محمود درويش: لست ناطقاً رسمياً باسم الشعب الفلسطيني

28-04-2007

محمود درويش: لست ناطقاً رسمياً باسم الشعب الفلسطيني

يشبه نفسه بشكل مدهش: في الحياة كما في القصيدة. تسأله عن ذاته فيحيلك إلى الجماعة. تضعه في مواجهة الجماهير، فيستلّ ذاتيّته جسراً أكيداً للتواصل، خارج راهنيّة القصيدة التي «تعاند الزمن»... محمود درويش الذي يدعو معاصريه إلى التغلّب على هوس الشاعر الأول، أو الشاعر الأوحد، خصّ «الأخبار» بحديث مسهب في شؤون القصيدة وشجون صاحبها الواقف «في حضرة الغياب»

«يا أهل لبنان الوداعا» هذا ما قاله محمود درويش، قبل 25 سنة، في قصيدته الشهيرة «مديح الظل العالي». لكنه عاد أكثر من مرة إلى بيروت ليلتقي جمهوره وأصدقاءه. سلك طرقاً مختلفة وغيّر وجهة سير قصيدته أكثر من مرة. انخفض الصوت العالي في نبرته. تخفّف شعره من حمولات رمزية ونضالية مباشرة. صاحب «أحمد العربي» و«جواز سفر» صار يكتب «بقايا كلام على مقعدين» و«ورد أقل». «الأخبار» التقت درويش بعد الأمسية التي أحياها في «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» قبل أسبوعين...

تقديمك في الأمسيات الشعريّة قد يخلق بعد التشوّش لدى الجمهور... ما يلزمك بمهمّة رفع سوء التفاهم...
ــــــ يفترض بالمقدم أن يمهّد للعلاقة الحميمة التي سيخلقها الشاعر مع جمهوره. بعض المقدّمين ينجح في هذا، وأحياناً أشعر بأنه قال كلاماً مهماً في شعري. لكن ما يسيء إليّ هو أن يحدد المقدم صورة مسبقة، أو قراءة نمطية للشاعر. أقدم أحياناً كشاعر قضية، وأنا أقوم بقراءة شعر مخالف لهذه الصورة. أعتقد أن الجمهور لم يعد يكترث بالمقدمات. بوسع الشاعر بسرعة أن يزيل سوء التفاهم الذي قد تخلقه المداخلات السابقة لاعتلاء المنبر. لكنني ممتن دائماً لمن يقدمني، سواء أفرط في التأويل السياسي أو أفرط في التأويل الجمالي، وفي اعتقاده أنه يحسن فعلاً.

يتعامل معك كثيرون كشخصية اعتبارية، لا كشاعر أو كإنسان عادي... هل تعاني من هذا الأمر ؟
ــــــ نعم، أعترف بذلك. غالباً ما أُقَدَّم محاطاً بعوامل تاريخية وخارجية وسياسية مرهقة. كأني ممثل أخلاقي أو سياسي لقضية اتفقنا على تسميتها بالمقدسة. هنا الشاعر الذي في داخلي يشعر بالقلق. فأنا ليس لدي أجوبة ولا أحمل مشروعاً سياسياً، ولا أنطق ــــ شعرياً على الأقل ــــ باسم جماعة، وإن كان هذا المستوى موجوداً في الخلفية الشعريّة. لذا أحاول التخفيف من ضغط تلك الحمولة الرمزية: لا بدّ من تناول شعري بشروطه الجمالية العامة، لا بخصوصية انتماء صاحبه. أطالب بأن أعامل كشاعر لا كمواطن فلسطيني يكتب الشعر. تعبت من القول إن الهويّة الفلسطينية ليست مهنة. قد يتكلم الشعر عن قضايا كبرى، لكن علينا أن نحاكمه بخصائصه الشعرية، وليس بالموضوع الذي يتكلم عنه. الشعر يُعرّف جمالياً لا بمضمونه، وإذا تطابق الاثنان فإن ذلك جيد.

في أعمالك الجديدة نلحظ خفوتاً في النبرة. كأن القصيدة مكتوبة بحميمية ولأشخاص قليلين. هل تحس بأن تلك النبرة لم تعد مناسبة لجمهور كبير؟
ـــــ أبداً، لأن هؤلاء الآلاف مكونون من ذوات صغيرة. ليس من حقنا أن نعامل الجالسين في القاعة على أنهم كتلة مجرّدة من الخصائص الفردية. عندما أكتب عن ذاتي، أحس بقدرة مخاطبة أقوى مما لو كنت ألقي قصيدة حماسية أفترض فيها أن الكل يجتمع في واحد. عندما أكشف ذاتي الشعرية، أشعر براحة أكبر، وأحس بأني أقترب أكثر من مفهوم الشعر، وأقترب أكثر من مزاجي الشخصي أمام هؤلاء الآلاف، كل على حدة، ومجتمعين معاً. أعتقد أن الشاعر هو الذي يضبط إيقاع القاعة. أنا لا أذهب إلى هموم شخصية أو تفاصيل لا تعني الآخرين. تبدو القصيدة مجرد لعبة تقوم على تقشف بلاغي ماكر، لكن هناك دائماً معنى متخفٍّ وراء هذا اللعب. ما يبدو أحياناً مجانياً في النص ليس كذلك. العلاقات بين عناصر القصيدة محكومة بذكاء الشاعر في البحث عن معنى للوجود والحياة.

هل عطّل حضورك الاعتباري أي قراءة نقديّة لشعرك؟
ــــ بصراحة، أنا أشكو من الإفراط في التأويل السياسي لشعري، على حساب الانتباه إلى المسألة الجمالية التي ينبغي للنقد أن ينشغل بها أكثر من خطاب القصيدة. لا يغضبني ناقد يشير إلى عناصر سلبية في شعري، بقدر ما يغضبني غضّ الطرف عما ينبغي أن يُقرأ في شعري: ماذا أضاف؟ وما هي مكانته في الشعر العربي الحديث؟ وغيرها من الأسئلة التي أرجو أن يساعدني النقد على معرفة نفسي من خلالها. أشكو أيضاً من تصنيفي وطنياً لا شعرياً. إذا كنت «شاعراً فلسطينياً»، فإنك لا تكتب سوى موضوع واحد هو فلسطين، ونصك مقروء مسبقاً حتى قبل أن تكتبه. لا يطلب الناقد شيئاً محدداً من الشاعر السوري أو العراقي أو المصري، أما عندما يصل إلى الشاعر الفلسطيني فيقرر ما ينبغي عليه أن يكتبه...

حين قدّمك أدونيس في فرانكفورت، قلت إنها المرة الأولى التي تسمع فيها رأيه في شعرك... أليس هذا غريباً؟
ـــــ أدونيس وأنا قضينا سنوات طويلة معاً. وكانت صداقتنا يومية، ولياقة كل واحد منا كانت تمنعه من إبداء رأيه في الآخر، وهو رأي إيجابي على أي حال. عندما قدمني أمام جمهور ألماني، حيّاني، فرددت له التحية. لكن بشكل عام هناك حزبية في الحياة الشعريّة العربية. يعني إذا كنت تحب نتاج شاعر معين، فعليك أن ترفض نتاج شاعر آخر! أنا لا أحب الشعر الذي يشبه شعري. هناك شعراء يشجعون من يقلدهم ويؤسسون أحزاباً. أعتقد أن المسألة أخلاقية، وتتعلق بقدرة كل واحد منا على الاعتراف بحرية الاختيار، وتعدد الخيارات الموجودة. علينا أن نتخلص من مفهوم الشاعر الأول، أو الشاعر الأوحد. ويجب أن نفعل ذلك في السياسة أيضاً. لا يستطيع طائر واحد أن يحتكر السماء. المشهد الشعري العربي يتسع للتعدد والتجاور والتعايش. هذا ما يصنع تنوعه وغناه. من العبث فرض تيار شعري. لكن العلاقات بين الشعراء العرب ليست صحية للأسف. النميمة أصبحت سمة الثقافة السائدة.

هل تحس بأن الجملة التي بدأت بها لم تتغير في الجوهر، وأن مكونها الإيقاعي أو الوجداني واللغوي بقي على حاله؟
ـــــ هذا سؤال صعب. على الشاعر أن يراقب نفسه. أن يكون حذراً من هيمنة مفردات وجمل على تجربته الشعرية. عليه أن ينظف، إذا جاز التعبير، نصه الشعري من تكرار نمطي لا يشكل بالضرورة ملامح قوية في شعره. في لاوعيه اللغوي والبلاغي والاستعاري، قد تكون تسيطر جملة إيقاعية على مسيرة الشاعر. عندما ألاحظ أن هذه الجملة موجودة، أجري عليها تعديلات أو ألغيها. لكن قد لا ألاحظ ذلك، فتبقى تلك الجملة ملازمة لي.

جملة الشاعر الأولى بمثابة جلد له. وهذا البيان الشخصي يبقى، مهما طرأ على نصّه من تطورات وانعطافات...
ـــــ إذا نظرنا من هذه الزاوية، هذه ملامح لا تُحذف ولا يجب أن تُحذف. هذا وجهك الشعري أو بصمتك، ومن المستحيل أن تغير سمات البصمة. أعتقد أن الشاعر الذي تُعرف قصيدته من دون أن يوقعها يكون قد كوّن ملامح هوية شعرية خاصة، من دون أن يكرر نفسه. أتحدث هنا عن نَفَس الشاعر وإيقاعه. لكنني لا أعرف إذا كان أمراً جيداً أن يتعرف القارئ إلى قصيدة من دون أن يعرف اسم كاتبها، لكن عكس ذلك يقودنا إلى استخدام أقنعة. أنا أفضل وجهي على القناع، لكن هذا الوجه، أو هذه الأنا، تجري عليها تحولات دائمة من دون أن تصبح عكس ما هي.

قلت مرة إنك تحاول كتابة قصيدة نثر بالوزن. هل تظن أن الفرق بين القصيدتين هو الإيقاع والوزن فقط؟ هل كتابة قصيدة نثر ممكنة بمواد ومكونات إيقاعية؟
ـــــ الشعر طبعاً يصعب تعريفه. لكن هناك ثوابت في تعريفه مثل الإيقاع. الإيقاع ليس الوزن، بل هو طريقة تنفس الشاعر وموسيقاه الداخلية. الإيقاع ليس حكراً على الوزن. وقد يتأتى من العلاقات بين الحروف والكلمات والدلالات حتى في نص نثري. لذلك لا نستطيع كتابة قصيدة نثر موزونة. خلافي ليس مع قصيدة النثر التي أحبها كثيراً، خلافي هو مع الادعاءات النظرية التي تقول إنه لا شعر ولا حداثة خارج قصيدة النثر. يُقال إن قصيدة النثر مشغولة بالتفصيلي والهامشي واليومي. هذا لا يكفي لتعريف قصيدة النثر، لأن هذا قد يُكتب إيقاعياً وبالوزن التقليدي أيضاً. هذا ما قصدته حين قلت إني أستطيع أن أستوعب خطاب قصيدة النثر في قصيدتي الموزونة. وبالمناسبة هناك سوء فهم لموقفي من قصيدة النثر. أنا من أكثر المعجبين بها، وإن كنت أختلف على المصطلح. أنا أفضِّل أن أقول «القصيدة النثرية» كما أرفض مصطلح «قصيدة التفعيلة» وأفضل عليه تسمية «القصيدة الحرة». للأسف تكرست هذه المصطلحات. تعريف الشعر بات أكثر صعوبة اليوم. فالشعر قد يتسع للسردي والنثري والموسيقي. بعض الشعراء وجد كتابي الأخير «في حضرة الغياب» قصيدة نثر طويلة. هذا يفرحني.

ردّدت مراراً أنك تتمنّى حذف جزء كبير من قصائدك القديمة. ماذا يمكن أن تقول عن أعمالك الحالية بعد عشرين سنة؟ أين منطقة الرضا إذاً؟
ـــــ هناك شيء واضح بالنسبة إليّ، وهو أني لن أبلغ منطقة الرضا. أنا شديد التطلب وملول من المنجز. وأشعر، صادقاً، بأني لم أصل إلى حدود ما يسمى الشعر الصافي. الشعر الصافي مستحيل، لكن علينا أن نغذي أنفسنا بوهم وجوده. الشعر الصافي متحرر من تاريخيته ومن ضغط الراهن، أي إنه يعاند الزمن. لكنّنا ما زلنا نقرأ، بكامل المتعة، الكثير من الشعر العظيم الذي كُتب في لحظة زمنية عن واقع معين. التاريخ والواقع ليسا، على ما أظن، عبئاً على صفاء الشعر الذي يأتي من طين الحياة، لا من أزهار الفل. الشعر الجيّد يعيش خارج شروطه الزمنية. حين نقرأ هوميروس هل نقرأه في حرب محددة وزمن محدد؟

في نصوصك الأخيرة هناك حضور شديد للموت والغياب...
ـــــ أنا أتقدم في السن. لكن من حقي أن أقول إن الحديث عن التقدم في السن يتم بلغة فتية. هناك شعرية فتية في اقترابي من الموت. أليس كذلك؟

أظن أن جزءاً من عافيتك الشعرية يعود إلى تحديك المتواصل لنبرتك وعبارتك.
ــــ أي شاعر يجلس إلى نفسه، ولا يشعر أنه تافه... لن يكتب شعراً مهمّاً. أن تحس بأنك لم تكتب شيئاً ولم تحقق شيئاً هو الحافز الدائم للكتابة. هذه هي ورطة الشعر. أنا أشعر بأني لم أكتب شيئاً. أحاول أن أصحّح ما فعله الزمن بي، وما لم أفعله في الشعر.

تقول «في بيت ريتسوس»: «ما الشعر في آخر الأمر؟». أريد أن أعرف الجواب منك...
ـــــ الجواب كما جاء في القصيدة ذاتها: «هو الحدث الغامض الذي يجعل الشيء طيفاً / ويجعل الطيف شيئاً / ولكنه قد يفسّر حاجتنا لاقتسام الجمال العمومي». ريتسوس قال «الحدث الغامض»، الباقي من تأليفي.

حسين بن حمزة

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...