موت مايكل جاكسون المثير.. وموت أطفال غزة الروتيني المهمل!

01-07-2009

موت مايكل جاكسون المثير.. وموت أطفال غزة الروتيني المهمل!

لم تكد تخفت زوابع الاهتمام الإعلامي بتفاصيل مقتل المغنية سوزان تميم، التي أعطاها موتها شهرة أكبر مما كانت تحلم بها كفنانة شابة لم تترك رصيداً يخلدها على النحو الذي خلدها موتها، حتى كنا أمام حالة شغف إعلامي جديدة بملابسات موت المغني الأمريكي الشهير مايكل جاكسون.
الحالتان مختلفتان دون شك، فملك البوب يملك شهرة عريضة، ورصيداً كبيراً من الفن والفضائح وعمليات التجميل، وجمهوراً بعشرات الملايين على امتداد العالم... لكن ما يلفت الانتباه أن كل هذا أصبح في خلفية المشهد والتغطية الإعلامية، في حين يتم التركيز الآن على ملابسات الوفاة... وهل مات بالسكتة القلبية أم بالنوبة القلبية؟! (على حد تعبير تقرير العربية التوضيحي)، وهل كان موته بسبب تعاطيه جرعة زائدة من المخدرات... أم بسبب إدمانه على الحبوب المنومة والمهدئة، ما دام مدير أعماله السابق (طارق بن عمار) قد أكد أن جاكسون لم يكن (يتعاطى) أو (يشم) اللهم عافنا... بل هو فقط مدمن على الحبوب المنومة، بسبب الصعوبات التي كان يواجهها أثناء طلبه للنوم؟!ّ
وهكذا تطالعنا المحطات التلفزيونية ووسائل الإعلام الكبرى في كل يوم بمعلومة جديدة، يتم نبشها أو تسريبها أو تخيلها، كي يبقى مسلسل (ملابسات الوفاة) متواصلاً في حضوره اليومي المثير: السلطات تحفظت على طبيبه الخاص... مايكل جاكسون كان أقرب إلى هيكل عظمي حين جاءته السكتة والعياذ بالله... عائلته تطالب بتشريح الجثة... التشريح قد يستغرق أسابيع... وخلال هذه الأسابيع سيكون أمام وسائل الإعلام لاختراع سيناريوهات لا يهم مدى صحتها أو دقتها، أو حتى استنادها إلى معلومات موثقة... المهم أن تمتلك هذه السيناريوهات قدراً من الجاذبية والإثارة الإعلامية بحيث تجذب الناس لمتابعتها، والتداول بشأنها!
لا أدري ما هذا الولع بحوادث المشاهير... وفي الذاكرة تاريخ حافل من مسلسل الاجترار الإعلامي الذي لا ينتهي، والتكهنات التي لا حصر لها حول تفسير حالات رحيل بعض المشاهير... فثمة العديد من قصص الموت الغامضة التي شغلت الرأي العام زمنا طويلا ولا تزال، كمقتل الفنانة الشهيرة مارلين مونرو في صيف عام (1962) والتي وضعت العديد من الكتب ورويت الكثير من القصص، حول الجهة التي تقف وراء اغتيالها وأشير بأصابع الاتهام للمخابرات الأمريكية.
كذلك فقد جاء الرحيل المأساوي للمطربة أسمهان عام (1944) بعد سقوط سيارتها في (ترعة) بمصيف رأس البر ونجاة السائق واختفاؤه، ليشغل الرأي العام العربي طويلا الذي خسر بفقد أسمهان مطربة لامعة، إلا أن ما كتب حول لغز موتها فاق بكثير ما كتب عن تراثها الغنائي المتميز، إذ تعددت الآراء فيما إذا كان موتها مدبرا، وهل كانت للمنافسة مع أم كلثوم آنذاك دورها في ذلك الموت التراجيدي، الذي أشارت أصابع الاتهام أيضا إلى تورط المخابرات البريطانية في ذلك.
أما موت الفنانة سعاد حسني بعد سقوطها من شرفة شقة صديقتها نادية يسري في لندن عام (2001).. فقد تحول إلى طوفان من المقالات والتحقيقات والقصص والحكايا والتقارير والبرامج التلفزيونية التي لم تنقطع منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، وإن خفت وتيرته بالطبع، وقد تابعت بالمناسبة على إحدى القنوات المصرية الخاصة أخيراً وليس آخراً، برنامجاً يعيد طرح السؤال التاريخي بعد ثماني سنوات على الحادث: هل ماتت سعاد حسني منتحرة أم مقتولة.. هل ألقت بنفسها أم ألقي بها.. ومن يقف وراء مقتلها... وهل تملك صديقتها نادية يسري معلومات تساعد في كشف الحقيقة ولا تريد الإدلاء بها؟!!
والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا هذا الهوس المحموم بتفسير حوادث موت المشاهير... ولماذا هذا الإصرار على جعل الموت أكثر أهمية من إنجازات الحياة؟!
إن المسألة لا تتصل بمتابعة خبر إعلامي يفرض نفسه في سياق الأحداث، فهذا أمر طبيعي ومشروع جداً، لكنها تتعلق بآلية مدروسة تسعى لافتعال نوع من الغموض والتشويق على هذه المتابعة، وتهتم بتحويلها إلى مسلسل إخباري يحرّض في المتلقي حالة الفضول والترقب لمعرفة الحقيقة، لكن هذا الفضول يخرج عن حدوده الطبيعية لأنه في الأساس خضع لتضخيم إعلامي مضاعف، وبالتالي تتحول الرغبة في المعرفة، إلى رغبة في اختلاق معلومات مثيرة تذكي خيال المتلقي وتصوراته، وتجعله أسير تفسيرات تآمرية حول هذا المصير الغامض... من دون أن يهمها معرفة الحقيقة فعلاً؛ وبمعنى آخر تحرص وسائل الإعلام، والجهات المعنية بكشف الحقيقة على إبقاء الأمر (لغزاً) كي يبقى في دائرة الاهتمام الجماهيري الصارخ، كلما تسربت معلومة جديدة، أو تم التكهن بفرضية جديدة!
وبالعودة إلى موت مايكل جاكسون... نجد أن هناك رغبة إعلامية واضحة في إثارة هالة من الغموض حول موته، وقد تحولت هذه الرغبة شيئاً فشيئاً إلى محاولة إثارة شبهة جنائية في هذا الموت (المفاجئ) كما دأبت وسائل الإعلام على وصفه؛ وكأن هناك موعداً محدداً لموت المشاهير، موعداً تسبقه إشارات لا تفاجئ جماهيرهم... أو ليس هؤلاء بشراً تسري عليهم قاعدة الموت المفاجئ وغير المفاجئ التي تسري على باقي البشر؟!!
من المؤسف أخيراً أن نجد هذا الاهتمام بملابسات وفاة مايكل جاكسون الذي إن نظرنا إلى سيرته الحياتية بمعزل عن تراثه الفني، فلن نجد قيماً إنسانية يعتد بها كثيراً، بينما لا يتم الاهتمام بملابسات موت الآلاف من أبناء غزة تحت الحصار الإسرائيلي الجائر واللا إنساني... فلا يجد تقرير اللجنة الدولية للصليب الأحمر الذي صدر أخيراً حول المأساة الإنسانية المريعة في غزة عُشر الاهتمام والتركيز الإعلاميين الذي تلقاه سيناريوهات وفاة مايكل جاكسون الغامضة!
أعرف كإعلامي أن موت الناس العاديين لا يكتسب جاذبية وإثارة كالتي يكتسبها موت المشاهير... وأعرف أن منظر أطفال غزة الباحثين عما يسد رمقهم على أنقاض منازلهم المهدمة لا يصلح لأن يكون غلافاً لمجلة في أعراف هذه الأيام، بالمقدار الذي يمكن أن يتحقق لصور مايكل جاكسون وهو محمول على نقالة في سيارة الإسعاف... وأعرف أنني سأبدو (شعاراتياً) و(مزاوداً) في نظر البعض، حين أعقد مثل هذه المقارنات... لكن مما لا شك فيه أنه أمر يدعو للعار... العار الإنساني أن ننسى موت أبناء غزة، ونتعامل مع مأساتهم ببلادة وباعتبارها (خبر روتيني بائت) في حين نندفع بحماس ولهفة لمعرفة كيف قضى ما يكل جاكسون... هل بالسكتة القلبية أم بالنوبة القلبية؟!
أعتقد أن الضمير الإنساني للإعلام يموت اليوم بالسكتة والنوبة القلبية معا!

محمد منصور

المصدر: القدس العربي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...