خورخي بورخيس الكاتب الذي كان بيته خالياً من الكتب

27-10-2006

خورخي بورخيس الكاتب الذي كان بيته خالياً من الكتب

يشير الى ان كل كاتب يترك عملين في حياته: العمل المكتوب والصورة او الانطباع الذي يتركه في الناس عنه، وان هذين العملين الإبداعيين يلاحقان بعضهما بعضا حتى النهاية. والكاتب يستطيع ان يأمل او ان يكتفي بالوصول بعمل واحد منهما على الأقل الى نتيجة مفيدة، أليس كذلك؟! ثم، مبتسما، يتابع قائلا: لكن إذا فعل الكاتب هذا، كم تكون نسبة الاقتناع لديبورخيس ه؟! بهذه الكلمات المقتبسة من خورخي لويس بورخيس انهى البيرتو مانغويل كتابه عن بورخيس.الارجنتيني مانغويل يكتب عن الارجنتيني بورخيس، او مشهور يكتب عن مشهور، الا ان مانغويل يضع شهرته جانبا وبالكاد نشعر بوجوده (او لنقل بأناه) في هذا الكتاب الذي يمكننا اعتباره شهادة حيّة لتجربة متواضعة لكن غنية وحميمة، اي عميقة عاشها المراهق ثم الشاب البيرتو مع العملاق بورخيس. انها قصة حياة، تمتد على فترة زمنية قصيرة ومحدودة، بين كاتب عجوز عرف اكثر في الارجنتين تحت هذا اللقب رجل بوينس ايرس العجوز والأعمى، وبين طالب مراهق عاشر ذلك الكاتب عن كثب.
عندما قابلت قبل ثلاث سنوات مانغويل في حوار طويل، وكان قد قال لي انه كان قارئ بورخيس لفترة من الزمن، قال لي ذلك رافضا التكلم بالاسبانية كما انه يرفض انتماءه لمسقط رأسه. واليوم أراه يرفض مرة اخرى الاسبانية، لينشر كتاباً بالانكليزية، ولكن، على الرغم من رفضه المتكرر لِما يتعلق بالارجنتين (وهو رفض سياسي) اكتشف انه يتكلم بشغف عن الارجنتين، مثله مثل بورخيس واندفع وأنا معهما في هذا الشغف لكي تكتمل الدائرة فتكتب جهتي الارجنتينية الان كلمة عن الارجنتيين. وهل كنت سأفرح، كما فرح مانغويل بتجربته هذه، بلقائه بالكاتب العملاق، لو التقيته أنا ايضا؟ لا اشك في ذلك، خصوصاً لو عرض عليّ ان اكون قارئته وأنا في السادسة عشرة وفي هذا العمر كان مانغويل عندما طلب منه بورخيس ذلك.
مشيت مراراً في الشوارع حيث كان يمشي بورخيس، وزرت نهر تيغري حيث يحب ان يمضي وقت الغروب، فعلت كل هذا على الرغم مما كانت تقوله جدتي عنه: ذلك العجوز المغرم بوالدته.
لم اعرف يوماً ان كان هذا حقيقة ام لا، الا ان ما يقوله مانغويل في كتابه يؤكد لي هذه الشائعة. ليخبرنا مانغويل عن غلطة او زلة لسان ارتكبتها يوما والدة بورخيس في حوار لوثائقي في التلفزيون الفرنسية، ما يجعلنا على يقين، بأنها كانت، اقله، متسلطة في علاقتها مع ابنها الشهير. اذن يقول مانغويل: كنت محظوظا وسعيدا، مدة بضع سنوات، من 1964 الى 1968 بأن اكون من بين اولئك الكثر الذين قرأوا لخورخي لويس بورخيس. ثم يخبرنا كيف كان يبادره بورخيس بالكلام ما ان يصل الى بيته مساء: اذن، هل سنقرأ كيبلينغ الليلة؟. ويقول مانغويل ان هذا السؤال كان فقط مجرد شكليات، اذ لم تكن تلتزم بالضرورة قراءة عن الكاتب المذكور.
يذكر ايضا مانغويل انطباعه بعد زياراته الاولى لبورخيس، ان شقته كانت وكأنها قادمة من خارج الزمن، او بالاحرى، من زمن مصنوع من تجارب بورخيس الأدبية، من زمن تكوّن على ايقاع الحقبتين الفيكتورية والادواردية الانكليزيتين، كما تكوّن من الحقبات الاولى للقرون الوسطى لاوروبا الشمالية، ومن بوينس ايرس العشرينيات والثلاثينيات، ومن العزيزة على قلبه جينيفا، ومن حقبة التعبيرية الالمانية، ومن سنوات حكم بيرون الكريهة، ومن صيفيات مدريد وماجوركا....
ويقول مضيفا (مانغويل)، ان هذه كانت تاريخه وجغرافيته، ونادراً ما كان الحاضر يقيم في حياته. وعندما كان يتكلم عن اماكن غريبة لا يعرفها ولم يرها يوما، ويتكلم عنها بشغف وإجلال، فتلك كانت اماكن قادمة من صفحات قراءاته!
ويعترف مانغويل من جهة اخرى انه لم يدوّن اي شيء مما سمعه من بورخيس، وكان هذا خطأه الفادح، الا انه لم يفعل لأني كنت اشعر في تلك اللقاءات المسائية باكتفاء كبير. وما فأجا مانغويل في بيت بورخيس هو ان البيت خال تقريباً من الكتب، وخصوصا من كتبه هو! وكأن هذا القارئ العظيم حفظ كتب العالم في رأسه. ويقول مانغويل ان بورخيس يتكلم عن عماه على اساس انه موضوع أدبي اولا وآخراً. فيقول انه من حيث الشهرة، وكبرهان على سخرية الله، اعطاه القدر الكتب والليل معاً. ومن حيث التاريخ، علينا ان نتذكر شعراء مكفوفين كباراً امثال هوميروس وميلتون. ومن حيث التطيّر، يمكننا الربط بينه وهو الرئيس الثالث للمكتبة الوطنية، وبين رئيسيها ممن سبقاه وكانا ايضا مكفوفين، هما خوسيه مارمول وبول غروساك. في اي حال، وعلى حد تعبير مانغويل، فقدان بصره دفع بورخيس الى الانعزال طويلاً في حجرة حيث الف اعماله الاخيرة. والتأليف كان يتم عن طريق حفظ صفحات بأكملها، سطراً سطراً، الى ان يجد احداً يملي عليه ما في رأسه.
وعودة الى انطباع مانغويل حول شقته: في شقته، كما في مكتبه، كان يبحث بورخيس عن راحة الروتين. كنت اصل الى بيته، فأقف وراء ستار حيث كانت تتراءى لي كل الغرف مع اثاثها. الى اليمين، ثمة طاولة قاتمة اللون وحولها اربعة كراسي وهذا كان بمثابة غرفة الطعام. الى اليسار، تحت نافذة، ثمة كنبة مريحة تحيط بها ثلاثة مقاعد (فوتوي). كان يجلس بورخيس على الكنبة وكنت أنا اجلس على احد المقاعد، قبالته. كانت عيناه الكفيفتان (تحملان دائما نظرة كئيبة، حتى عندما كان يضحك) تحدّق في نقطة ما في الفراغ بينما يتكلم، في حين كانت عيناي تجولان في الغرفة، متعرفا اكثر فأكثر، ومرة اخرى، على الاشياء التي باتت أليفة لي، واعني بها اشياء حياته اليومية: طاولة صغيرة عليها كوب فضي وكوب مائية كانا لجده، ومكتب صغير يعود تاريخه الى المناولة الاولى لأمه، مكتبتان بيضاوان معلقتان الى الحائط وتحملان الموسوعات الخ. كان يقول ابن اخته عنه، انه قبل ان ينام كان يتلو عاليا، وبالانكليزية، صلاة الأبانا الذي في السماوات.
أما عالمه فكان يتعلق بالكلمة فحسب: ما من موسيقى ولو لون ولا شكل دخل حقا إليه. كان يحب فقط لوحات صديقه خول سولار ولوحات شقيقته نوراه، ودورير وبيرانيزي وبلايك ورمبراندت وتورنر، انما كما يقول مانغويل، كان هذا حباً أدبياً تجاهها وليس صوريا. ونادراً ما تكلم عن فنانين آخرين في الرسم. كذلك كان اصم بالنسبة الى الموسيقى. لكنه كان يحب التانغو، وهذا في اي حال شأنه شأن كل ارجنتيني. وكان، من ناحية اخرى، يحب الذهاب الى السينما، ويسأل دائما مانغويل ان كان يرغب في مرافقته لمشاهدة هذا الفيلم او ذلك! وحسب مانغويل، كان يدعي بأنه يرى كل ما يجري على الشاشة ويصفه له! يقول مانغويل: على الارجح لان احدا ما قد يكون اخبره مسبقا عن كل تفاصيل مشاهد الفيلم!.
كان يحب ان يتدرج في شوارع بوينس ايرس، كما كان يفعل الفليسوف كانط في كونيغسبرغ، حيث اصبح تقريباً جزءاً لا يتجزأ من مشهد المدينة.
وكما سبق وذكرت اعلاه، يقول مانغويل ان من يعرف اهتمام بورخيس بالكتب ومن سمعه يقول او يسمي العالم او الكون مكتبة، ومن باح له انه يتصوّر الجنة تحت شكل مكتبة، لا يسعه سوى ان يصاب بالخيبة عندما يرى مكتبته الخاصة. فالزائر يتخيّل بيته غارقاً تحت آلاف الكتب المكدسة في كل زاوية وعلى كل طاولة ومقعد وصولا الى المدخل لتسد الباب. الا ان عكس ذلك هو الصحيح وكتب قليلة جداً تزيّن بعض الرفوف. من جهة اخرى، كان يقول بورخيس: اتصرف وكأني غير اعمى فأتعطش الى الكتب كرجل يستطيع ان يرى. اني متعطش الى موسوعات جديدة.
كان يعتبر بورخيس نفسه قبل كل شيء قارئاً، ويقول انه عكس كليبلينغ الذي كانت مكتبته تحتوي بشكل اساسي وفقط على كتب علمية وليس على روايات وعلى كتب في تاريخ آسيا وفي الرحلة وما شابه. ويعزو بورخيس ذلك الى ان كيبلينغ لم يكن بحاجة الى اعمال روائيين وشعراء اخرين اذ اعماله هو تكفيه، بينما كان بورخيس بحاجة دائمة الى كتب الاخرين حوله. بالنسبة الى بورخيس، قلب الواقع او اوجه، يكمن في الكتب: اي، قراءة الكتب وتأليف الكتب والتكلم عن الكتب. لكنه من جهة اخرى اعترف انه لا يستسلم للكسل والروتين في قراءاته، فهو يقرأ احيانا كثيرة بشكل منقطع وفوضوي ويكتفي مثلا بقراءة خلاصة رواية بوليسية (كان يحب هذا النوع الأدبي)، او بقراءة المقالات في الموسوعات. كذلك اعترف بأنه لم يكمل يوماً قراءة فينيغانز وايك، وعلى الرغم من ذلك، حاضر بإسهاب حول البناء اللغوي الهائل لجويس! ولكن هذا التعاطي المجاني والمنفتح مع الأدب، كما يقول مانغويل، هو الذي جعله موجوداً، في المقابل، في هذا الكمّ الهائل من الاعمال المختلفة في العالم والعنصر الوحيد الجامع في ما بينها هو وجوده: فهو مذكور في اعمال عالمية كثيرة. من فوكو الى شتايز الى غودار واومبرتو ايكو وصولا الى القارئ العادي، جميعنا ورثنا ذاكرة أدب بورخيس الواسع، حسب تعبير مانغويل. وفي الكلام على الذاكرة، يقول مانغويل في هذا الصدد: انه يتذكر كل شيء. لم يكن يحتاج الى نسخ من الكتب التي ألّفها: على الرغم من انه كان يردد ان هذه الكتب اضحت في طي النسيان، كان بإمكانه ان يتلو وان يصحح وان يغيّر في ذاكرته كل ما كتبه، الامر الذي كان يدهش ويعجب مستمعيه. اذن وعودة الى الكلام عن تأثير بورخيس في الكتّاب والقراء عبر العالم، يجدر ايضا ذكر الكتّاب في اللغة الاسبانية في القرن العشرين الذين يدينون له بالكثير، من غابرييل غارسيا ماركيز الى خوليو كورتاثار، من كارلوس فوينتس الى غيرهم من الاصوات العالمية المعروفة.
احب بورخيس القديس اغوستينوس واستعماله الاستعارة في الرموز المسيحية. كان يقول انه على الرغم من ان اغوستينوس انقذنا، من خلال تفسيره لصليب المسيح، من دائرية متاهة الرواقيين، كان يفضل دائرية المتاهة. لكنه هنا يناقض نفسه، اذ في مكان آخر من كتاب مانغويل نكتشف ان بورخيس كان يخاف من أمرين، هما المرآة والمتاهة. ويخبر في هذا الصدد هكتور بيانكيوتي ان بورخيس وهو على فراش الموت، طلب من مارغوريت يورسونار التي زارته في جنيف، ان تبحث عن البيت حيث امضى طفولته في سويسرا وان تصفه له. فعادت إليه ووصفت له كل التفاصيل لكنها تجنبت ان تخبره بأن كان ثمة مرآة في المدخل! عندما كان يتكلم بورخيس عن الكتّاب الذين يعرفهم، لم يكن يذكرهم على اساس انهم اصدقاء بل على اساس انه قارئهم.
أما عن مناهج الجامعة، فكان ينتقد ويشكو، لأننا في الجامعات لا ندرس الأدب. اننا ندرس تاريخ الأدب. ويقول مانغويل ان بورخيس، ورغما عنه، غيّر الى الأبد مفهوم الأدب، وبالتالي مفهوم تاريخ الأدب، مضيفاً، ان المدهش الذي اتى به بورخيس من خلال استعماله الصفات والنعوت ليس بسبب جديدها انما بسبب دقتها. والنوع الأدبي المفضل لدى بورخيس، هو النوع الملحمي، كما ذلك في النثر السردي القروسطي في الأدب الانكلوساكسوني، وفي هوميروس، وفي افلام الغانغستير والوسترن الهوليوودية، وعند ملفيل، حيث يجد بورخيس عنصراً جامعاً بينها، ألا وهو تيمات الشجاعة والقتال. كان يقول ان التيمة الملحمية جوع بشري اساسي كالفرح او المأساة. ويقول مانغويل عنه: الشعر الملحمي كان يجعله يدمع. اما عن القصة البوليسية فكان يقول انها اقرب الى المفهوم الارستوتيلي في الأدب اكثر من اي نوع ادبي آخر، وقال هذا ومانغويل يقرأ له رواية لشرلوك هولمز. كان كذلك يبكي عند مشاهدته افلام الوسترن او امام اي مقطع او مشهد وطني، اذا كان يصرخ متحمساً: يا الهي، هذا وطني!. لكن من ناحية اخرى، كما يلاحظ مانغويل، يمكنه ان يكون ايضا شرساً ولاذعاً مع الكتّاب او الصحافيين. كان ايضا عنصريا ضد العرق الاسود حسب ما جاء في كتاب مانغويل، وأنا لا استغرب ذلك. لكن لو لم يكن اسمه بورخيس لكان نعته العالم بالرجعي.
انما بعيداً عن هذه المفاهيم، نكتشف لدى بورخيس، ومع مانغويل، منحى او ميلاً للمفارقة الطريفة، اذ يقول مرة لإبن اخته وكان الاخير في السادسة من العمر: اذا كنت لطيفا وهادئا، سأسمح لك بأن تفكر بدبّ!
في نهاية الكتاب، يقول مانغويل ان آخر مرة قرأ له سنة .1968 في تلك الليلة، وقع خيار بورخيس على هنري جايمس. وآخر مرة رآه كان في باريس، سنة ,1985 في فندق لوتيل. غالبا ما كان بورخيس يردد انه لا يريد ان يموت في لغة لا يفهمها. وبالفعل، مات في بلد كان يفهم لغته، في جينيف.
وهذا العملاق الذي خلّف وراءه عملاً عملاقاً لا يفنى، كان يكره الأبدية او يخاف منها او لا يفهمها، إذ قال مرة: من يتوق الى ان يكون ازلياً لا بد انه مجنون.

صباح خراط زوين

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...