زياد رحباني بلا فكاهة

25-08-2009

زياد رحباني بلا فكاهة

أعاد زياد رحباني فتح نيرانه، غير الصديقة، على الموسيقيين التونسي أنور براهم، واللبناني ربيع أبو خليل، في حديث جديد إلى التلفزيون السوري، نقلت صحيفة "السفير"، يوم الاثنين الفائت، بعض فرائده التي تخلو من الفكاهة ومن "المازية" على حد عبارة المرحوم ابي عنتر التي راحت مثلاً. من ضمن هذه الفرائد اعتذاره لبراهم لاعتباره اياه يهودياً واصراره في الوقت نفسه على انه شبه متأكد من يهوديته وذلك لأنه سبق له التعاون مع موسيقيين يهود! أي ان العبقري اللبناني الذي بدأ بكتابة "صديقي الله"، يعود ليختم دورته العقائدية برهاب انتقال الديانات بالعدوى في اماكن العمل. ويصر رحباني على مسألة اليهودية هذه على رغم أنه قرأ، بحسب قوله، رد انور براهم "اللطيف" عليه في جريدة "الأخبار"، والذي أكد فيه ولادته لأب وأم مسلمين. لست أحسب ان "أبا الزوز" (زياد)، ملحن الكيرياليسون الشهيرة التي غنتها مادونا اللبنانية لا الأميركية بالطبع (وقانا الله شر بلادها)، على اطلاع كاف على اصول تصديق إسلام المرء، وإلا لربما كان اقترح ان ينطق براهم بالشهادتين في لقطة حية على التلفزيون السوري أو في مؤتمر لأحد الأحزاب العلمانية في دمشق.
على أن هواء جلق، على ما يبدو، ينشّط دماغ نابغتنا الرحباني لا الذبياني بالتأكيد، وإن فاقه فصاحة بنحت "التراسم" من تراث وسياحة، بالافرنجية، فينبري هذا الأخير فيها مرتين لا واحدة، ليس فقط لمواجهة المتهودين من أبناء أمتنا (وربما كان هاجم المتهودين من غيرها، لولا ان ماركس وفرويد واينشتاين وتشومسكي وغيرهم من اتباع اسحق ويعقوب، كما كان ذكّره عباس بيضون في رد سابق العام الفائت)، بل للذود عن حياض الثقافة العربية من مؤامرات الصهاينة المستشرقين. أما تفصيل ذلك فهاكه يا أخا العرب:
لقد عمل انور براهم مع يان جاربريك، الذي عمل مع كيث جاريت، ومع جون سيرمان (أو سورمان Surman) في الثمانينات (تأكيد خاطئ، فالعمل "ثمار" كان في التسعينات من القرن الماضي)، وهذا الأخير موسيقي يهودي متخصص، على قول زياد، في "تجويد القرآن على الساكسوفون"!
الواقع إن جاربريك، وليس سورمان، هو الأوسع تأثراً بموسيقات العالم، ومن ضمنها الموسيقى الدينية الإسلامية، حيث عمل مع انور براهم ومع نصرت فاتح خان، مثلما عمل على الأغاني الغريغورية البيزنطية وسوى ذلك. أما الحديث عن "تجويد القرآن على الساكسوفون" فمن قبيل تقسيم الخيار إلى كوسى، على رأي المرحوم محمد القصبجي هازئاً. فهل يقصد زياد ان احد هذين الموسيقيين الأجنبيين يرافق قرآناً مجوداً بالموسيقى، وهذا ما لم يتبين لنا، ام انه يقلد بالساكسوفون أساليب المقرئين، وليس في هذا حرج وإن كنا لم نعلم به وما أوتينا من العلم إلا قليلاً، أم انه فقط يلمح إلى ضرورة هدر دم براهم لثلاث تهم: اليهودية والصهيونية وتجويد القرآن بالموسيقى وهو حرام شرعاً (أم ان معدّ حفلات فيروز لا يعلم ما هو معلوم من الدين بالضرورة، فنعذر جهله الذي ربما يكلفنا حياة فنان داعم للمقاومة في لبنان، للجهل وسوء النية وجريان الكلام على اللسان بلا ضابط من الهذيان فضلاً عن الافتراء الصريح والإساءة الخسيسة المبطنة)؟!
قارئ ماركس والمعجب أيما اعجاب بستالين، وربما تلقائياً بالرئيس اميل لحود على ما اميل إلى القراءة في مسرحه، قرأ ادوارد سعيد، أو لعله فقط سمع به من أحد أصدقائه الجدد، فبادر إلى الظن ان "الاستشراق" تهمة، على رغم أن معظم تراثنا وواقعنا تستحيل دراستهما من دون جهد المستشرقين، فرمى بها ابا خليل وبراهم لأنهما يقومان بـ" شيء خطر، دور متواطئ ووسخ... أن تقبل عرضاً لأي شركة كي ينتشر شغلك شخصياً بحجة أنك تنشر موسيقى بلدك في العالم. في وقت لا تملك أنت أساساً أن تختار ما يكون في الأسطوانة"، وهذا "الشيء"، الذي جلّ ان يسمّى، ليس إلا "الاستشراق". أي، بحسب فهم زياد الحصيف، تقديم "الموسيقى التي يصنعها الصهاينة في العالم بدلاً من العرب"، على قوله بعد حفلة دمشق العام الماضي، أو "كيف يريدون مسبقاً أن نكون" بحسب قوله، لا فض فوه، قبل بضعة أيام.
لمزيد من فهم ألفية ابن عاصي هذه، ينبغي العودة إلى تفاصيل المقابلة التي نقلها عنه الصحافي حسن م. يوسف العام الماضي:  "إذا ذهبت إلى أوروبا وبحثت في محلات الموسيقى الكبرى عن أسطوانات فيروز ووديع الصافي ، وكلاهما صاحب اسم كبير في لبنان، فلن تجدهما إلا في قسم الإثنيك ـ موسيقى الشعوب ـ (...) لن تجد أعمال فيروز، لكنك ستجد أعمال ربيع أبو خليل وأنور إبراهيم بسهولة أكبر". الحسد الذي ينقط من كلام الرجل الذي يقول، في المقابلة عينها، إنه قابع في بيته والاستمرار في لبنان بات صعباً جداً اقتصادياً بالنسبة إليه، إلى حد ألجأه إلى العمل في المطاعم والحانات الليلية، ليس النقطة السوداء الوحيدة في الموقف الرحباني البالغ الغيرة على صورة الأمة. ذلك ان زياد هو أيضاً من يعود إلى مرجعية "الغرب" لاثبات عظمة أهله. أليس أن "نحنا والقمر جيران" هي من "الأعمال الرحبانية الناجحة التي لا تزال تقدم عندنا وتسمع في الغرب بسهولة"؟!
ثم، نسأل صاحب التصنيفات التي يتراجع عنها، مخطئاً في التصنيف وفي التراجع على حد سواء (راجع مقالنا "كشاش أشباح الأورينتال جاز وأرباع الصوت الدرويشية والرحبانية"، المنشور في "الملحق"، حزيران 2008، حول موضوعي "الكلاسيكية الرحبانية" و"الجاز الشرقي" في فهم الرحباني الابن الذي عاد فتناولهما، طبق الأصل، في حديثه الدمشقي)، أين يود ان يتم تصنيف الصافي وفيروز وصباح وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب في محلات فناك FNAC في فرنسا مثلاً: هل يضعونها مع الموسيقى الكلاسيكية والرومنطيقية والتسلسلية، ام مع "المنوعات الخفيفة" الحديثة، أم مع الجاز ام مع "الوورلد ميوزيك"؟ هل من مجال لوضعها، في اوروبا، خارج اطار "موسيقى الشعوب"، أي المعبّرة عن تراث شعب آخر وحضارته، غير مشتركة في اللهاث للحاق بما تدرجه الولايات المتحدة من راب وسواه؟ أخيراً، ربما ظن المرء (مثلما حسب عباس بيضون) ان صاحب "بنص الجو بيطفي الضو" يحذّرنا من أن أبي خليل وبراهم يشوهان تراثنا، وتالياً صورتنا، إلا انه يطمئننا إلى ان الغرب يود ان نظل تراثيين مئة في المائة، وان تكون صورتنا صحراء وخيمة وجملاً! أي ان تهمة أبي خليل وبراهم، في حسابات كبسات "بالنسبة لبكره شو"، هي تعلقهما بالتراث وتقديمه كما هو حرفياً! وجليّ لكل من يستمع إلى أي من مقطوعات هذين، ان مثل هذه "التهمة" شرف لا يدعيانه ولا يقربانه! لذا فلا داعي لتساؤل عباس بيضون كيف يكون التجديد الابراهيمي - الخليلي وصمة عار وعملاً صهيونياً وسخاً في حين تكون "الترجمات" (بحسب قول زياد) التي قام بها الاخوان رحباني عملاً "كلاسيكياً" لا "يأخذ التراث إلى محل آخر" وهو ما يتابعهما عليه ازياد، على رغم رؤيته أن المحافظة على التراث مؤامرة صهيونية!
في الحوار أيضاً سلسلة أخطاء، أطول وأعلى من سلسلة جبال لبنان الغربية، تنم على ان زياداً ليس في العير ولا في النفير متى تحدث في الموسيقى (فما بالك إن طال الحديث فطال سواها). الرحباني العظيم هذا، يصنف أغنية "مش فارقة معاي" على انها "أشبه بدور قديم"، دلالة جهله بتراث الأدوار، حيث انها لا تعدو كونها "طقطوقة"، إلا أن الكلمة تخيفه ربما. وفيما يرى ان الجاز "خلطة بين جميع الحضارات" (حوار مع ضحى شمس، في صحيفة "السفير"، في 30 ايار 2007)، لذا فهو ينكر امكان تقسيمه انواعا أو انماطا مناطقية، كالجاز اللاتيني، والسوينغ والفيوجين والبيبوب والفري... الخ، فإنه هو عينه الذي ينكر على سواه قيامهم بتجربة انتاج "خلطة بين الحضارات" على مقاسهم، وبحسب مواهبهم. وهو عينه الذي يرى، ضالاً مضلاً، أن شهرة الرحابنة وسيد درويش قامت على غياب الربع صوت في موسيقاهم (الحوار في "السفير"). وهو بلسانه من اكد ان الرحابنة، أهله، قاموا بترجمة أعداد كبيرة من "الأغاني العالمية" (الحوار مع حسن م. يوسف)، معتمداً وصفاً محملاً ايديولجيا اعتبار الشائع والشهير "عالمياً"، وإن لم يتجاوز بضع موازير على ايقاع نشيط، ويؤكد متابعته لنهجهم وتجربتهم. الرحباني الخطير هذا، هو أيضاً الذي يلخص مشروع أهله بأنهم "اختصروا الأغنية الشرقية المطولة وأنتجوا أغنية قصيرة أقرب الى الأغنية الخفيفة التي كانت منتشرة في العالم" (الحوار الدمشقي عينه)، جاهلاً ان شريحة كبيرة من الأغنية الشرقية لم تكن "مطوّلة"، وان انتاج الطقاطيق التي لم تكن تتجاوز الدقائق الست، مسجل منذ العقد الثاني من القرن العشرين، وجاهلاً أيضاً أن مشروع أهله، بحسب قول عاصي (اوردته ابنته ريما في برنامجها التذكاري)، كان ادخال الأغنية التراثية العربية المشرقية إلى مصاف الموسيقى الحديثة العالمة، التي كانت مصر سباقة إلى انتاجها، وهما في سبيل ذلك طعّما الفولكلور المشرقي بجرعات واسعة من المؤثرات الكنسية والاوركسترالية في حسباننا.
كنا نتمنى لو كان في الإمكان دعوة زياد إلى العمل بصمت، على موسيقاه، إلا اننا بتنا في شك من ذلك. فلطالما اشتكى صاحبنا من جهل المنتجين واصرارهم على تسجيل الأغاني، لا الموسيقى البحتة، غير انه كلما توافرت له فرصة اقامة حفل خاص به أو بوالدته، لا يكلف نفسه عناء تقديم جديد فيه سوى اعادة توزيع أعمال قديمة. فلماذا لا يقدم هذه الأعمال التي باتت كالذئب في حكاية الكذّاب؟
ربّ قائل (بشير صفير في صحيفة "الأخبار") إن اعادة التوزيع عمل ابداعي عظيم، وفي هذا السياق ان باخ مدين إلى كازالس بشهرة متواليات التشيلو، على رغم أن كازالس هذا ليس موزعاً اصلاً بل عازف، وإن "إلى عاصي" جوهرة لا يجوز للنقاد الحكم عليها، بل للتاريخ، وانها توازي ان لم تفق أداء غولد لباخ، فضلاً عن مايلز دايفس ومن لف لفّه، غير ان ذلك لا يمنع من القول إن اعادة التوزيع جهد كبير وقد يكون لافتاً تقنياً، إنما التوزيع ليس "البنية التحتية" لعمل ما، في حين إن الميلودي أو الوحدة الاساسية التي قد يتم التنويع عليها ليست "الشكل الخارجي الجميل"، أما أعمال زياد رحباني، بعد "إلى عاصي" و"بما انو"، فلا تعكس سوى نضوب النضارة والجمل المميزة لمخيلة زياد، لصالح نكات سطحية ومتخلفة، والاهتمام المبالغ فيه بادعاء "نظافة" الأداء والعزف والتنفيذ وهي، أي النظافة، تعبير آخر عن ايديولوجيا ازدراء الهيتروفونية التي هي في صلب جماليات المدرسة التراثية العربية.
لسنا ندري إلى أي حد تقلصت موهبة زياد رحباني، ومتى قد يفاجئنا - وهذا ما نتمناه، من دون أن نأمله - بالتماعة موسيقية حقيقة بعد هذا الصوم المديد، غير ان من المؤكد ان ناقد الاستشراق هذا، لم يكتشف بعد نقد احمد بيضون وتساؤلاته حول عمل ادوارد سعيد، ولم يقرأ نقد حازم صاغية لثقافات الخمينية التي بات "ابو الزوز" يستقي من قاموسها مفردات شتائمه وتهمه.

فادي العبد الله

المصدر: النهار

 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...