"عزف منفرد على البيانو" ومأزق المثقف‮ في الزمن الردئ

21-03-2010

"عزف منفرد على البيانو" ومأزق المثقف‮ في الزمن الردئ

د‮. ‬صبرى حافظ:  حينما أنتهيت من قراءة الرواية الجديدة للكاتب السوري المرموق فوّاز حداد‮ (‬عزف منفرد علي البيانو‮) ‬والذي سبق أن أثارت روايته السابقة عليها‮ (‬المترجم الخائن‮) ‬اهتماما كبيرا قبل عامين،‮ ‬أدركت أنني أمام كاتب متمرس قادر علي كتابة نص ينطوي علي مستويات متعددة من الرؤي والمعاني والدلالات‮. ‬فقد بدأت القراءة،‮ ‬وأنا أحسب،‮ ‬في الفصول الأولي من هذه الرواية التي تقع في أربعين فصلا،‮ ‬أن الكاتب يريد رواية حادثة معروفة جرت منذ عدة سنوات لكاتب سوري مشهور ضربه مجهولون بليل علي عتبة بيته،‮ ‬وتركوه مضغضعا‮ ‬غارقا في دمائه في شوارع اللاذقية‮. ‬كان هذا هو أفق التوقعات الذي استثارته الفصول الأولي من الرواية،‮ ‬ولكنها كأي رواية جيدة تثير التوقعات لا لتلتزم بها وتحققها،‮ ‬وإنما لتجهضها وهي تولد توقعات مغايرة وجديدة كي تلعب مع القارئ لعبة روائية بحق‮. ‬لأنني بعدما واصلت القراءة سرعان ما أدركت أن الكاتب ينطلق من الواقع لا ليحاكيه أو يعيد رواية ما دار فيه،‮ ‬وإنما ليستمد منه مصداقية لروايته التي تتغيا من خلال سبرها لواقع معاش تخليق استعارتها الشفيفة لحال المثقف العربي في هذا الزمن الردئ،‮ ‬وليجسد عبرها مأزق المثقف الذي يريد أن يحقق مشروعه الفكري المستقل فيجد نفسه كالقابض علي الجمر في كل خطوة يخطوها‮. ‬حيث لايقف بجانبه أحد،‮ ‬حتي أقرب الناس إليه،‮ ‬الصديق والزوجة والعشيقة،‮ ‬فيضطر إلي أن ينفق وقته في صراع عقيم مع سلطة تدعي أنها تحميه،‮ ‬وتريد أن تحتويه تارة،‮ ‬أو تستخدمه أخري،‮ ‬أو تتخلص منه ثالثة‮. ‬يتخبط في شباك مؤامرات أو بالأحري سيناريوهات محكمة،‮ ‬ويشتبك بأحابيلها الجهنمية التي تتغيا جميعها الأجهاز علي دوره والنيل من استقلاله وفعاليته‮. ‬إننا بإزاء رواية تكتب مأزق المثقف العربي في هذا الزمن الردئ الذي اختلطت فيه الأوراق،‮ ‬وتحول قطاع كبير من الكتاب والمثقفين إلي كلاب للحراسة لأنظمة وأجندات مختلفة‮. ‬
حيث تبدأ الرواية بحادث اعتداء‮ ‬غامض علي الأستاذ فاتح القلج،‮ ‬وهو‮ «‬موظف مرموق ومفكر مستقل لايقل أهمية عن مفكري الحزب‮»(‬ص33‮)‬،‮ ‬علي سلم بيته عند عودته يوما بعد إلقاء محاضرة يهاجم فيها الظلاميين‮. ‬وتركه الاعتداء وهو‮ «‬يسبح في دمه أسفل الدرج‮» ‬ص19‮. ‬ويتنادي أصدقاؤه ومؤيدوه إلي سريره بالمستشفي،‮ ‬وإلي وكالات الانباء كي تنشر خبر الاعتداء علي مفكر علماني‮. ‬ولكن سرعان ما يصل إلي نفس السرير رجل الأمن الحاذق الذي يريد أن يدير الحدث،‮ ‬لا لصالح المثقف وإنما لصالح الدولة وأجهزتها الأمنية‮. ‬فهو يؤكد له بلا مداورات‮ «‬لن يسمح لك ولا لغيرك بزج الدولة في معركة تعود عليك بالشهرة وعلي البلد بالقلاقل‮»(‬ص160‮). ‬وبدلا من أن تبحث أجهزة الأمن عن الجاني،‮ ‬هاهي تستجوب الضحية،‮ ‬وتحذره من مغبة الحديث إلي وسائل الإعلام عما جري له،‮ ‬وتوحي له بأن بإمكانها تشويه سمعته بالزعم بأن الاعتداء تم لأسباب أخلاقية،‮ ‬وتموضعه في تلك الأعراف القاتلة بين الشك فيه والرغبة في مساعدته واستئناسه وحمايته من أعدائه‮. ‬وتؤكد له بأن الجاني لم يكن يريد قتله بل تأديبه فحسب،‮ ‬وبالتدريج يصبح الضحية متهما،‮ ‬بينما الجاني حر طليق‮. ‬فالرواية لا تهتم بتعقب الجاني‮. ‬فنحن لسنا بإزاء رواية بوليسية تستهدف فك خيوط جريمة بسيطة،‮ ‬وإنما بإزاء رواية تسعي للحفر في أركيولوجيا الواقع المعقد الذي يعيشه المثقف العربي في هذا الزمن العربي الردئ‮. ‬وتهتم بالكشف عن آليات المأزق الذي يحيط به في عالم اختلطت فيه الأوراق،‮ ‬وتغلغل العولمي في المحلي،‮ ‬والأمني في الفكري‮. ‬وأصبح من العسير علي كثيرين فرز أوراق اللعبة،‮ ‬أو التعرف علي الحقيقي فيها من الزائف‮. ‬وتمضي بنا الرواية للتعرف علي توابع حادث الاعتداء ذاك علي حياة فاتح،‮ ‬وعلي ممارساته الفكرية والثقافية،‮ ‬وبقية تفاصيل حياته اليومية منها والعملية‮. ‬لتكشف لنا عن كيفية تخلق تلك الرمال الناعمة والمراوغة التي تسوخ فيها أقدامه يوما بعد يوم،‮ ‬وتكبل بأمراسها اللا مرئية مبادراته،‮ ‬حتي تصيبه بقدر لابأس به من الشلل الفعلي والمعنوي‮. ‬فالرواية علي مستوي من مستوياتها هي رواية الكشف عن الجدل بين القوي الأساسية الثلاثة في الواقع العربي‮: ‬الدولة،‮ ‬والجماعات الإسلامية،‮ ‬والمثقف المستقل،‮ ‬وكيف أن هذه القوي جميعها تستحيل إلي لعبة في أيدي لاعبين أكبر في لعبة عولمية أوسع يستحيل فيها اللاعب المحلي إلي أداة في لعبة جهنمية أكبر منه‮. ‬فالدولة تدرك ضرورة عدم التخلي عنه في حالة استهدافه بالقتل،‮ ‬ليس فقط لأن قتله سيكشف عن تراخي قبضتها الأمنية علي الأمور،‮ ‬وعن عجزها عن فرض سلطتها علي الواقع،‮ ‬ولكن أيضا لأن«ما يتبرع به مجانا،‮ ‬يدفعون ثمنه للآخرين باهظا‮» ‬فقد أصبح أمثاله‮ «‬أحد أدواتها النظيفة الصالحة للاستعمال في الأمور‮ ‬غير النظيفة‮»(‬ص42‮).‬لكن المثقف يحاول الحفاظ علي استقلاله بعيدا عن قبضتها الأمنية التي تضيق خناقها من حوله،‮ ‬بحجة حمايته هذه المرة،‮ ‬لا مصادرة حريته‮. ‬ويجد فاتح،‮ ‬ومعه المثقف العربي نفسه‮ «‬من المخزون الاحتياطي العقلاني لدولة‮ ‬غير عقلانية ولا مؤمنة،‮ ‬يكمل تشكيلة الأصناف المفكرة التي لايستغني عنها في المناظرات التليفزيونية التي تتطلب مماحكات ومناكفات،‮ ‬وجدلا ومصطلحات،‮ ‬لئلا يقال أن البلاد تفتقر إلي منظرين يتكلمون بالفصحي،‮ ‬ويسبغون مناخا من التفكير المنفتح،‮ ‬وإن كان ثقيلا علي برامج كانت بلاوزن،‮ ‬وشيئا من الجدية علي حوارات الطرشان‮».(‬ص38‮)‬
فكيف سيكون حال المثقف في هذا المأزق الرهيب.
المثقف والمتأسلم
بينت فيما سبق طبيعة مأزق المثقف في رواية فواز حداد (عزف منفرد علي البيانو). فالمثقف العقلي المستقل واقع بين مطرقة السلطة وسندان الجماعات المتأسلمة بهذا الترتيب. والترتيب في هذه الرواية الجميلة ليس صدفة، وليس صدفة أن فاتح يعمل في بنك المعلومات، فالمثقف هو بنك معلومات أمته، وهو زرقاء يمامتها، بالرغم من إساءة الجميع استخدام معلوماته ونبوءاته. وهو لهذا مصدر قلق سلطات الزمن الردئ. فأزمة فاتح هي أزمة المثقف العلماني الذي يعاديه المتدينون، ولايثق فيه التقدميون اليساريون، وترتاب فيه الدولة لرفضه الاستئناس والاحتواء. فهو «مفكر محترم لم يبع قلمه لأية جهة، مع أن بيع الأقلام والعقول للدول الغربية والنفطية أصبح سائدا تحت عناوين دارجة: صحافة حرة، مراكز أبحاث، لجان حقوق إنسان، جمعيات نسوية، جماعات الدفاع عن الحريات ... إلخ».(ص94)
في مواجهة المثقف فاتح تقدم لنا الرواية الخبير الأمني الحزبي سليم، «بنبوغه اللافت» وتأرجحه في تقييم فاتح. ففي نفس الزيارة ينتقل في تقييمه له من نقيض إلي آخر، ومن كونه مثقفا محترما، إلي أنه إرهابي متخفٍ أو عميل مزدوج. وإذا كان مثقفنا ليس مثقفا عضويا حسب تعريف جرامشي، فإن الخبير الأمني هو ابن السلطة العضوي، وأداتها في فرض هيمنتها علي الواقع من ناحية، وفي التعامل، نيابة عنها أو ممثلا لها، مع جهاز الأمن الدولي العابر للقارات من ناحية أخري. إلي الحد الذي تجعله الرواية إبن الحزب/ السلطة حرفيا ومعنويا، فقد مات أبوه ـ فداء للحزب ـ حينما كان سليم صبيا في العاشرة في أحداث دامية دارت في مدينة سورية معروفة حينما جزّ فيها الإسلاميون ذات ليلة رقاب الحزبيين وأسرهم وسحلوهم في الشوارع، فدك الحزب المدينة علي سكانها. وشاهد سليم الصبي جثة والدة، تسحل في شوارع المدينة. تيتم مبكرا فرباه الحزب حتي أصبح أشهر خبرائه في مكافحة الإرهاب وأنبغهم. هكذا تشخصن الرواية العلاقة العضوية بين الدولة العربية العصرية والعنف الأمني الذي يدير دولاب عملها.
بين مطرقة الدولة وسندان الجماعات المتأسلمة يظل المثقف الطرف الأضعف والأعزل في كل هذه الصراعات. فالرواية  تحرص علي أن تقدم من البداية، وبعد أن قدمت لنا الخبير الأمني، الصديق القديم، الذي لا يتذكر فاتح اسمه. وتختار بذكاء أن تزرعه في طفولة فاتح في المدرسة الابتدائية، لأن الدين مزروع في طفولتنا. كما أن ظهوره الثاني، والدال حيث يكشف فيه عن هويته، يرتبط بعنف السلطة و«اختطافها» لفاتح. فعنف المتأسلمين هو الوجه الآخر لعنف السلطة، أو بالأحري للعملة الواحدة. هذا الصديق اللامسمي هو مرسال الجماعات المتطرفه إليه، كما كان سليم مرسال الدولة، لأنه يحذره من أنه داخل «سيناريو محكم، كل خطوة تخطوها تقودك إلي النهاية، أنت ذاهب إلي حتفك».(ص250) ويكشف لنا النص عبره عن مدي تعقد العلاقة بين السلطة وتلك الجماعات، وطبيعة الحراك الجدلي الفعال بينهما من ناحية، وبين كل منهما والسياقات الدولية من ناحية أخري. كما يتيح للرواية أن تدير في ساحتها حوارا مستفيضا وجدلا دالا حول الله والدين، تشكل به هذه الرواية مقاربة مهمة لهذا المحرم الديني الذي كان من محرمات الرواية الثلاثة حتي عهد قريب.
بين سندان سالم ومطرقة صديق الطفولة اللامسمي يتجسد مأزق فاتح، وتنكشف لنا عزلته. فليس له جمهور أو جماعة، أو قاعدة يمكن أن يركن لها، ولم تخلق كل أفكاره العلمانية الجريئة لها سندا يزود عن صاحبها، حيث لايجد من يقف حقا بجانبه إلا صديقه حسين الذي يعد أحد أخلص تابعيه، وصديقته هيفاء التي نكتشف بعد قليل مدي سطحية علاقتها به. وكشفت لنا أن سطحية علاقتها به ليست مغايرة لعلاقة زوجته به التي طالما أخلص لها ولذكراها. هكذا أصبح فاتح مهددا بالاغتيال، بعد الكشف عن آليات تمييع أي دعوة حقيقية للتغيير، سواء أكان فكريا أو اجتماعيا. فقد دفعوه إلي حد إعداد نفسه للموت «بذلت جهدي في الاستعداد للموت، وودعت جميع من أعرفهم»(308) لكن الموت غيلة هذا المرة كان من نصيب صديقه المتأسلم لا من نصيبه. فأكثر مفارقات الرواية إثارة للدهشة والتفكير معا، هي أن صديق الطفولة المتأسلم لايدرك أنه كان يسير هو الآخر منوما إلي أحبولة أعدائه، وأنه بينما يظن فاتح أن الرصاصة القادمة سترديه، يجد أنها تصوب بدقة إلي رأس صديق طفولته اللامسمي وترديه. لتفتح الرواية علي جهنمية اللعبة وتعقيداتها، ولتربط بطريقة جدلية دالة مصير المثقف والمتأسلم، بعدما ربطت بين عنف الدولة وعنف المتأسلمين. ولتبق المثقف في «نور ليس أكثر من ظلام دامس» (ص315)

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...