حنا مينه: دمشق عاصمة العواصم ثقافة وتاريخاً

15-08-2011

حنا مينه: دمشق عاصمة العواصم ثقافة وتاريخاً

كلنا خطاّؤون وأنا في المقدمة, وحتى عندما رُددتُ إلى أرذل العمر, لم يتب الله علي من الخطأ, لكنني أنا المعجوق بلوثة الجنون, كما قلت بحق كنت, ولا أزال قابلاً للتعقل من حين إلى حين, ولوعي الأمور من حولي, من حين إلى حين أيضاً, وفي مدّعى التوق إلى امتلاك الجرأة على قول الحقيقة, أياسر إلى الموضوعية في قولها نسبية لامطلقة, فقد «بشمنا وما تفنى العناقيد» من كذبة امتلاك الحقيقة مطلقة, وهنا وقعنا, كيساريين, في وادي الجماجم, حتى لنتساءل بصدق: هل بقيت لنا جمجمة؟ وما نفع جمجمة تجهل ان الحرية أثمن من الخبز, وأن المجال متاح للجهر بهذه الندهة علناً لا سراً!

لست مازدشياً ألحس دمي على المبرد ولا أتحلى بالسياط جلداً على جسد وهن لحماً وعظماً بعد الرابعة والثمانين سماناً وعجافاً, من عمر صبرت وصابرت على الشقاء فيه, أملاً خادعاً في أن يأتي الفرح بعد الهم, والإشراق بعد الجهم, فانتهيت إلى قناعة أن فرحنا في هذا الشرق بعامة, وفي وطننا العربي الكبير بخاصة, قصير جداً, وحزننا طويل جداً, إلا أننا, أو أنني, ‏

ما عشت من بعد الأحبة سلوة ‏

ولكنني للنائبات حمول ‏

كفى! انتهى البكاء على الاطلال «ياواقفاً على طلل درس ما ضره لوكان جلس!» وليس من عاداتنا, أو شيمنا, أن نبكي أطلال ماضينا, فقد صار وراءنا, والصبوة, فينا, أن نرز أبصارنا إلى ما هو أمامنا, بعد أن حفظنا الأمثولة القائلة: «لا فائدة من تذكر الأشياء السيئة غير أن الماضي فيه عبر تنفع المستقبل, في الكفاح بحراً وبراً, قيلة محمد بن زهدي الطروسي, بطل «الشراع والعاصفة» والماضي, وحتى في الحب, علمنا دهراً فدهراً, الكثير, وهذا الدهر «علمني في حبك عبر» كما تقول فيروز مع أن الحب مرض لذيذ لذيذ, محروم منه داعيكم مع الأسف فهنيئاً لمن عرفه, تذوقه, تمرّس فيه وهو فتى» وأقل هناءه لمن شفي منه بسرعة, بسبب من الطمأنينة وأخواتها!
 


أعود إلى الأطلال التي أحببناها في قصيد إبراهيم ناجي, وبصوت كوكب الشرق أم كلثوم, مع أن الحب ههنا, «كان صرحاً من خيال فهوى» بينما نحن, في حب دمشق «عاصمة العواصم» على ثبات نسوق الريح أمامنا, ثم لا نبالي بالضغوط علينا, من يمين أو شمال, ثم نحن, في حب دمشق, لسنا على قلق, فعز الشرق أوله دمشق, وقد قرأنا حبها في قلوبنا والكتب, نتذكرها «العشرون ثورتها» ونفخر بها, مرضعة الأبوة هذه التي لا تعق, وحتى لو عقت, من ههنا أو ههنا فإنها تمضي سفينة تشق العواصف والظلماء سائرة باسم الله مجراها مرساها وتعتادنا ذكرى الجلاء، وسورية الأولى فيه بين الدول العربية كلها ونطرب وفي دمشق يطرب حتى الحجر منشدين مع شاعرنا البدوي الكبير جلونا الفاتحين فلو غدوا نرى للفاتحين ولا رواحا والزغاريد فقد جن الإباء من نعميات الله هذه الكبرياء. ‏

أما كاتب هذه السطور الذي قال في سالف العصر والأوان عشت في دمشق خمسين عاماً ولم أكتب عنها خمسين كلمة فإن كلماته الخمسين عدداً لا تقل في صياغتها عن الخمسين نشيداً ولمن نسي أو أنسي أذكره بنثرية هل تعرف دمشق يا سيدي ففيها من الأنق والتوشية الزخرفية، وعبق «الدور والطرق» وشناشيل ابنة الشلبي للشاعر العراقي المرحوم السياب، ما يجعل من لا يعرف دمشق يقول: نعم! لقد عرفتها ‏

هذا على قلته أو خفة زنته، لا يبرر تقصيري، ولا يبرر كذلك أحد أخطائي فقد قلت في مقالة نشرتها تشرين إن المجتمع الدمشقي مجتمع كتيم، فاتصل بي الصديق الكريم نقيب المحامين السابق الدكتور مظهر الشوربجي قائلاً، على عتب لطيف هذا الذي قلته فيه خطأ فالمجتمع الدمشقي غير كتيم لأن انفتاحه ورحابته وكرم أبنائه وذراعيه المرحبين بكل قادم إليه خير شاهد على ما أقول وفعلاً لا قولاً كان هناك خطأ مني أعتذر عنه، ولو بعد مرور وقت غير قصير على هذا الخطأ! ‏

فإذا عدت إلى دمشق، عاصمة للثقافة فإن بعض القول أبلغه وكما قالت العرب ولست الآن في وارد أية بلاغة من أي نوع والسبب في أنني لم أكتب عن عاصمة العواصم الثقافية دمشق هو المرض، السفر، السبق في الكتابة، عن هذه المدينة التي أعطيتها ثلاثة أرباع عمري من قبل كتاب زملاء مبدعين، أوفوا الموضوع حقه حتى لم يبق لي ما أضيف ‏

إن الذين غدوا بلبك غادروا ‏

وشلاً بعينك ما يزال معينا! ‏

غيضن من عبراتهن وقلن ‏

لي، ماذا لقيت من الهوى ولقينا؟ ‏

إنما، في هذا الهوى عذرياً كان أم غيره فإن الشعر الذي قيل فيه كفى ووفى إلا أنه في هوى دمشق مسألة فيها نظر ورغم إنني راغب عن تكرار نفسي فقد سبق لي أن أعلنت من على منابرنا وغيرها، أن سورية منجم إبداع قديماً وحديثاً ولأن هذه المقالة في جنف عن ذكر أسماء شعراء وفلاسفة كبار، من نبت أرض الشام، لهم فتوحات تعدت تخوم العرب إلى العالم فتوحات حارت الدنيا بروعتها أسكرة هي في النيران أم شبق؟ ‏

فإن علي، أن أثبت، تأكيداً على تأكيد، أننا جميعاً مدينون لدمشق التي ألهمتنا، كما ألهمت أسلافنا من قبل، أن نكون في العطاء الإبداعي، على كفاء وما أبدع العالم من حولنا، في كل الأجناس الأدبية شعراً ونثراً، وأن يكون لنا حضور ثقافي هذا العالم كما لهذا العالم حضور ثقافي عندنا، وهذا في حدود رأيي غير قليل ومردّه عمقاً ورحباً عائد إلى أننا في الجذور من دمشق و في الشموخ من أصلابها وحق لنا كما حق علينا أن نفاخر بقاسيوننا و غوطتنا وبردانا وأن نعترف سابقاً ولاحقاً وخصوصاً لا حقاً بما كان للثقافة من رعاية كريمة من قبل رئيسنا الدكتور بشار الأسد صاحب المبادرة الفريدة والنادرة معاً في تقليد المبدعين السوريين والعرب وسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة ومعها مبلغ غير قليل، وفي إقامة معرض دمشق الدولي للكتاب ذي الشهرة العربية والعالمية وفي إصدار الكتب مؤلفة ومترجمة في طبقات متلاحقة متواصلة ينتظرها ويتشوق إليها القراء والمثقفون العرب طالبين المزيد حتى قال الكاتب الكبير المرحوم رجاء النقاش في مقالة له يمدح فيها إصداراتنا هذا البيت المشهور: ‏

ولم أرَ في عيوب الناس ‏

عيباً كنقص القادرين على التمام ‏

فكتبت إليه، وقلت له شفاهاً: ما نفعله يا صديقي في حقل إصدار كتبنا يفوق الطاقة المادية المخصصة لذلك ومع هذا فإننا سنسعى إلى المزيد وهو ما نفعله ونتابعه « وليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سيرى» وهذا السعي ما زال طموحنا، لولا واجبات لابدّ من القيام بها، بدءاً من تأمين العيش الكريم لشعبنا، وتالياً من تأمين يدرأ الأخطار المحدقة بنا في زمن تترنح فيه الدنيا من وطأة الأزمة المالية الخانقة.

حنا مينه

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...