هادي العلوي.. في الذكرى العاشرة لرحيله

03-10-2008

هادي العلوي.. في الذكرى العاشرة لرحيله

حين أتذكر هادي العلوي أُترع بالشجن، فهو المثقف الجذري الغزير الإنتاج، مرسياً تفاعلاً فكرياً مع الموروث الثقافي العربي ـ الإسلامي، والموروث الثقافي في العراق بالذات، في منهج عرفاني تمثل به تكوينه الشخصي في ثقافته التراثية العميقة، نقده للأصول والجذور معاً في إنتاج حيوية التراكم، فرادة الفاعل في مساحات الحرية، عاملاً على زرعها ومعيداً استنباتها بتجل في الحاضر الثقافي المعاصر.
كل شيء له مفهوم جديد مع هذا المفكر، كنهر عظيم الطمي والشاطئ، كـ»دجلة الخير«... في مواجهة بحيرة الهذر المتوارثة الآسنة والمسماة تراثاً، في اجتراح المعنى من أنياب الباطن المحمول على رؤوس الأجيال كالأوزار، المدعاة أنها على صراط مستقيم. عبر النسق الصافي لفضاء الفكرة ـ الرمز، وعبر تحطيم الطواطم التي كتمت أنفاس الحرية تحت فوهات قواقمها المؤدلجة. التخلص من الالتصاق اللصيق، ولكل ما هو مغاير للمنطق، الإثنيات، الطوائف، المذاهب، القبائل، وكل تلك السياط اللافحة على أجنحة الفكر العربي كي لا يحلق، لبوس الطفل لحظة ولادته بالتربيط »الكوفلية«، بأن يحشر حشراً كي يستوفي معنى الحياة من خلال أسرها، ولحظة شفق نورها. أليست هذه مفاهيم السلفية الفكرية بـ »الحشر حتى يوم الحشر« على ألواح ورقائع الدين...!
وهكذا، فالحديث عن الصديق والمثقف والمؤلف اليساري الثوري هادي العلوي، غير ممكن محدداً بالضاد وتراكيبها، في سياق »المرئي وغير المرئي« وفي مزيج صوفية العلوي وأريج كونفوشيوس، بل في سياق زرع مبادئ الديموقراطية التي لا تنتهي من تناقضاتها، وعلى صخرة الدين ذاته.
كثيرة هي الحلقات التي أقامها العلوي، والتي دفعت بي الى الحوار، »الفصل بين الدين والسياسة، والفصل بين الدين والدولة«، وعموم ما لا يجوز أدلجته بأي دين. لكن الأشد وطأة على النفس والمشاعر هو »تصوفه« الثوري الشامخ، عرفانيته المستزادة من المعارف، في نقد الأصول، والتشكيك بالجذور، ومسألة الهوية. فليس غريباً ان يُنفى ويُقصى من العقل العربي. فهذا الصنف من المفكرين والمثقفين الجذريين، هم مقصيون على امتداد التاريخ المديد والمعاصر، وبصفتهم »عقل المستقبل« الذي ينبغي ان تكتب له الحياة، بدون حواجز وفرمانات وتخوم سلطات وأحزاب وطوائف. فالعلوي نحو المعرفة غير مؤدلج، بقدر نقده لما هو مغاير للواقع والمنطق، كباحث أداته وهدفه الحقيقة، في مواجهة الجمود الصنمي في كافة مناحي الحياة العربية السياسية والفكرية والاجتماعية، موقع نقده للجذور نقداً راديكاليا. وهي مجازفة ما بعدها مجازفة.
تمكن المفكر أبو الحسن العلوي من إفراغ حمولته الأساسية، وربما لم يسعفه العمر بالمواصلة التي لا تنتهي، لكنه ترك وعياً عميقاً في استنطاق الموروث، فترك حمولة صدامية، وأسئلة توقظ نومنا، وتقصي اطمئناننا على الحاضر النائم، وانعدام القدرة على النقد. صوفي في ممارسة حياتية دقيقة، قادرة على استدراج واستصحاب الأفكار والعقول، متطهر روحانياً بنارها »المقدسة«، فـ »ليس منا مَن خالطته الأغيار الثلاثة: المال والسلطة والدين«، مستنفرا عداوة عبيد المال، وأبالستهم وكلاب السلطة، ومعهم نخب أفندية الثقافة والعمائم المتزمتة وبارونات الدين وكرادلته...
المثقف الجذري
الوفاء للصوفية تبدى وكأنه وفاء للحلاج، إشكالية ما بعدها إشكالية بين المثقف الجذري والحاكم، عرفانية نقية خالصة: »أجوع مع الجائعين، فذلك هو شرط المعرفة، والتحف المنافي، فذلك هو شرط الحرية«. أثاث منزله البسيط: صورة لكارل ماركس، أخرى للينين، تشي غيفارا، وصورة افتراضية لكونفوشيوس، قصائد وكتابات مبرْوَزة، طاولة ونظارات سميكة، عدسة مكبرة، معاجم أوراق ومراجع وأوراق وتذييلات، رسائل، هي بمجموعها كناية عن إرثه للأسرة، الزوجة المرأة التي تقاسمت معه كل ألوان المخاطر وشظف العيش والذكريات، ثم مجموع هذا الإرث الحميم، الصرح الفكري، والفرح المسروق من زوايا الفقر والالتزام بالحياة... الحياة. الزوجة أم الحسن المرأة العراقية الصابرة المحبة الصادقة، طيبة المعشر، قاسمته الحياة والوفاء، وقاسمته حبه اللا محدود للفقراء والجياع، في هذا الزمن الكافر بالقضايا العادلة، كما قاسمته وعلى خطى المعري رفضه للحوم ومشتقاتها، نحو صفاء الروح ونقاء السريرة.
بعد رحيله، عرفت ان غزارة علمه هي مكتبة جده سليمان، نهل منها البلاغة والشعر العربي، نهل منها التراث العربي والاسلامي، وليس ذلك غريباً على بلاد الرافدين و»دجلة الخير«. نهل حتى انفتح على المنهج والفكر الماركسي، لتختمر قوة النقد الجذري مع جذوة الفكر والإبداع، وتجود القراءة والاستقراء، مستفيداً من كتب التراث العربي والحضارة الصينية العظيمة، فهو سليل الحضارة العريقة التي تقوقعت قروناً تحت صدفتها وفي أعماق محيطها متوقفة عن التاريخ، فرفع قيمها السامية، وتجاربها النضالية، وأفكارها الأصيلة في مؤلفاته العديدة، خطاً نقدياً فكرياً وثقافياً، رفع شرط نهوضها، طالما أن شرط المثقف ليس فقط مناهضة الظلام، بل: »مناهضة الظلم، والعمل على إقامة العدل الاجتماعي، والنأي عن الحكام وعدم العمل معهم، والدفاع عن المستضعفين، من كل جنس ودين، والاستقلالية القائمة على عدم حب المال، والروحانية: أي التجرد عن اللذائذية«. تقاطعات بين الفلسفة الاسلامية والفلسفة الصينية.
لا ينتهي السرد في أبو الحسن العلوي، فحين تبدأ يشتد كما المطر في بلادنا، إذ يبدأ بالهطول الناعم والنثيث المتقطع، ثم يشتد تدريجياً متحولاً الى قطرات كبيرة تتجمع لتتحول الى روافد وأنهار في الوديان، والمطر يحتاجه التراب والحجر وتثيره الحواجز والأبراج الاسمنتية. يخلخل البنى الوثوقية المتوهمة والمتورمة، يفحصها برتابة، قطرة الماء التي تثقب الصخرة، لتصل الى التربة الفاعلة، قطرة الماء الصادقة الزاهدة فوق الطبيعة الخالدة، يخافها نزلاء فنادق النجوم الخمسة، فالثقافة ان لم تكن نقداً للأصل فلا تستحق اسمها، هذه هي أقانيم هادي العلوي، تفرد عرفاني عميق الجذور، ممزوج في شخصه ونتاجه، فبثه على نحو خلاق في إنتاجه وحواراته وكتبه، بجرأة غير معهودة، ورصانة توثيقية قلّ نظيرها.
في احتكاكه الفلسطيني المديد والمشاركة بالمنافي محمولاً على الخطر، كثيراً وعبر الصدف ما كانت تخرج منه جمالية ورشاقة الروح العراقية وجمالية اللهجة، أذكر مرة صادفته بأحد شوارع دمشق، فسألته إلى أين؟
»أريد أن أشتري صمون لهلي«. الصوت حانيا رقيقا، يعيدك الى ما بين النهرين. أشرت له الى أحد الأفران ليعبر الشارع ويقطعه وصولا إليه، بذات رشاقة اللهجة العراقية استفسر »عمي... عمي... ماكو طريق من هنه«... قلت له: »باوع عمي... باوع هظاك«، ضحك... وتبادلنا التحايا على ان نلتقي، تذكرت حواراته حول سبايا لقمة العيش...
أين الحضارة
يمتد... ويمتد الحديث عن أبي الحسن البغدادي، بل ويكسب زخمه في نتاجه الغزير، في هذا الوقت بالذات، حيث انقلبت الثقافة ـ التي تدعي العربية ـ في يوم وليلة إثر سقوط بغداد، الى قطعان ذئاب وكلاب تعوي علينا ليل نهار، تعوي بفرح آثم، تريد إفقادنا الذاكرة والحقوق، تطالبنا بالاعتذار لأحد حدين: إما للأميركان، او للجلادين، للمغتصبين، للسجانين. فقد أعاقت قضيتنا العربان من تطوير بلدانهم في ميادين التكنولوجيا، وعلم الجينات، وغزو الفضاء، بعد أن أشغلناهم نحن الفلسطينيون ببناء صروح السجون، وبناء المحارس على الحدود والمطارات والموانئ، وأرشفة الأسماء. أرهقناهم بألم صراخنا وأرهقنا ليلهم، وأرهقناهم بهدر أموال الدول على الشاي والشوربة وأرغفة الخبز، ونحن نهتف عاشت الأمة... عاشت بكل ما فيها من ذئاب وكلاب وقطط سمان وقوارض. أحاول ان أتخيل قسماته لو شاهد الجند الغزاة في شوارع بغداد الرشيد.
أبو الحسن العلوي البغدادي، أتذكر ذلك المساء الدمشقي، حين هاتفني على حين غرة وغير توقع، صديقك وصديقي سعيد عبد الهادي، لم أتوقع وجوده في دمشق لأنه مقيم في بيروت، بادرني بالقول »هادي العلوي في وضع حرج«، تفاجأت فلا علم لي، فقال »احضر لنذهب الى مشفى الشامي«، كان ذلك في خريف عام ،١٩٩٨ أحد أيام أيلول (سبتمبر)، قال لي سعيد وقد اعتراه حزن شديد، »عجل لنودع صاحب الإرث الحميم والكبير«.
دخلنا الى غرفة العناية المشددة، ركضت أم الحسن يعتري وجهها ألم شديد، وملامح خوف الفراق، وجاء الطبيب وقال: »دخل في غيبوبة لم ننجح في إخراجه منها«، فهمنا المقصود بأن أبي الحسن قد أراح ركابه...
لم يحتمل سعيد عبد الهادي المشهد، صاح »ابو الحسن أنا سعيد عبد الهادي، أُصمد من أجل الرفاق ومن أجل كل محبيك... هل تسمعني«. ولهول الرعشة التي اعترتني، ما ان سمع صوت صديقه حتى فتح عينيه، وحرك أصابعه مؤكداً انه يسمعه، صاحت الصابرة أم الحسن للطبيب: »استجاب هادي لقد سمع نداء سعيد«، لكن الطبيب فسر لنا ذلك، وبأن هذا الأمر مرهق له. اعترتني رعشة أشبه بتيار كهربائي خفيف، عاد عبد الهادي وردد على مسامعه، مدركاً تفانيه في الاستجابة وهو محمول على لحظات الخطر، ذرف سعيد دموعاً سقطت دون صوت، وقال: »ابو الحسن نخلة عراقية لا تهزها العواصف حتى الرمق الأخير«. ثم أطبق كلانا بصمت ووجوم، لقد ناست الشمعة في وجه الليالي المدلهمة، فهي بين براثن الريح ونذور الموروث، ناست بعد ان نثرت ذوائبها مع البرق فلم يخطفها أحد... سافرت الى الله حاملة معها خثرات جروحها، الروح الريحانة التي تعانقها الزهور يعتليها ندى الطبيعة الخالدة... توفي في الشام التي أحبها ودفن بها...
هادي العلوي وحتى الرمق الأخير، أثبت أنه ابن هذه الحضارة، حين لم يكف عن تفحصها وخلخلة يقينها وأعمدتها المتوهمة، ذلك وفاء وإحياء لها... حتى الرمق الأخير تكاملت روحانيته الصوفية ونفحات روحه... في لوحة صوفية على أريج كونفوشيوس. عدنا معاً بصمت ووجوم سيراً على الأقدام... نتشوف مراتع الأقمار في السماء منذ زبد الخليقة... وحتى مجرة الإنترنت... ها نحن يكفينا الندى... يكفينا عناق الأرض... التوق الأبدي للحرية... مترعين بالأحبة... للإبداع الشفيف وبمشاعر الحزن النبيل ومواصلة الدرب...

رشيد قويدر

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...