فواز حداد يكتب عن المرأة والأدب ونص لا جنس له

05-08-2007

فواز حداد يكتب عن المرأة والأدب ونص لا جنس له

فواز حداد : تحيلنا الدعوات النسوية أحياناً إلى قرارات نهائية وتوصيات حازمة كان أحدها، إن لم يكن أهمها، في مجال الأدب، التمييز بين نص ذكوري وآخر أنثوي!! وفي هذا سخرية لا يطيقها حتى بعض الأدباء المهمومين بالكتابة عن المرأة من المتشيعين لها والأوصياء عليها، خشية أن يؤدي هذا التمييز إلى نزع اليقين عن كتاباتهم ووضعها موضع الشك، إن لم يكن البطلان، وإعطاء النساء حق احتكار الاهتمام بشؤونهن الأنثوية لسبب بديهي هو أنهن الأكثر إطلاعاً على ما يدور داخل عوالم جنسهن، وبالتالي كف سطوة الرجل وأدبه وفكره واجتهاداته عن مشاكلهن وإشكالاتهن. وفي هذا إعادة الحق إلى صاحباته، وكأن الأمر أن مملكة الأدب كلفت الرجل بالكتابة مؤقتاً عن الأنثى ريثما تبلغ سن الرشد وتصبح قادرة على حمل القلم والتعبير عن مشاعرها. وها قد أمسكت القلم وجاء زمان المرأة: "النسوة قادمات". وحسب بعضهن: "النسوة قادمون". صيحة وإن كانت حماسية ودعائية، لا تخلو من حقيقة. ولا تخلو أيضاً من تداعيات قد تعيد المرأة إلى عصر الرق.
بصرف النظر عن إعلان شاءته الحركات النسوية مدوياً، أثبتت المرأة الكاتبة خلال العقود الأخيرة حضوراً حقيقياً فاق ضجيجاً حضور الرجل الكاتب في الساحة الأدبية خلال الفترة ذاتها. نجاح المرأة كان جزء منه مدينا به للرجل الذي بالغ في تزكيتها إرضاء لها، من باب إسباغ الرعاية عليها واختلاق أسطورة أخرى لها. على أن الجزء المؤثر فعلاً من هذا الظهور يرجع إلى طبيعتها الأنثوية التي تعلمت الكلام وانطلقت إلى كتابة ذات سمات مميزة وخصائص تفردت بها، ترفدها لغة خصوصيتها قادرة على التعبير عما يعتمل في داخلها من أحاسيس ورغبات، ولقد أحسنت النظر إلى نفسها وإلى الرجل. وربما لأول مرة نسمع صوت المرأة بكل عنفوانه (كمجموعة وليس متفرقاً) في لغة رقيقة وجارحة، قوية وجديدة،فضائحية لا تزعم أسراراً ولا تريد إخفاء عموميات ولا تفاصيل؛ لقد انتهى عهد الكتمان، وفي هذا شطح كبير، ما زال المشوار في بداياته الوعرة والمرائية.
صنَّف منظرو الحركة النسوية الأدب إلى أدب قديم كتبه الرجل، أما الجديد فسوف تكتبه الأنوثة. ووصفوا الأدب القديم بأنه تسلطي وأيديولوجيا اصطنعتها البطريركية الذكورية كأداة للهيمنة على الأنثى وعلى الأجناس الأخرى المستضعفة، وعلى أنه نوع من التكتيك استخدمه الذكور لتثبيت سيطرتهم على النساء، وحسب ألفين كيرنان، كقول شكسبير في مسرحية الملك لير: "كان صوتها دائماً ناعماً رقيقاً ومنخفضاً، وهذا شيء رائع في المرأة". فكانت الروعة في المرأة النموذجية تتبدى بتحنيطها داخل هالة من النعومة والرقة.
لقد أعلنت الحركات النسوية المتطرفة موت الأدب القديم وطمحت إلى تغيير العالم من خلاله على أن يبدأ من اللغة. فاللغة الذكورية خلقت مفاهيم ذكورية،وينبغي قلب اللغة لكي تعود إلى أصلها: أنثوية. وبات كل ما كتبه الرجل عن المرأة بحاجة، ليس إلى إعادة نظر، وإنما إلى شطب، دون أن تخفف عنه فضائله الكثيرة، وكان أغلبها مريباً حسب زعمهن، في تلك الأيام الخوالي، عندما جعل منها موضوعاً لنزواته وإبداعه ومصدراً لإلهامه. اليوم يرتد عليه هذا التكريم بنقمة عارمة السخاء: آن الأوان للثأر من الرجل النرجسي، كما يروّجن. إن لم يكن هذا هدفهن المعلن، فهو توقهن المضمر. ولم تتوان الكثيرات عن التصريح به: على الرجل أن يعرف حدوده بالامتثال لما هو قادر عليه، وألا يتجاوزه بالتماهي مع الأنثى بتقمص شخصيتها أو استعارة صوتها، وأن يقتصر في كتابته على جنسه.
حجة المرأة أنها لم تظهر في نص الرجل إلا بوصفها جزءاً مكملاً لعالم اختار تكوينه على شاكلة تلائمه. لم تكن المرأة جزءا أصيلاً ولا فاعلاً فيه، بل ألحقت به إلحاقاً، ودائماً على الهامش، وما كتبه عنها لا يعكس حقيقتها، والصور سواء البريئة أو المنحطة التي رسمها لها: الأم، الزوجة، الحبيبة، العاشقة، العشيقة، الخادمة، العذراء، الشهوانية، المومس، اللعوب، القديسة، الشيطانة، المناضلة... إنما تعكس أوهامه عنها. صور حاصرتها برؤية محددة لتساعده على امتلاكها (وكأن الرجل لا يحمل عن نفسه الصور ذاتها والأوهام نفسها!!). تكمن المشكلة في أنه جعل لنفسه الحق برفع القناع عن لذتها وسبر أغوار شهوتها وتلافيف نشوتها، بفعل ادعائه استئثار المعرفة بها. ترصد الروائية الفرنسية كوليت جهود الرجل بسخرية عندما تقول: "كيف عساه يدرك هذا الرجل أناي وأنا عاجزة عن إدراكها؟!" وفي هذا حقيقة لا شك فيها.

*****

تدعو الحركة النسائية في العالم الغربي إلى السعي لرفع الظلم التاريخي والقهر الاجتماعي والتمييز الأسري والديني الواقع على النساء؛ نصف الجنس البشري، طوال عصور تسيد فيها الذكر في ظل مجتمع أبوي، وتحكَّم بها من موقعه المتفوق هذا، واستغلها طبقاً لمصالحه: جنسياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً وفكرياً.
في واقع الحال، لسنا بعيدين كثيراً عن التفسير ذاته. الأدب نتاج ثقافة سيادة الرجل، ساعدت على نشأته واستمراريتهعوامل شتى، تاريخية فكرية واجتماعية واقتصادية، خضع لها الرجل والمرأة معاً، وليس في تنكب الرجل الكتابة عن المرأة أريحية منه ولا تقصيراً منها، وإنما لأن الرجل كما نعلم ويزعم، يخوض معترك الحياة؛ الصيد والحرب والعمل... والتفكير!! بيد أنه ومنذ عقود، باتت المرأة تشارك في كل شيء، وإن لم تكن شراكة متكافئة بعد، تجمع بينهما حقائق الحياة، والأقدار الغامضة أيضاً (إذا شئنا عدم إغفال الروابط حتى تلك غير المفهومة)، لا عيش لأحدهما دون الآخر، وأي شرخ إضافي، يعني تكريس علاقة طرفاها، لا محالة، مغبونان، ربما لقرون أخرى.
تلح الدعوات النسوية على المرأة المبادرة باكتشاف ذاتها من خلال ممارسة الكتابة والأدب والفنون، مصحوبة بشكوى من أنها لا تجد أبواباً مفتوحة، وأن الرجال احتلوا كل شيء. الشكوى ليست في محلها وتنطوي على إحساس مغال بالاضطهاد. كان الأدب على الدوام مجالاً مفتوحاً للجميع، وكثيراً ما أثبت النص الأدبي قيمته بصرف النظر عن جنس صاحبه. وعلى سبيل المثال، مؤخراً في مسابقة "حنا مينه" للرواية والقصة في سورية، كان أكثر من فوجئ بالنتائج هم أعضاء اللجنة المُحكِّمة. ففي القسم الخاص بالرواية، شكل فوز ثلاث فتيات شابات بالجوائز كلها، بين أكثر من مائة متسابق؛ جائحة مثيرة لم تكن متوقعة فعلاً، وباغتن عالم الرواية السورية بنصوص جريئة وجيدة. النصوص لم توح بأن أصحابها من الجنس اللطيف، كانت أسماء المشتركين في المسابقة مغفلة، والحصيلة روايات لا تتميز عن روايات الجنس الخشن. واحتلت نسوة صغيرات مكانة واعدة في الإبداع الروائي.
لم تدخل المرأة إلى قوائم الأدب مؤخراً، بالعكس مضى على دخولها عدة عقود، بالنسبة للرواية الأوروبية يمكننا أن نذكر بكل ثقة روائيات لامعات مثل جين أوستن والأخوات برونتي وجورج إليوت، وبلغت الرواية واحدة من أرقى ابتكاراتها مع فرجينيا وولف. كذلك المرأة العربية، حكايتها معروفة مع الشعر منذ عصور الجاهلية والإسلام. وسجلت بشكل مبكر عدداً من الاختراقات في مجال الرواية، وأسهمت فيه بقسط لم يكن وافراً، ومع هذا كانت رائدة، وهناك رأي يقول بأن أول رواية عربية كانت لأديبة لبنانية تدعى زينب فواز، إن لم تكن لأليس البستاني أو عائشة التيمورية أو لبيبة هاشم.

*****

لم تُسقط المرأة الفاصل بين الداخل المحدود والفضاء الفسيح فحسب، المثير أنها كتبت عن بنات جنسها ولم تهمل الرجل، ما ينفي عنها أي قصور قد تتهم به تجاه نفسها أو تجاه الآخر. واستقبل المجتمع كتاباتها الروائية بإعجاب. وفي انجلترا خصوصاً، كانت قراءة الروايات حول المدفأة بحضور أفراد العائلة تقليداً عائلياً، وأيضاً شأناً تهذيبياً راقياً. وخلال عصور البراءة والحياء، تساوت مع الرجل في التعبير والمنع، ولم يجرؤ سوى عدد قليل من الرجال والنسوة على الكتابة بحرية عن تجاربهم ومغامراتهم الجنسية إلا سراً، صدر بعضها تحت أسماء مستعارة. وفيما بعد (لو أسأنا الظن وأخذنا الأمور بضغينة وخفة) من الممكن عزو تراجع إسهامها في الأدب إلى أن الرجل وجد في الكتابة مهنة رابحة، فعمل على إقصاء المرأة عنها!
ثمة من يقول بأن الروائيات الرائدات في الغرب نجحن في كتابة الرواية كواحدة من أعمال التدبير المنزلي!! وهنا ليس الإشكال فيما إذا كانت الرواية بحاجة إلى تدبر وتدبير، أو تشبه أعمال الحياكة والتطريز، وإنما في أنها تحتاج إلى تأمل وخيال. ولقد أفلحت المرأة من "غرفة تخص المرء وحده" في الإطلال من نافذة صغيرة في مدينة أو قرية، على عالم مترامي الأطراف التقطت منه خصوبة سردياتها وتعدد شخصياتها وإشكاليات موضوعاتها، وكتبت روايات لا ينقصها الخيال الجامح ولا التأمل العميق، مازالت تقرأ حتى الآن بمتعة وشغف (جين آير، مرتفعات ويذرنج، العقل والعاطفة، مسز دالاوي...) وقدمتها السينما والتلفزيون فيما بعد وعلى مدار عقود بنجاح كبير أكثر من مرة.
ارتكزت الدعوات الجديدة إلى حض المرأة على اكتشاف ذاتها وحددتها بعض الناقدات النسويات من خلال صلتها بجسدها وبالضبط: على أن تنظر إليه كجسدمثير وأن تعمل على إبراز هذا المعنى بالاحتفاء بتكويناته وإطراء جمالياته بوصفه باعثاً على الإحساس بالتفوق، وليس النقص، ومصدراً للإغراء وليس العيب. ولقد أتقنت المرأة الكاتبة تمثله بلغة تعتمد الحسية سعياً للكشف عن أنوثة مسحوقة ومجهولة ورغبات مكبوتة وملعونة. تُنبه الناقدة "هيلين سيكسوس" الكاتبات بصراحة إلى "ضرورة أنتنصرف الكتابة النسائية إلى الجسد، بل والاقتصار عليه"، وتدعو النساء إلى وضعأجسادهن في كتابتهن. على أن هذا الاحتفاء أفضى إلى استئثار هذا الجانب المكشوف بالاهتمام. وحرضت ظاهرة التغني بالجسد ومفاتنه إلى الولع به والإيغال في التعرض للتجارب الجنسية بتجلياتها الغرائزية البحتة والمريضة والمنحرفة، ما جعلها تتخذ طابع الإدهاش، وذهبت بمعركتها بعيداً في التعبير عن جسدها بإفلات الحرية لنفسها بالمعنى الجنسي حصراً باعتبار لا حدود للحرية؛ وتجاوز ما فاتها بالاجتراء على المحرمات. وإطلاق تصريحات أشبه بالمهاترات كإعلان الكراهية للرجل ومطالبة النساء بالاسترجال. وكان لهذه الدعوات مؤيدون ومشجعين لاسيما عندما يكون لها وقع الفضيحة. وكانت الطريق الأقرب إلى الشهرة.
بالعودة إلى منطقتنا العربية، يأخذ إعلان استقلالية الكاتبة العربية وتحررها طابعاً أشبه بالانفجار، خاصة تأكيدها على أنها وجدت طريقها إلى الأدب على هدى خريطة مختلفة، ترد الاعتبار لجنسها المغلوب تحت مقولة: النساء أقدر على الكتابة عن أنفسهن لقدرتهن على التعبير عن مشاعر وعواطف وإشكالات وخفايا تُشكل وحدها هوية نصهن الخاص. ودعمت توجهها بسرد متطور، انتقل من البوح والمناجاة ورثاء الحياة والذات وهجاء الأقدار كوسائل للتنفيس عن الكبت والقمع إلى سرد داخلي حميمي متنوع تسرد فيه بعضاً من سيرتها الذاتية وحكايات مستقاة من حيوات أسرهن وأقاربهن، لا تغفل الجنس ولا العواطف والمشاعر النسائية الصرف، مع إيحاءات ورموز، أحياناً بشكل مباشر مضاد للسائد والمتعارف عليه. وأحياناً أخرى بشكل فج واستعراضي وكأنها في مباراة مع الرجل، بينما هي تقلده في تصنيع الفضيحة، لكن في النهاية تتم على حسابها، وهي المؤهلة لتكون ضحيتها في مجتمعات لم تفصل بعد في أمر عاداتها وتقاليدها ودينها. كذلك دون الانتباه إلى أنه لا يمكن للمرأة أن تتحرر في الأدب، دون أن يواكبه تحررها في المجتمع. وإذا شئنا الدقة، لا يمكن للمرأة مهما تذرعت بمفاهيم غربية أن تعبر بطلاقة ووعي ومسؤولية عن مجتمع عربي منشود لم يظهر بعد، ما زال في مرحلة المخاض.
هل هذه لعبة المرأة أم الرجل؟ ربما كانت لعبة المرأة، لكنها فعلاً لعبة الرجل، لعبة تجير لرغباته ومصالحه المادية. إن الأهمية التي تعطى للجسد تتصل فعلياً بنظرة المجتمع إليه ولا تخرج عن نطاقه. والدور المطلوب منها يحثها عليه العارفون بمتطلبات مجتمع منافق وسري. وإذا توسموا فيها التمرد فلكي يرسخوا في يقينها أنهامرغوبة لجسدها، وليس لعقلها. وربما كان على تمردها الانصراف إلى خيارات أخرى تؤكد على حريتها. هذا لا يعني أن عليها أن تخفي جسدها، أو أن الجسد الأنثوي لا يصلح موضوعا للأدب، أو ملهماً وفضاء للتعبير، طالما كان جسد المرأة موضوعاً أثيراً على الفن، ومازال اكتشافه، دون تمييز بين ذكر وأنثى، يشكل تحدياً للعلم والأدب على السواء.
تفضي الدعوات النسوية المتطرفة إلى العكس. فهي لا تطلق حرية المرأة وإنما تعيد تعليبها داخل جسدها. وهذا ما كرسته أيضاً الثقافة الاستهلاكية باختزالها الأنثى إلى جسد فقط، أعضاء مكشوفة ومشتهاة قيمتها في عالم الإعلان لا تُنكر، كذلك في الأدب السهل والذي ينمذجها على شاكلة استعراض مثير وينجح في جعل أنموذج المرأة/الجسد رائجاً بوصفه حاملاً للذة ومحل رغبة؛ وإخضاعه لآلية العرض والطلب في سوق تقوم إشباع الحاجات فيها على الوفرة والندرة، وشروط الإنتاج الكثيف والتهالك على الاستهلاك. سوق يقوم الرجل فيه بدور المستثمر والمرأة بدور السلعة الأكثر مبيعاً. هل في هذا مخاوف متزمتة لا أساس لها؟ نعم، في حال أدركنا أن هذا العالم قائم على أن لكل شيء ثمناً، ويحق لكل فرد أن يبيع ويشتري ما يشاء حتى روحه، طالما هناك باعة محتاجون ومشترون راغبون، شرط التقيد بالثمن والجودة، ولا ننسى اقتراب انتهاء الصلاحية.
إذا كانت المرأة قد تعرضت للغبن بسبباختلاف الجنس، واستولى الرجل على مهنة التعبير، فلا يجب أن يغيب عنا أن الاضطهاد مورس أيضاً وبشكل أشد عنفاً على العبيد والجواري والخصيان في الإمبراطوريات القديمة، وضد السود في الغرب الأمريكي، والغجر في أوروبا. وبما أن الدعوة شاملة، ينبغي ألا يُغض النظر عن اضطهاد البشر لبعضهم بعضاً تحت أي سبب. من هذا المنظار، هناك كتابات كثيرة تنتظر بدورها السماح في الظهور لتأخذنا إلى قراءات مختلفة.
وباستعادة سؤال الأدب، ماذا لو كان للنص الأدبي هوية، تبعاً لجنس صاحبه؟! إذا كان ولابد، ألا يحق للمثّليّ والسحاقية انتزاع التعبير عن أنفسهم ممن يدعون بالأسوياء؟ وعلى أساس هذا التمييز ألا ينبغي إعادة تصنيف الأدب؟ أي مثلما يحق لنصوص النساء إدراجها تحت عنوان الأدب النسوي. ينبغي إعادة تحديد تصنيف أعمال أندريه جيد وبروست ولوركا ووايلد .. بإدراج كتاباتهم تحت لافتة الأدب المثلي. كذلك هنري ميلر وفلاديمير نابوكوف.. في الأدب الجنسي الذكوري. أما الأدب الرجالي الرصين، فينضوي تحته أمثال غوته وتولستوي ودوستوفسكي وبلزاك وديكنز.. إلخ. وبما أننا في هذا المجال فلنستطرد: ماذا يقال عن نص الخنثى، هل يمكن الاعتراف بهوية نص ملتبس وحائر، لا هو ذكري ولا أنثوي؟! وإذا شئنا عدم إغفال الآخرين، ألا ينبغي المطالبة بالاعتراف بنصوص متنوعة تنوع الأجناس والأعراق والألوان والشعوب؟! وهي سلسلة لا تنتهي إذا أردنا جدولة الأدب وتفتيت البشر وتجزئة التعبير عن عالم، هو في الأصل واحد.
كل هذا يقودنا إلى استبعاد شبكة معقدة ومتداخلة ومتآزرة من الظروفالتاريخية الاجتماعية والسياسية لا يمكن الفصل بينها، وتحتاج إلى كشف، ليس لإقامة الحواجز، وإنما لتبين الجسور. ثمة الكثير مما توافق عليه البشر، وأحدها التأكيد على القيم الأخلاقية والعقلانية المتصلة بحقوق الإنسان ومن ضمنها المرأة. إن استعادة التطلعات الإنسانية، وهي ما زالت مجرد تطلعات، ينبغي إخراجها من نطاق الحلم ومجرد الأمل، إلى مجال العمل البشري الواعي والجدي.
إن ما يدعى بالنص النسائي، ما هو إلا نص إنساني، وتجريده من أفقه المشترك، إفقار له وتكرار لخطيئة الرجل. وبذلك تعيد المرأة لعب دور المتعصب الذكر الذي لم يدرك أنه لن يحصل على حريته طالما المرأة متخلفة عنه.
الأدب نص غير مخصص ولا مشروط، وكل نص يزعم أن مرجعيته جنس كاتبه ما هو إلا نص مجتزأ، ينظر إلى الذات والعالم بعين واحدة. والتطرف الحاصل في دعوات المرأة، ناجم عن أن أية حركة تغيير، تفرز سلبيات وأمراض وتشوهات. ولن تبقى هذه الدعوة في جوهرها صحيحة، إلا باحتكامها الدائم للمنطق الإنساني في الحرية.
وبتعبير آخر، ثمة نص هائل، يكتبه الجميع دون استثناء ولا يتكامل إلا بالمشاركة، كل منا يكتب جزءاً منه، جزءاً يتصل بغيره، يقوم به ولا ينفصل عنه. نص نغوص فيه داخل ذواتنا ونتلمس من خلاله العالم والكون والمفاهيم الكبرى للإنسان والدين والحياة والحرية، وأيضاً الآخر مهما كان جنسه. نص يشكل صورة جماعية للبشر ولا يمكن فصل تداخلاته وتشابكاته ولا الاستعاضة عنه بمكوناته. وربما علينا إدراك أنه مثلما المرأة حكاية الرجل، كذلك الرجل حكاية المرأة. ليس هناك نص عظيم نظيف الجنس، يمكن وسمه بأنه نسائي أو رجالي.


* روائي سوري

المصدر: موقع آوان

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...