حب ناعم كالحرير

19-07-2006

حب ناعم كالحرير

ينجز الروائي الإيطالي اليساندرو باريكو عبر روايته «حرير»، (دار المدى، ترجمة فواز طرابلسي) نصاً ناعماً كاسم الرواية. حكاية حب خاصة تعود إلى القرن التاسع ع شر، يصوغها باريكو في قالب قصصي سلس، خفيف الوزن، يترك أثراً لطيفاً في النفس. يمكن قراءتها في جلسة واحدة لصغر حجمها أولاً (140 صفحة)، ولأسلوبها الرقيق كرقة الحرير ثانياً.

بطل الرواية هيرفي جونكور يعمل في مهنة غير مألوفة. يشتري ويبيع بيض دود القز الذي ينتج الحرير. «إنه العام 1861. كان فلوبير يؤلف «سالامبو»، والكهرباء لا تزال فرضية من الفرضيات، وعبر المحيط، كان ابراهام لنكولن يخوض حرباً لن يشاهد نهايتها». جونكور البالغ من العمر، آنذاك، 32 عاماً يسكن بلدة لافيلديو في الجنوب الفرنسي مع زوجته هيلين، امرأة ممشوقة القوام، تتهادى في مشيتها، لها شعر طويل منسدل دوماً على كتفيها، وصوت غاية في الجمال».

وعلى رغم أن والد جونكور توسم فيه ضابطاً في الجيش الفرنسي، لكن القدر قاده إلى مهنة مناقضة، تماماً، «ذات طابع ساحر، ونكهة أنثوية غامضة»، وهو أتقن أسرار المهنة الطارئة، فكان يتفادى الآفات التي كانت تفتك بمراكز تفقيس البيض الأوروبية عبر السفر بعيداً إلى سورية ومصر للتزود بالبيوض السليمة. لكن آفة «الببرين» التي فتكت بالبيض الأوروبي امتدت إلى أفريقيا كذلك، بل وصلت الهند، وكان لا بد من حل بديل.

هنا تظهر براعة بالدبيو، الرجل الذكي، الغريب الأطوار، الذي يعمل كذلك في المهنة. يقول لجونكور: «إذا أردنا البقاء على قيد الحياة. يجب أن نذهب إلى هناك. إلى اليابان»، وإذ يستفسر جونكور عن موقع هذا البلد الغريب، يرفع بالدبيو طرف عصاه، مشيراً إلى ما وراء سطح كنيسة البلدة: «من هناك وتواصل سيرك... إلى نهاية العالم». اليابان أرخبيل من الجزر عاشت مئتي سنة مقطوعة عن سائر المعمورة. تنتج أفخر أنواع الحرير في العالم. خابت جميع المحاولات لخرق تلك العزلة اليابانية. فكر بالدبيو: «إن جزيرة لم ينجح أحد في أن يطأها طوال مئتي سنة على الأقل، هي جزيرة لن يصل إليها أي مرض». وهكذا ينطلق جونكور من بلدته نحو اليابان مجتازاً أوروبا والسهوب الروسية وجبال الأورال وصولاً إلى سيبيريا فالصين ومن ثم اليابان. بعد مصاعب وعقبات كثيرة يلتقي بالزعيم المحلي هارا كاي الذي وجده جونكور في غرفة، «متربعاً على الأرضية في زاويتها القصوى، يرتدي عباءة داكنة اللون، ولم يكن يتزين بأي مجوهرات. العلامة الوحيدة على سلطته، امرأة مستلقية إلى جانبه بلا حراك، رأسها في حضنه، عيناها مغمضتان، وذراعاها مخبأتان في ثنايا ثوب أحمر فضفاض منتشر حولها مثل شعلة نار على بساط رمادي اللون. وكان هارا كاي يمرر أصابعه في شعرها كأنه يداعب قطة ثمينة نائمة».

يسرد جونكور قصته، بصدق، للرجل الأكثر مراوغة في اليابان، وما يلفت نظره، أثناء الحديث، أن عيني تلك الفتاة لا تحملان التقطيبة الآسيوية، وإنهما مصوبتان عليه بتركيز مربك، كأنها كانت تحدق فيه منذ البداية حتى من تحت جفنيها المغمضين». يحصل جونكور على مبتغاه. يحقق المعجزة، ويعود إلى بلدته حاملاً لتجار الحرير البويضات السليمة، لكن تلك النظرة الصامتة، تشعل قلبه بلهيب لن ينطفئ أبداً.

تتكرر رحلاته إلى الجزيرة النائية، وتتكدس الثروات لديه، ولدى أقرانه في المهنة. يسأله بالدبيو: كيف هي نهاية العالم؟ يرد: «غير مرئية». وهو جواب ينطبق أكثر على الحب الذي عصف بفؤاده. حب أشبه بملمس الحرير، فإن أنت لمسته تخال نفسك تقبض على لا شيء. تندلع الحرب في اليابان، ويظل جونكور مصراً، على رغم التحذيرات، على رحلاته، فهو الآن يبحث عن المرأة - الطيف، لا عن الحرير. وحين يستفسر منه بالدبيو عن سر تعلقه بذاك البلد البعيد، وإقدامه على مغامرة الوصول إليه، يعترف له بحبه الغامض هذا، مختصراً الحكاية بعدة كلمات تختزل حيرته، واستسلامه لغواية فاتنة وقاتلة في آن: «لم أسمع حتى صوتها. إنه نوع غريب من الألم أن تموت حنيناً إلى شيء لن تختبره قط». تشعر زوجته بهذا المزاج الجديد، مزاج الحب، الذي بدأ يطغى على زوجها، فتصنع له الأمل إذ ترسل له رسالة باليابانية من تلك المرأة البعيدة التي يعشقها زوجها، «فأغلى ما تمنته من هذه الدنيا هي أن تكون تلك المرأة»، وعندما ترحل الزوجة المخلصة يكتشف الزوج والعاشق في آن، أن زوجته هي التي أرسلت له هذه الرسالة، عبر الاستعانة بمدام بلانش التي تتقن اليابانية وتعيش في بلدة قريبة من لافيلديو. وهذا الاكتشاف يعيد إليه بعض التوازن، إذ «أمضى السنوات التالية من حياته ملتزماً بنمط شفاف لرجل غني يقضي نهاراته وفق نظام من المشاعر المحسوبة. كان يشع منه الهدوء الذي لا يقهر لرجل متصالح مع نفسه». وصار يروي، على غير العادة، حكاياته ببطء لزواره فيكتشفون معنى الدهشة، بينما هو يرنو إلى السماء، ويرى فيها أشياء لا يراها أحد سواه. «المشهد الملغز لحياته كما عاشها بكامل خفتها».

يتبع باريكو في سرد هذه الحكاية أسلوباً محبباً، ورشيقاً يتوافق مع عذوبة المشاعر التي تنتاب البطل المغامر، ويتناسب مع الفضاء الروائي الذي يرسمه. حوارات مقتضبة تأتي على شكل ومضات خاطفة، أو عبارات سريعة موحية، ووصف دقيق، متقشف ولمّاح. إشارات عابرة إلى حوادث تاريخية وقعت في ذلك الزمن البعيد. لا شيء يقال سدى في رواية تقتفي آثار حب موهوم تمتد من الجنوب الفرنسي إلى الأرخبيل الياباني البعيد. ولا يثقل باريكو روايته بالخوض في الفوارق العرقية، والثقافية، والأخلاقية بين الجنوب الفرنسي وذلك الأرخبيل البعيد، بل هو يخفف روايته من كل ما يعكر صفوها، فيختار من المسرحين ما يعينه على نحت تمثال للحب بالمفردات. إنه يروي قصة حب لا تشبه في شيء قصص الحب المعروفة، الخالدة في تراث الشعوب. لا يمكن مقارنتها بروميو وجولييت، على سبيل المثال. نحن هنا إزاء حب يتأجج عبر المسافات، يضيء القلوب فحسب، ولا شيء ملموساً يبرهن عليه في أرض الواقع.

وربما تنبع فرادة «حرير» من كونها تتحدث عن الحب لا في شكله التقليدي، بل تغوص إلى أعماق النفس التي تختبر الحب من خلال نظرة متخيلة، أو ضوء صغير هارب يشع في ركن قصي، أو صوت يتهادى عبر الدروب. وفي كل هذه الحالات يراقب باريكو بطله بعناية تامة، فهو لا يظهره كأبله يطارد السراب، بل يقدمه كعاشق وقور كشف أسرار الحب، فغرق فيه، وراح يمني القــلب بوصال لن يتحقق أبداً.


 ابراهيم حاج عبدي 

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...