وردة... ستكون السماء أكثر حناناً في استقبالها

19-05-2012

وردة... ستكون السماء أكثر حناناً في استقبالها

«الأمّ الطيبة» جاهزة لاحتضانك
 توحّد العلمان الجزائري والمصري في وداع وردة. كانت لا تستطيع أن تفرق بين حبّ النيل أو إطلالتها على البحر في بيتها بالجزائر. عاشت في بلد المليون شهيد «شبه وحيدة» بسبب انشغال ابنها رياض بينما ظلت ابنتها وداد جرحاً مفتوحاً حتى الموت بسبب خلافهما حول مسألة الاستمرار في الغناء. في الجزائر، لم تكن وردة تأنس إلا للعصفور «بافاروتي الذي يملك أجمل صوت، ولا يتوقف عن الغناء وإسعادي في كل لحظة أشعر فيها بالوحدة والإحباط».خلال تشييعها أمس في القاهرة

الى جانب العصفور، هناك قطتها الشقراء «نوشكا». وردة تحب الحيوانات، قالت إنّها أكثر إخلاصاً من الكثير من البشر. في بيتها في الجزائر، استقرت لفترة قبل أن تشتاق مجدداً إلى النيل وزرقته. لكن أمس، خيّمت غيمة من الحزن على سماء الجزائر التي راحت تنتظر وصول جثمان فنانتها حتى ساعة متأخرة من الجمعة. وعلمت «الأخبار» أنّ رياض، نجل الفنانة الكبيرة بقي في الجزائر لاستكمال التحضير للجنازة الرسمية التي أعلن عنها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، إذ اتصل برياض عدد من مسشاري الرئاسة بهدف إعداد الجنازة ودفن وردة في مقبرة «العالية». هذه الأخيرة احتضنت قبل أكثر من شهر، جثمان الرئيس السابق أحمد بن بلة، بعدما ودعه الجزائريون بالورود والزغاريد والتكبيرات طوال المسافة بين قصر الشعب ومقبرة «العالية».
وأعلن مدير «الديوان الوطني للثقافة والإعلام» لخضر بن تركي أنّ الفنانة ستسجّى أمام الجمهور، والفنانين وكبار الشخصيات في قصر الثقافة، وسط العاصمة الجزائر عند العاشرة من صباح اليوم بالتوقيت المحلي من أجل إلقاء النظرة الأخيرة على صاحبة «العيون السود» التي كانت قد ودّعت الجزائريين بأغنيتها الوطنية الأخيرة «ما زال واقفين».
ونقلت مصادر مقربة من نجلها رياض أنّ بوتفليقة اتصل به مقدّماً تعازيه، مشيراً إلى أنّ «المصاب الجلل في فقدان وردة لا يخصّه وحده، بل يشمل الجزائريين» بينما توالت الاتصالات من وزيرة الثقافة خليدة تومي التي ستشرف على جنازة وردة والتأبين الرسمي. وقالت تومي في برقية تعزية لعائلة الفقيدة إنّ وردة «تمثّل مجداً كبيراً وتعدّ أحد أهم الأصوات في الجزائر والعالم العربي».
وتواصلت التحضيرات والاستعدادات في محيط قصر الثقافة، ومقبرة «العالية»، حيث سيرقد جثمان وردة عند عودتها إلى «الأم الطيبة» (مثلما وصفت الجزائر في أغنيتها الشهيرة «عيد الكرامة»). منذ ساعات الصباح، أحاط عدد من أفراد الأمن المقبرة، فضلاً عن تسخير الرئاسة لموظفيها من أجل ضمان حسن سير مراسم الدفن، خصوصاً أنّ شخصيات كبيرة ستحضر التشييع.
وعلى مستوى ردود فعل الفنانين، قالت المطربة فلة الجزائرية إنّ وفاة «وردة تمثل خسارة لنا، لكنها ستظل خالدة في قلوبنا إلى الأبد». من جهتها، قالت الفنانة دنيا لـ«الأخبار،»: «كانت وردة رمزاً وطنياً كبيراً، وجزءاً من هويتنا الثقافية والفنية». وكشف لخضر بن تركي أنّ الفنانة كانت ستشارك في الاحتفالات الخاصة بخمسينية استقلال الجزائر في الخامس تموز (يوليو). أما الموسيقار محمد بوليفة الذي تعاونت معه وردة في أنشودة «بلادي أحبك» وقيل يومها إنّ أميرة الطرب العربي غضبت من ضعف مستواها، فقال: «كان شرفاً كبيراً لي أن أتعاون معها في تلك القصيدة التي كتبها شاعر الثورة مفدي زكريا، ولو لم يصل مستواها لما تمنياه جميعاً». وسيشارك عدد من الفنانين الجزائريين والعرب في وداع وردة إلى مثواها الأخير اليوم بينما أعلنت شخصيات سياسية مهمة، مشاركتها أيضاً على غرار السلك الدبلوماسي، ورؤساء أحزاب ووزراء، وعائلة الفنانة الراحلة في الجزائر وباريس، وتلك الآتية من القاهرة وبيروت.

قادة بن عمار- الأخبار

 

وردة... ستكون السماء أكثر حناناً في استقبالها
يمكن لي أن أقول إن ثمة جزءا من حياة يتراجع فجأة إلى الوراء، يحاول أن يغيب ويختفي، على الرغم من أني أعرف حقا انه باق ولا سبيل له للاندثار مطلقا. جزء حضرت فيه وردة الجزائرية بكلّ قامتها الوارفة، وبكلّ صداقتها المدهشة، وبكلّ إنسانيتها التي لا تعرفها غالبية الذين استمعوا إليها والذين كانوا لا يعرفون سوى هذا الصوت الذي سحرهم والذي تربوا عليه وأخذهم إلى حالات شتى، حالات كانت أغانيها تعبر عمّا يريدونه من هذه الحياة. إذ ما من أغنية من أغانيها إلا وتحيلنا على ذكرى خاصة، عرفناها، عشناها، ووجدنا لها صيغة أخرى عبر صوت وردة. كلّ أغنية من أغانيها لها أقاصيص لا تنتهي: الأولى قصة الأغنية الأصلية عند الفنانة، وما يبقى تأويلات لا تنتهي لدى ملايين المستمعين، حيث كل يرتّب علاقته بها وفق ما يشتهي ويرغب. قبل حفلها الأخير في بيروت(مصطفى جمال الدين)
بدون شك، أفقد «ماديا» هذا الجزء، لكني أعوّل على ما تبقى من ذكريات، كي أعيد ترتيب السياق المفقود، ربما لأننا لسنا في النهاية، سوى ذكرى مرورنا على الأرض. وثمة العديد من الذكريات والأحاديث واللحظات التي تنبثق فجأة، بالأحرى من تلك التي لا تغيب. سأحاول مثلا أن أتخطى ذكرى استماعي للمرة الأولى إلى صوتها عبر الراديو، إذ ثمة عديدون يشاركونني في هذه اللحظة، ولو عدت إلى المرة الأولى التي حضرت لها حفلا حيّا (مباشرا)، لقلت أيضا إن كثيرين شعروا بما شعرت به من رجفة، ومن مهابة، ومن فرح أيضا. إذ غالبا ما تثير حفلاتها هذا الفرح العارم في قلوب مستمعيها. لكني، مهما حاولت، فلن أستطيع نسيان أول مرة جاءني صوتها عبر الهاتف.
كان ذلك من سنوات، أصبحت طويلة اليوم. الصدفة وحدها لعبت ذاك الدور. شاهدت حفلا لها، وبسبب عملي الصحافي، كان عليّ أن أقوم بالتغطية. كتبت مقالة، ضمنتها كلّ حبي لهذا الصوت ولها. لأتفاجأ بُعيد صدورها بساعات بمكالمة هاتفية بصوت (عرفت في ما بعد أنه صوت نجاة، أمينة سرّها الخاصة) «إن السيدة وردة تريد محادثتك» (لتشكرني على ما كتبت). لا أعرف كيف جاءتني الشجاعة لأطلب منها، بصوتي المرتجف (وأنا أتحدث مع وردة) إن كان يمكن لي مقابلتها. قلت لها إني أحب أن أتعرف إليها شخصيا، إن لم يكن لديها أيّ مانع. قالت بسرعة هل يناسبك نهار السبت، بعد الظهر، في الفندق الفلاني (حيث كانت تقيم). موعد أكثر من مناسب. أول ما فكرت فيه: كيف يمكن لي أن أفوّت هذه الفرصة.
فعلا هي فرصة، إذ كانت فاتحة لقاءات استمرت طيلة السنوات الأخيرة. كانت أيضا فرصة لأحاديث هاتفية ما بين بيروت ومصر والجزائر. وبين اللقاء الأول والأخير، بقيت تلك الوردة الرقيقة، المتواضعة بشكل مدهش، الفائضة بالحب، التي تبتعد كلّ البعد عن لعب دور النجمة، لتظهر ذلك الوجه الإنساني الرهيف الذي يجتاحك كلك. ولتكتشف وجها آخر، لا تعرفه، أو بالأحرى لا يهتم به أحد، إذ ينشغلون فقط بالفنانة، أو لنقل بالوجه العام الذي يظهر لهم.
لقاء أول، أظن، فعلا، أني لم أعرف كيف أتحدث فيه، إذ ثمة «ضغوط» خفيّة كانت تمنعني من أن أكون على سجيتي. كانت هالة ما تشدني إلى «الكنبة» التي كنت أجلس عليها، وبالكاد كان صوتي يخرج من فمي. ضحكت وقالت «ما لَك إيه يا بني». سؤال جعلني أبتسم قليلا، مثلما جعلني أكثر قابلية للشعور بالراحة. وكأني تناسيت كلّ شيء، ليأخذ الحديث معها مسارب أخرى. ما زلت اذكر فعلا تلك التفاصيل: تحدثت عن حفلها، عن الغناء، لكن تحدثت أيضا عن السينما، لأكتشف مدى معرفتها بالأفلام الغربية التي تتابعها والتي تعرف أسماء مخرجيها وممثليها. ثقافة سينمائية حقيقية، تصيبك بالدهشة، إذ يظن المرء أن غالبية الفنانين يأتون من «فراغ». ولم يكن فراغا، بالطبع، بل امرأة معجونة بالحب للكثير من الأشياء، لعائلتها، لدورها كأمّ، لدورها كجدة تلاعب حفيدها، لعشقها دخول المطبخ وتحضير المأكل.

لقاءات

بالطبع لم أكتشف ذلك في اللقاء الأول، بل هي اكتشافات أتت تباعا، عند كلّ لقاء. وفي كل لقاء كانت تصمم على أن تدعوني إلى الغداء أو العشاء. بداية كنت أخجل وأهرب، وأتذرع بعشرات الحجج، لكنها نجحت في النهاية بإقناعي، أو لأقل تخليت عن هذا الخجل المستمر أمامها، لأشعر بنفسي كأني فرد من العائلة. هذا هو الإحساس الحقيقي، حين تعرفت إلى ابنها رياض وعائلته للمرة الأولى، إذ ما إن شاهدنا بعضنا حتى تعانقنا كأننا نعاود حياة قديمة جمعتنا. لم تكن قادرة فقط على جمع «الجمهور» حول أغانيها، بل أيضا عرفت كيف تجمع بين علاقات إنسانية لأشخاص وقعوا في فيئها الوارف.
فيء لن يغادر بسهولة، ولن يختفي بالطبع، يكفي أن أعود بالذاكرة قليلا، بالرغم من أن التفاصيل الكثيرة لا تُختصر. أذكر مثلا ذاك الاتصال الليلي، حين قالت لي نجاة إن السيدة تريد أن تحدثني، استغربت، ليأتي صوتها الساحر، وبعد السلام والتحيات والأشواق، سألتني «هل تابعت ما يكتب عني في الصحافة التونسية؟». أجبت بأني على غير دراية بهذا، وسألتها عمّا يجري، أجابت «رفضت أن أغني في قصر بن علي، فشنت الصحافة التونسية عليّ حربا». كانت يومها قد أحيت حفلا في قرطاج. قالت إنها غنّت للشعب التونسي فقط، ولا تريد أن تغني للحاكم. أزعجها الأمر وبخاصة أنها كانت خارجة يومها من وضع صحيّ دقيق.
من الصعب عليّ الآن، أن أتذكر كلّ هذه الاتصالات. لكن الأخير أتاني منها منذ فترة، قالت لي: لم تقل لي أي شيء عن «ألبومي الجديد» (الألبوم الأخير الصادر عن «روتانا»، والذي عرف مشاكل عديدة، وتأخر صدوره سنوات)». لم أعرف بماذا أجيب. لم أكن قد استمعت إليه بعد. اضطررت إلى الكذب لأقول: كنت مسافرا، وعدت إلى بيروت منذ أيام، وسأستمع إليه غدا. أعرف كم كان يعنيها هذا «السي دي». تأخر لأن الشركة المنتجة رفضت أن تصدره لوجود أغنيتين من تأليف الفنان اللبناني علي الزين وتلحينه. ليست مشكلة فنية أبدا. بل كان الفنان اللبناني اعترض على روتانا وعلى الاتفاق الذي أبرمته مع إحدى الشركات الأجنبية، ما كان يعني أنه يمكن لإسرائيل أن تأخذ الألحان وتنشرها عندها. وهذا ما أثار غضب الفنان الذي صرح بمعارضته لهذا الأمر. وبما أن وردة كانت على اقتناع بجودة هاتين الأغنيتين، تضامنت مع الفنان اللبناني وأصرت على إما أن يصدر «السي دي» كاملا وإما ألا يصدر.
وصدر بعد لقائي الأخير بها. لقاء، من أشهر قليلة، دعت إليه في أحد المطاعم. كان هناك مساعدوها، ابنها وعائلته، علي الزين وزوجته. وحين اتصلت بي لتدعوني، قالت: ممنوع أن تهرب. ستأتي وإلا سأزعل حقا. قلت «لن آتي فقط، بل سأصطحب معي صديقة جزائرية، لن أقول إنها تحفظ أغانيك، بل حلمها أن تلتقي بك، إن كان هذا ممكنا». رحبت بحرارة، «تعرف يا إسكندر بإمكانك أن تطلب أي شيء». وأضافت «ومن هي ابنة بلادي هذه؟»، أجبت: «ستتعرفين إليها»، وضحكنا... ما زالت هذه الضحكة ترن في أذني لغاية الآن. وأصرت يومها على أن أجلس قربها على رأس الطاولة. شعرت بالإرباك في اللحظة الأولى، لكن بعد دقائق، اختفى كل شيء. كان بإمكانها، أن تزيل كلّ الارتباك بفضل هذا الحب الذي تزرعه أينما حلت. أعتقد أن السموات، قد تصبح أكثر حنانا حين تستقبلها هذه الأيام.
أردت أن أكتب عن رحيل وردة. بالتأكيد لم أكن لأضيف شيئا الى كل الذي سيكتب والى كل الذي سيقال. ما إن جلست لأكتب، حتى انسابت الذكريات. ربما لأننا لسنا سوى مجموعة من الذكريات في نهاية الأمر. من الصعب أن تغادر حين تحفر خطوطها في هذه الحيوات التي تغادرنا...

إسكندر حبش- السفير

«الحصان الجامح» روّضه (حبّ) بليغ حمدي
منذ عرضه الناجح عام 1962 حتى اليوم، حظي فيلم «ألمظ وعبده الحامولي» لحلمي رفلة بإعجاب الجمهور الذي حفظ أغنياته حتى الآن. لكن أحداً لم يكترث ـ سوى بعض النقاد ـ بحقيقة مدهشة أنّ الفيلم الذي يدور حول شخصيتين حقيقيتين تاريخيتين، لم يقدم أي أغنية حقيقية لألمظ أو الحامولي! تم تجاوز هذه الحقيقة أمام التحفة الغنائية التي تآزر لصنعها أساطين الموسيقى: عبد الوهاب، وكمال الطويل، ومحمد الموجي، وفريد الأطرش، وبليغ حمدي. إلى ذلك الفيلم، وذلك المنطق، وذلك الزمان... تنتمي وردة الجزائرية.

لقد صحّ الخبر الذي تمنّى كل من سمعه أن يكون مجرد شائعة أخرى من شائعات الفايسبوك. رحلت وردة الطرب العربي، الجزائرية التي لم تعش في الجزائر سوى سنوات قليلة. وربما لهذا، أوصت أميرة الغناء بأن توارى الثرى في البلاد التي حملت اسمها طول العمر. لم يكن في مصر «وردة» أخرى لتضطر وردة محمد الفتوكي أن تميز نفسها بلقبها الوطني، ولو قيل إنّ مطربة سورية كانت تحمل الاسم نفسه. على أي حال، ظلت الجزائرية تعتز بوطن نشأت بعيداً عنه. في باريس (عاصمة الاحتلال) ولدت عام 1939 لأب جزائري وأم لبنانية. هناك نطقت العربية وتعرفت إلى الموسيقى. تغنّت كثيراً بتصاريف الأقدار، وقد جاء بها قدرها إلى مصر لتعرف الشهرة ثم الحب، وصولاً إلى وداع تلو آخر، وقد غنّت ذلك كلّه... وربما كانت أجملَ من غنّاه. ما سر وردة؟ ربما كان اجتماع قوة الصوت الهائلة، مع أنوثته المفعمة، فضلاً عن مخارج ألفاظ أوضح مما امتلكته أي بطلة مسرحية. «كالحصان الجامح»، هكذا وصف عبد الوهاب صوتها، مضيفاً إنّه يحتاج إلى الترويض، ويبدو أن تلك المهمة كانت مهمة بليغ حمدي، أو بالأحرى: مهمة الحب.
«قبل بليغ وبعده»، هكذا يمكن وصف مشوارها أو مراحلها الثلاث. جموح الصوت تجلّى في شبابها الأول وبدت نبرته العالية في «وطني الأكبر» من كلمات أحمد شفيق كامل ولحن عبد الوهاب. إنه الأوبريت الذي طالما فاخرت بأنها غنت فيه بطلب من عبد الناصر شخصياً. لم تكن قد تخطت الـ 19 آنذاك. بعد ذلك، بدت أكثر قدرةً على التحكم بصوتها في أوبريت «الجيل الصاعد» (1960) غم أنّ مقطعها الأعلى نبرة كان يتغنى بالجندي العربي «عنوان النصر الثوري في كل بلد أحرار». بعد ذلك بعامين، سيواصل الصوت جموحه العفيّ في أغنيات «ألمظ». ورغم محاولة عبد الوهاب تهدئة العنفوان في «اسأل دموع عينيا» (كلمات صالح جودت)، إلا أنه يعلو مجدداً في «نخلتين في العلالي» (ألحان بليغ حمدي).
على أي حال، فإن بليغ نفسه هو الذي سيضبط صوت وردة على نغمته الأجمل والأبقى، لكن سنوات عديدة كانت لا تزال تفصل زواجهما المستقبلي عن لقائهما السينمائي الأول بداية الستينيات، فضلاً عن زواجها لعشر سنين من دبلوماسي جزائري رفض اشتغالها بالفن. نعرف الآن أنّه رغم توقفها المتكرر، لم تستطع أن تبتعد عن الغناء حتى النهاية. انفصلت عن زوجها وعادت إلى مصر التي كانت تغيرت. مصر السبعينيات أخذت تبتعد كثيراً عن مصر الناصرية. لم يعد ثمة مكان للأوبريتات الثورية، بينما اتسعت مساحات الحب. هكذا، جمعها زواح ببليغ حمدي لم يستمر أكثر من سبع سنوات (1972 ـــ 1979) بينما بقي الحب بينهما إلى الأبد، ليقدما للفن العربي أجمل أغنيات الغرام في كل أطواره، بعداً واقتراباً، شجناً وغضباً ووداعاً وحنيناً. هل يمكن وصف هذا الغرام الفني المذهل في كلمات؟ لا يمكن طباعة الصوت على الورق، لكن نظرة إلى أغنيتين مثل «العيون السود» و«حنين» تدلّنا على شيء مهم. رغم أنّ الأولى كتبها محمد حمزة، والثانية كتبها عبد الوهاب محمد، إلا أنّ المستمع لا يكاد يفرّق بين عالمي الأغنيتين، أو بينهما وبين «حكايتي مع الزمان» (لحمزة أيضاً). هذه الحالة النادرة لتوافق الصوت مع الموسيقى، طغت على أي عنصر آخر من صناع الأغنية، بل إنّها ألقت بتأثيرها على أغنيات لم يجتمع فيها الثنائي، مثل «بكرة يا حبيبي» (كلمات عبد الرحيم منصور وألحان كمال الطويل). بدا أنّ كل أغنية تؤديها وردة من دون بليغ، كأنها تنتمي إلى عالمه في النهاية. العكس صحيح أيضاً، فألحان بليغ لغير وردة ـ بعد انفصالهما ــ بدت أيضاً كأن وردة تغنيها، لا نموذج لذلك أفضل من أغنية ميادة الحناوي «الحب اللي كان» التي كتب كلماتها بليغ بنفسه مستخدماً اسمه المستعار «ابن النيل». استثناءات قليلة استطاعت الخروج بوردة من عالم بليغ أثناء حياته، أشهرها «أكدب عليك» من ألحان الموجي وكلمات مرسي جميل عزيز، وهي أغنية يكفي أنها صارت الامتحان الذي يحاول به المطربون الجدد إثبات إمكاناتهم الطربية.
بقوة إرادتها وصوتها، استمرت وردة في الغناء بعد بليغ. حققت نجاحات أبرزها كان مع صلاح الشرنوبي في «بتونس بيك»، وأثبتت دائماً أنها تستطيع البقاء ملْء السمع والبصر. لكننا نعرف أن وردة الباقية، وردة التي نحبها، ظلت هناك حيث غاب بليغ حمدي بالرحيل المبكر، لكن «دي قسمة اتقدرّت».

محمد خير- الأخبار

صوت أخضر ومطربة شعبية لن تتكرر
ذهبت إلى صمتٍ لن يذهب بها. وردة... صوتٌ لازمَ الفرح وحضورٌ أمدّنا بشيء من طاقته وحيويّته في أوقات حلوة ومرّة. لا تقتصر سطوة النجمات اللامعات والمؤثّرات من طينة وردة على أصواتهن ومدى عذوبتها وقوّتها، بل تكمن في شخصيّاتهن وشخصية أصواتهن قبل كلّ شيء. ولعلّ شخصية وردة وشخصية صوتها خوّلتاها دخول عالم الغناء والفنّ والبصْم فيه. لم تنذرنا السيّدة البشوش والمعطاء برحيلها. يؤاسينا أنّها مضت مثلما بدأت مسيرتها بكامل سطوعها، مع فارق أنّها ذهبت أوّل من أمس إلى أغنية بعيدة لم يلحّنها آدميّ، وأنّ صوتها سيغمر غيابها طويلاً. لطالما ردّدت في بيروت «وحشتوني...».

«وحشتينا» يا وردة! يتوَّج هذا الشوق اليوم بعرس يرجّع غناءكِ، غناءنا، ويستحضر صوتاً أخضر إذا جاز وصف الأصوات بالألوان. استمدّ خضرته من جزائره وطراوته وفطريّته، ونهل من النيل فرشح ألوانه وتدفّق. رغم تمرّس وردة بالغناء والطرب الشعبيّ الذي داخلَ البوب، ثمّة ما يجعلك تشعر بأنّه خام. كأنّه أبى أن يتقولب وفقاً للقواعد والمعايير الصارمة. مثّلَ صوتها زهرةً برّية، إن لم نقل إكزوتيكية، ما تلمّسه محمّد عبد الوهاب قبل غيره («الأخبار» ٢/9/ ٢٠١١). ولعلّه فُتن بجموح حنجرتها. مثّلت «في يوم وليلة» إكليل تعاونهما، وكرّستها مطربة عربية شعبية تاريخية. لم يعلُ نجم وردة إلا بعد رحيل أم كلثوم التي خطفت الأبصار لا عن وردة فحسب، بل أيضاً عن معظم المطربات اللواتي عاصرنها وغنّين باللهجة المصرية. لا مجال للمقارنة بين صوت «كوكب الشرق» العملاق والملتهب، وصوت وردة الدافئ والسيّال والمُعرّش. «قلبي سعيد» (ألحان سيد مكاوي) ساهمت في ازدياد شعبية وردة من المحيط إلى الخليج، إضافة إلى مجموعة أغنيات لحّنها محمد الموجي وبليغ حمدي وغيرهما، قبل أن تتصاعد الموجة «الشرنوبية» (صلاح الشرنوبي) في التسعينيات، وتُعلي شأن وردة التي أحرزت نجاحاً مدوّياً. صحيحٌ أنّها أدّت لوناً شعبياً خفيفاً ورائجاً يعدّه بعضهم استهلاكياً، إلا أنّها لم تتردَّ في الابتذال. أغنيتا «بتونّس بيك» و«حرّمت أحبّك» أصبحتا على كلّ شفة ولسان. يحمل صوت وردة وأداؤها وأغنياتها على الانبساط. هنا يكمن سرّه وتأثيره السحريّ ـ النفسي في مجتمعات مأزومة، تتوق إلى الحرّية والانشراح. بهذا المعنى، مثّلت أغنيات وردة (بعد التسعينيات) تعويضاً رمزياً عما تحمّلته شعوب بأسرها (الشعب اللبناني، والمصري، والجزائري...). مثلما أنّ مقارنتها بأم كلثوم تعدّ غير متبصّرة، مقارنتها بفيروز الكونية هي غير جائزة. الفنّانات الثلاث استملن القلوب ويمكن إدراج أسمائهن في قائمة واحدة، إلى جانب اسم صباح. أُعجبت وردة بأسلوب زياد الرحباني في التلحين والتأليف، ورغبت في أن يمنحها أغنية، لكنّ أمنيتها لم تتحقّق. هي التي بدأت بالغناء بالفرنسية، قبل أن تختار الأغنية العربية طواعية، وحرّكت مشاعر عشرات الملايين بأدائها الزاخر بالانفعالات وحنجرتها الباذلة. سيُفتقد حضورها الصلب في ظلّ المدّ الظلاميّ راهناً، وسيبقى صوتها يصدح كأنّما ليذكّرنا في غمرة بؤسنا واغترابنا عنّا، في ظلّ تصدّع الواقع العربي، أنّ الغناء لا يزال ممكناً.

هالة نهرا- الأخبار

تجربتها أمام الكاميرا
لم تواز موهبة وردة الجزائرية في التمثيل، موهبتها في الغناء. وعلى الرغم من هذا، لا يمكن المرور على تجربة الراحلة في التلفزيون والسينما مرور الكرام. أعمالها لا تزيد عن عشرة، لكن معظمها حقق نجاحاً كبيراً، خصوصاً عندما يتضمن الفيلم أغنيات تؤديها «أميرة الغناء» وتنال إعجاب الجمهور الذي سيظل يتابع الشريط من أجلها. كما قد يعود نجاح بعض الأعمال إلى وقوف وردة إلى جانب عدد من عمالقة التمثيل. بدأت تجربتها أمام الكاميرا مع رشدي أباظة في فيلم «أميرة العرب». لكن العمل لم يلاق نجاحاً، بخلاف «ألمظ وعبده الحامولي» (1962) الذي نال استحسان الجمهور والنقاد.

لعبت وردة دور المغنية ألمظ، ووقف أمامها في دور الحامولي المطرب الذي لم يكتب له الاستمرار طويلاً عادل مأمون، إلى جانب شكري سرحان وحسين رياض. في ذلك الوقت، عاب النقاد على الفيلم أن المطربين قدما أغنيات حديثة ولم يستعيدا أغنيات ألمظ والحامولي على الرغم من أن الفيلم يدور حول قصة حياتهما وعلاقتها بحكّام مصر في منتصف القرن التاسع عشر. ابتعدت وردة عن التمثيل لفترة، قبل أن تعود بقوة في الثمانينيات مع ثلاثة أفلام أبرزها على الإطلاق «حكايتي مع الزمان» (1973)، وهو نفس اسم الأغنية الشهيرة التي أعاد محمد منير تقديمها قبل سنوات في إشارة إلى أهميتها خلال مشوار الفنانة الراحلة. ثمة أغنية بارزة أخرى هي «وحشتوني»، تضمنها الشريط الذي شارك في بطولته رشدي أباظة، ويوسف وهبي، وسمير صبري وعدد كبير من الفنانين. في الحقبة نفسها، قدمت وردة مع أباظة فيلم «آه يا ليل يا زمن» (1977) الذي جسّدت فيه شخصية ابنة أحد الإقطاعيين في عهد الملك فاروق. في الشريط، تُضطر وردة للسفر إلى باريس والعمل هناك مطربة في ملاه ليلية تحت سطوة إلياس الذي لعب دوره باقتدار عادل أدهم... إلى أن ينجح أباظة في إعادة وردة إلى حياتها الكريمة بمساعدة يحيى الفخراني الذي كان وجهاً جديداً في ذلك الحين. قدمت وردة أيضاً فيلم «صوت الحب» (1973) مع حسين يوسف وعماد حمدي، وجسدت شخصية ممرضة يرفض والد حبيبها أن ترتبط به بسبب الفوارق الطبقية، فتحاول إقناعه بأنها ستكون زوجة مثالية لنجله. وفي عام 1994 قدمت وردة مع صلاح السعدني محمود ياسين ووائل نور شريط «ليه يا دنيا». لكن الفيلم الذي يحكي قصة امرأة تُتهم ظلماً بقتل زوجها، لم يحقق نجاحاً يذكر رغم الحملة الدعائية الكبيرة التي رافقت عرضه حينها. في التلفزيون، اشتركت وردة في عملين، هما مسلسل «أوراق الورد» (1977) الذي جسدت فيه شخصية مدرّسة تواجه مشكلات جمة مع زوجها (زين العشماوي)، لكنها ترتبط بعلاقات طيبة مع تلاميذها. وقدمت وردة في هذا المسلسل أغنية شهيرة أكثر من العمل نفسه هي «انا عندي بغبغان». ورغم نجاح المسلسل، إلا أن القنوات التلفزيونية تتجاهل إعادة عرضه. أما المسلسل الآخر فهو «آن الأوان» (2006)، الذي شاركها بطولته حسن حسني وخالد سليم ونشوى مصطفى وعدد كبير من الممثلين الشباب. لم يُكتب لهذا العمل النجاح، رغم الدور الجميل الذي جسّدته الفنانة الراحلة. يومها، أدت شخصية امرأة أرادت بعد سنوات العمر الطويلة أن تحقق حلمها القديم وتحترف الغناء.

محمد عبد الرحمن- الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...