة في الأندلس...».
الجزء الأول من الجملة عن عظمة الحــضارة الاسلامية صحـيح تمـاما.. المشكــلة في الجزء الثاني... هل كـانت الدول الاسلامـية المتعاقبة تطبق مبادئ الاسلام سواء في طريقة توليها للحكم أو تداولها للسـلطة أو معــاملتها للرعية ..؟! .. ان قراءة التاريخ الاسلامي تحمل لنا اجابة مختلفة.. فبعد وفاة الرسول لم يعرف العالم الاسلامي الحكم الرشيد العادل الا لمدة 31 عاما هي مجموع فترات حكم الخلفاء الراشدين الأربعة: أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب.. الذين حكموا جميعا لمدة 29 عاما ثم الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز الذي حكم لفترة عامين.
31 عاما فقط من 14 قرنا من الزمان، كان الحــكم فيها عادلا رشيدا نقيا متوافقا مع مبـادئ الاسلام الحقــيقية، أما بقية التاريخ الاسلامي فإن نظام الحكم فيه لم يكن متفقا قط مع مبادئ الدين.. حتى خلال الـ31 عاما الأفضل، حدثت مخالفات من الخليفة عثمان بن عفـان، الذي لم يعدل بين المسلمين، وآثر أقاربه بالمناصــب والعــطايا، فثار عليه الـناس وقتلوه، ولم يكتفوا بذلك بل هاجموا جنازته وأخرجوا جــثته واعتدوا علــيها حتى تهــشم أحد أضلاعه وهو ميت... ثم جاءت الفتنة الكبرى التي قسمت المسلمين الى ثلاث فرق (أهل سنة وشيعة وخوارج) وانتهت بمقتل علي بن أبي طالب، وهو من أعظم المسلـمين وأفقـههم وأقربهم للرسول على يد أحد الخوارج وهو عبد الرحمن بن ملجم. ثم أقام معاوية بن سفيان حكما استبداديا دمويا أخذ فيه البيعة من الناس كرها لابنه يزيد من بعـده ليقضي الى الأبد على حق المسلمين في اختيار من يحكمهم، ويحيل الحكم من وظيفة لاقامة العــدل، الى مــلك عضوض (يعض عليه بالنواجذ). والقارئ لتاريخ الدولة الأموية ستفاجئه حقيقة أن الأمويين لم يتورعوا عن ارتكاب أبشع الجرائم من أجل المحافظة على الحكم... فقد هاجم الأمويون المدينة المنورة وقتلوا كثيرا من أهلها لإخضاعهم في موقعة الحرة، بل ان الخــليفة عــبد الملك بن مروان أرسل جيشا بقيادة الحـجاج بن يوســف لإخضاع عبد الله بن الزبير الذي تمرد على الحكم الأموي واعتصم في المسجد الحرام... ولقد حاصر الحجاج مكة بجيشه وضرب الكعبة بالمنجنيق حتى تهدمت بعض أركانها ثم اقتحم المسجد الحرام وقتل عبد الله بن الزبير داخله...
كل شيء إذاً مباح من أجل المحافظة على السلطة حتى الاعتداء على الكعبة أقدس مكان في الاسلام. وإذا انتقلنا الى الدولة العباسية ستطالعنا صفحة جديدة من المجازر التي استولى بها العباسيون على السلطة، وحافظوا عليها. فقد تعقب العباسيون الأمويين وقـتلوهم جميعا بلا ذنب ولا محاكمة، ونبشوا قبور الخلفاء الأمويين وعبثوا بجثثــهم انتقاما منهم.. الخليفة العباسي الثاني أبو جعفر المنصور قتل عمه عبد الله خوفا من أن ينازعه في الحكم، ثم انقــلب على أبي مسلم الخراساني الذي كان سببا في اقامة الدولة العباسية فقتله. أما أول الخلفاء العباسيين فهو أبو العباس السفاح الذي سمي بالسفاح لكثرة من قتلهم من الناس، وله قصة شهيرة جمع فيها من تبقى من الأمراء الأمويين وأمر بذبحهم أمام عينيه، ثم غطى جثثهم ببسـاط ودعا بطعام وأخذ يأكل ويشرب بينما لا زالوا يتحركون في النزع الأخير ثم قال:
«والله ما أكلت أشهى من هذه الأكلة قط».
أما من ناحية الالتزام الديني، باستثناء بضـعة ملوك اشتهروا بالورع فقد كان معظم الملوك الأمويين والعباسيين يشربون الخمر مع ندمائهم على الملأ كل ليلة... فلسفة الحكم إذاً لم يكن لها علاقة بالدين من قريب أو بعيد، بل هو صراع شرس دموي على السلطة والنفوذ والمال، لا يتورعون فيه عن شيء حتى لو كان الاعتداء على الكعبة وهدم أركانها... فلا يحدثنا أحد عن الدولة الاسلامية الرشيدة التي أخذت بالشريعة، لأن ذلك ببساطة لم يحدث خلال 14 قرنا الا لفترة 31 عاما فقط.
السؤال هنا ما الفرق بين الحكم الاسلامي الرشيد الذي استمر لسنوات قليلة وبين ذلك التاريخ الطـويل من الاستبداد باسم الاسلام.. انه الفرق بين العدل والظلم، بين الديموقراطية والاستبداد.. ان الاسلام الحقيقي قد طبق الديموقراطية الحديثة قبل أن يطبقها الغرب بقرون طويلة.. فقد امتنع الرسول صلى الله عليه وسلـم عن اختيار من يخلفه في حكم المسلمين واكتــفى بأن ينـتدب أبا بكر لكي يصلي بالمسلــمين بدلا منه، وكأنه يريد أن يرسل الاشارة أنه يفضل أبا بكر لخلافته بدون أن يحرم المسلمين من حقهم في اختيار الحاكم.. وعندما توفي الرسول اجتمع زعماء المسلمين في سقيفة بني ساعدة ليختاروا الخليفة، هذا الاجتماع بلغتنا الحديثة اجتماع برلماني بامتياز تداول فيه نواب المسلمين الأمر ثم انتخبوا أبا بكر ليتولى الحكم، وقد ألقى أبو بكر على المسلمين خطبة قال فيها:
«يا أيها الناس لقد وليت علـيكم ولست بخيركم.. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإن عصيتهما فلا طاعة لي عليكم»
هذه الخطبة بمثابة دستور حقــيقي يحدد العلاقة بين الحاكم والمواطنين كأفضل دستــور ديموقــراطي. نلاحظ هنا أن أبا بكر لم يقل إنه خليــفة الله ولم يتــحدث عــن حق إلهي في الحكم بل أكد أنه مجرد واحد من الناس وليس أفضلهم. هذا المفهوم الديموقراطي الذي هو جوهر الاسلام سيستمر سنوات قليلة ثم يتحول الى مفـهوم آخر مناقض يعتبر الحاكم ظل الله على الأرض فيقول معاوية بن أبي سفيان:
« الأرض لله وأنا خليفة الله، فما أخذت فلي وما تركته للناس فبفضل مني».
ويقول أبو جعفر المنصور العباسي:
« أيها الناس لقد أصبحنا لكم قادة وعنكم ذادة (حماة) نحكمكم بحق الله الذي أولانا وسلطانه الذي أعطانا وأنا خليفة الله في أرضه وحارسه على ماله».
ويقول عبد الملك بن مروان وهو يخطب على منبر النبي:
«والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه».
انقلب المفهوم الديموقراطي الذي يمثل جوهر الاسلام الى حكم بالحق الالهي يعتبر المعترضين عليه كفارا مرتدين عن الدين يجب قتلهم . يقتضينا الإنصاف هنا أن نذكر حقيقتين: أولا أن الخلفاء الذين تولوا الحكم عن طريق القتل والمؤامرت كانوا في أحيان كــثيرة حكامـا أكفاء أحسنوا ادارة الدولة الاسلامية حتى أصبحت امبراطورية ممتدة الاطراف، لكن طريقتهم في تولي السلطة والحفاظ عليها، لا يمكن بأي حال اعتبارها نموذجا يتفق مع مبادئ الاسلام ...ثانيا أن الصراع الدموي على السلطة لم يقتصر على حكام المسلمين في ذلك العصر بل كان يحدث بين ملوك اوروبا بالطريقة نفسها من أجل انتزاع العروش والمحافظة عليها..
الفرق أن الغربيين الآن يعتبرون هذه الصراعات الدموية مرحلة كان لا بد من اجتيازها من أجل الوصول الى الديموقراطية، بينما ما زال بيننا نحن العرب والمسلمين من يدعو الى استعادة نظام الخلافة الاسلامية، ويزعم أنها كانت عادلة تتبع شريعة الله. ان التاريخ الرهيب للصراع السياسي في الدولة الاسلامية منشور ومعروف وهو أبعد ما يكون عن شريعة الاسلام الحقيقية، وقد احترت في هذه الدعوه الغريبة الى استعادة الخلافة الاسلامية فوجدت من يتحمسون لها نوعين من الناس: بعض المسلمين الذين لم يقرأوا التاريخ الاسلامي من أساسه أو أنهم قرأوه وتهربوا من رؤية الحقيقة لأن عواطفهم الدينية قد غلبت عليهم فأصبحوا بالاضافة الى تقديس الاسلام يقدسون التاريخ الاسلامي نفسه ويحاولون اعادة تخيله بما ليس فيه. أما الفريق الآخر من المنادين بالخلافة فهم أعضاء جماعات الاسلام السـياسي، الذين يلعبون على عواطف البسطاء الدينية من أجل أن يصلوا الى السلطة بأية طريقة.. وهم يخيرونك عادة بين طريقــين: اما أن توافق على صورتهم الخيالية عن الخلافة وإما أن يتهموك بأنك علماني عدو الاسلام. اما أن تساعدهم على الوصول الى الحكم عن طريق نـشر أكـاذيب وضـلالات عن التـاريخ، وإلا فإن سيف التكفير في أيديهم سيهوون به على عنقك في أي لحظة.
جوهر الاسلام العدل والحرية والمساواة.. وهذا الجوهر تحقق لفترة قصيرة عندما تم الأخذ بمبادئ الديموقراطية .. أما بقية تاريخ الحكم الاسلامي فلا وجود فيه لمبادئ أو مثل نبيلة بل هو صراع دموي على السلطة يستباح فيه كل شيء حتى ولو ضربت الكعبة وتهدمت أركانها.. هذه الحقيقة شئنا أم أبينا. أما السعي لانتاج تاريخ خيالي للخلافة الاسلامية الرشيدة فلن يخرج عن كونه محاولة لتأليف صور ذهنية قد تكون جميلة لكنها للأسف غير حقيقية.. كتلك التي وصفـها الكاتب الاسباني الكبير ميغيل دي سرفانتس في قصته الشـهيرة دون كيخوته حيث يعيش البطل العجوز في الماضي مستغرقا في قراءة الكتب القديمة، حتى تستبد به الرغبة في أن يكون فارسا بعد ان انقضى زمن الفرسان فيرتدي الدرع ويمتشق السيف ثم يتخيل أن طواحين الهواء جيوش الأعداء فيهجم عليها ليهزمها.
الطريق الوحيد للنهضة هو تطبيق مبادئ الاسلام الحقيقية: الحرية والعدل والمساواة .. وهذه لن تتحقق الا بإقامة الدولة المدنية التي يتساوى فيها المواطنون جميعا أمام القانون بغض النظر عن الدين والجنس واللون..
...الديموقراطية هي الحل...


علاء الأسواني- السفير
ينشر بالتزامن مع «مصر اليوم» القاهرة

التعليقات

ما أبدع ما قرأته لك في هذا العجالة.. فشكراً لفكرك المتنورالذي زادني قناعة بأنك مبدع في الأدب، كما أنك مبدع منصف في قراءة التاريخ، وقراءة أمراضنا في الواقع الحالي.. أحييك من سورية، وأشد على يديك أيها الجميل المنصف..

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...