المسائل الدينية والنفسية والاجتماعية مشتركة بين سائر البشر

07-04-2009

المسائل الدينية والنفسية والاجتماعية مشتركة بين سائر البشر

لا شك في أن الباحثين في مجال الأسطورة حاولوا ربط العديد من الشخوص الدينية بأساطير الشرق ‏‏"السومرية والمصرية القديمة"، فالأشخاص الدينية التي أتت بها الكتب السماوية متشابهة في التسمية وفي ‏الأفعال.

غير أن الديانات القديمة تختلف شخوصها في التسميات، لكن أفعالها متقاربة مع شخوص الكتب ‏السماوية، وهذا ما حاول القرآن الكريم توضيحه حيث جاءت الديانة الإسلامية للناس كافة، وجاء دستورها ‏‏"القرآن" بمثابة الاسترجاع النقدي لكل الديانات الإنسانية، فكان مغربلا للتوراة والإنجيل والميراث الروحي ‏البشري، ومهيمنا عليه، فكأنه خلاصة للديانات التي سبقته.

"وعلى صعيد التفاعل مع الديانات كافة فإن القرآن ‏يشكل "مرجعية معصومة" للذكر كله، فهو وريث الموروث الروحي من عهد آدم إلى آخر الأنبياء ‏والمرسلين، فقد استرجع القرآن كافة هذا الموروث الروحي للبشرية بمنطق التصديق ثم عالجه وأعاد قراءته ‏بمنطق الهيمنة""22".‏

لذلك لا نستطيع أن نقول إن القرآن متأثر، بالأساطير كما أننا لا نستطيع أن نقول إن التوراة أساطير. من هذا ‏المنطق لا يسعنا إلا التصديق بقصة يوسف "*" كونها ذكرت في كتابين مقدسين وفي سياقين مختلفين، ‏وبالمعنى نفسه، وكما أن الأساطير حقائق عند معتقديها فإن قصة يوسف حقيقة عند المعتقدين بالتوراة وحقيقة ‏عند المعتقدين بالقرآن.‏

يتكرر نمط زوجة الأب الشهوانية في الميثولوجيا الإغريقية في أسطورة فيربيوس أي أسطورة "هيبوليتوس ‏وفيدرا" "تذهب القصة إلى أن فيربيوس كان هو البطل الإغريقي هيبوليتوس العفيف الجميل الذي تعلم فن ‏الصيد "...".

وكان يمضي أيامه في الأحراش الخضراء يطارد الوحش، ولم يكن يصحبه في هذه الرحلات ‏سوى الصيادة العذراء أرتميس وهي المقابل لديانا وقد بلغ من اعتزاز هيبوليتوس بصحبتها الإلهية أن ترفّع ‏على حب النساء مما جلب عليه المصائب، فقد آلم ذلك التعفف أفروديت فأهاجت حبه في قلب فيدرا زوجة ‏أبيه.

فلما ازدرى مراودتها الخبيثة عن نفسه اتهمته ظلما أمام أبيه ثيسيوس الذي صدق التهمة وابتهل إلى ‏مولاه بوسيدون أن يثأر لـه من أجل هذا الجرم المزعوم، وترتب على ذلك أنه بينما كان هيبوليتوس يقود ‏عربته الحربية بجانب شاطئ الخليج الساروني.

أرسل عليه إله البحر "بوسيدون" ثورا هائجا طلع من بين ‏الأمواج فهاجت الخيل وركضت بعنف من الخوف والفزع وألقت هيبوليتوس من فوق العربة وداسته بأقدامها ‏حتى مات ودفع الحب ديانا إلى أن تقنع المطبب أسكلابيوس بأن يستخدم علمه وفنه ليرد الحياة إلى الصياد ‏فأرسل المطبب نفسه إلى عالم الموتى جزاء له على تجازوه حدوده وتدخله في غير شؤونه ولكن ديانا أفلحت ‏في أن تخفي محبوبها هيبوليتوس عن الإله الناقم داخل غمامة كثيفة بعد أن غيرت ملامحه بأن أضافت إلى ‏عمره بعض السنين ثم حملته بعيدا إلى وديان نيمي حيث تركته في حمى الحورية إيجيريا ورعايتها وهناك ‏عاش في أعماق الغابة الإيطالية مجهولا وحيدا متخفيا تحت اسم فيربيوس.

وقد حكم فيربيوس هناك كملك ‏‏"..." وقد عبد الناس فيربيوس كإله ليس في نيمي وحدها بل في كثير من الأماكن الأخرى أيضا" "23" يتشابه ‏هيبوليتوس مع يوسف في العفة والجمال وعدم الخضوع للمراودة وعند تحوله بعد الموت والبعث أصبح ملكا.‏

ورد موضوع زوجة الأب الشهوانية التي تتهم ابن زوجها في الهند في الحكايات البوذية المسماة جاكاتا، ‏وترجع إلى حوالي القرن الثالث قبل الميلاد ومنها وصلت إلى الفرس لتدرج في كتاب السندباد "24".

ولعل هذا ‏التشابه يعود إلى تكرار الأنماط وليس بالضرورة مقارنة هذه المواضيع للبحث عن الموضوع الأصلي ولكن ‏المحاور تتكرر وتتنامى، كلما اجتازت جغرافية جديدة، فتحدث استبدالات في نظم الأساطير، لكنه لا يكون ‏استبدالا كليا، وإنما جزئيا، من أجل أن تظل الملامح القومية عند إجراء الاستفادة أو الاستبدال، لأنه كما يرى ‏ليفي ستروس نستطيع ملاحقة حركة أي أسطورة من الأساطير اعتمادا على البنى الداخلية وليس على ‏الإطارات الشكلية والخارجية "25".

ولذلك نجد تماثلا بين شخصية يوسف وأدونيس وهيبوليتوس... إلخ في ‏بعض الأطر الشكلية واختلافا في البنية الداخلية مما يشكل التميز، لذلك نستطيع أن ننتقل بحرية إلى حافز من ‏أهم الحوافز وهو:‏

حافز الإخوة الأعداء: لئن جددت قصة يوسف حافز الإخوة الأعداء فإن هذا الموضوع قديم قدم البشرية ‏نفسها، وقد ظل موضوعا للقصص في سائر الأساطير لدى مختلف الشعوب والثقافات، وصياغة المشابهة ‏متمركزة على اغتيال الأخ أو تقديمه قربانا.‏

يروي العهد القديم القصة الشهيرة لقابيل وهابيل "*"، كما يروي القرآن قصة ابني آدم ولعل هذه الجريمة ‏الاجتماعية الأولى، الواردة في التوراة لا تصور فقط موضوع صراع قديم بين المزارعين والرعاة، أي بين ‏أجداد التكنولوجيا والثقافة "إذا تذكرنا أن اسم قابين يعني الحداد باللغة العبرية وهو يبدو جدّ الكثير من أبطال ‏الثقافة التوراتية من جهة ،وبين أولئك الذين يعيشون حياة البداوة من جهة أخرى "26".‏

ولعل انتصار يوسف على إخوته له ما يبرره في انتصار المزارع على الراعي، فيوسف تحول من راع إلى ‏فقيه لفنون الزراعة وقد انتصر على إخوته الذين يمثلون الرعاة وحياة البداوة، ولعل أقدم أسطورة تمثل هذه ‏الفكرة هي أسطورة "أيميش وأينتين" "27"، وهي الأسطورة السومرية الأكثر شبها بقصة قابيل وهابيل شكلا ‏وجزءا ومضمونا؛ لأن نهاية الأسطورة تشبه نهاية قصة يوسف التي انتهت بالمصالحة بين الإخوة.‏

تمثل هذه الأسطورة المعركة بين "أيميش" الراعي "وأنتين" المزارع حيث يقوم الأول بتكثير المواشي وإنتاج ‏الحليب والسمن وما إليها بينما يقوم الثاني بنشر المزارع على الأرض وتنمية الحبوب ورعاية الأشجار، ‏ولكنهما يتخاصمان ويدخلان في مشادّات ومناظرات عديدة تنتهي بتحدي الراعي للمزارع، ثم يحكّمان إنليل ‏الذي يعلن صراحة أنه يفضل المزارع:‏

لقد أجرى أنتين ماء الحياة في كل بقاع الأرض‏
وأنتج للآلهة كل شيء إنه مزارع الآلهة‏
فيا أيميش يا بني كيف تقارن نفسك بأنتين أخيك‏
هذه كانت كلمات إنليل المقدسة العميقة المعبرة‏
فانحنى إيميش وركع أنتين‏
فيتعايش الأخوان معا ويتعاونان وينتهي النص بمديح للأب إنليل:‏
أي أنليل أيها الأب نسبح بحمدك "28"‏

تمثل هذه الأسطورة المعركة بين الشتاء والصيف، وهي أول مناظرة سومرية يحدد فيها الإله إنليل وظيفة ‏الشتاء بولادة الغنم والماعز والعجول وتكثير الألبان وتنمية الغلال والخضر في الحقول وأما الصيف فأوكل ‏إليه أن يملأ المزارع بالغلال ويكدس البيادر والمخازن، ولكن المفاخرة بينهما في تقديم الهدايا أدت إلى ‏التحاسد، الأمر الذي جعل الإله إنليل يحكم للشتاء. ويتقبل المتناظران حكمه ويتصالحان ويتصافيان ويخضع ‏الصيف للشتاء "29".‏

تتفق الأساطير العراقية على فكرة سيادة الفلاح على الراعي، لكنها تستعيد الصراع الدموي حول الظواهر ‏والوظائف التي لها علاقة بنظام الخصوصية الذي يعد الإطار الحيوي لتنظيم الحياة وتطويرها واستحداث ما ‏هو جديد من أجل الاستقرار "30".‏

ولا شك في أن تحول يوسف من راع إلى عارف بفنون الزراعة يحيل مباشرة إلى هذه الفكرة فكأن الله بعثه ‏ليعلم قومه وأهل مصر فنون الزراعة والتحكم في المجاعة من خلال النظام الاقتصادي المحكم الذي طبقه ‏عندما أوكلت إليه خزائن الأرض، ولعل المراحل التي مر ّبها يوسف ابتداء من تجربة البئر ثم السجن ثم ‏العلو هي نفسها المراحل التي تمر بها النبتة "وفي الأساطير الأخرى تبقى أطروحة الأخ العدو جزءا من ‏المخزون الأصيل.

ففي الميثولوجيا المصرية يقدم سيث الغيور على قتل أخيه أوزريس إذ يقوم بوضعه في ‏صندوق يلقي به في مياه النيل""31".‏

ولعل أقرب هذه الأنماط جميعا شبها بقصة يوسف أسطورة "أنكمود" و"دموزي" التي تظهر فيها المرأة / الإلهة ‏‏"إنانا" وسيطا فعالا في نمو الأحداث: يتقدم الشاب "دموزي" الراعي و"أنكمدو" المزارع لخطبة الإلهة "إنانا" ‏التي كانت تفضل الفلاح لكن الإله "أوتو" أخ "إنانا" يحثها على الزواج من الراعي وبعد عملية إقناع.

تتزوج ‏‏"إنانا" بدموزي الراعي، وتغيّر رأيها يعود إلى طبيعتها الرومانسية الطاغية التي تشكلت لديها لحظة معاينتها ‏دموزي الشاب الجميل الوسيم المرتدي لثوب أحمر حيث رأته في اللحظة الشهوانية، إضافة إلى أنها مكونة ‏من عناصر شبقية طاغية جسدت كامل شخصيتها، وهي غير قادرة على كبح رغبتها والتحكم فيها "وتتشابه ‏إنانا مع زوجة فوطيفار/ عزيز مصر".‏

وينتهي النص بانتصار الراعي دموزي على الفلاح أنكمدو غير أن الراعي يقوم بدور عدائي تجاه المزارع ‏ويفخر عليه ويترك قطعانه تدمر المزروعات ولكن أنكمدو كان متسامحا مع دموزي الذي استمر في العداء ‏والبغضاء.

إلا أن هذا الانتصار للراعي لم يكن إلا بداية الكارثة لأن "إنانا" أرسلته إلى العالم الأسفل لينوب ‏عنها هناك "وتغدو التضحية بالراعي شرط انتصار الزراعة واستكمال دورة الخصب على الأرض""32"، ‏ويتشابه الموقف الأخير بموقف موت يوسف الرمزي بدخوله السجن، وهو فعل نمطي رمزي، أدى في الأخير ‏إلى التحول الكبير ليوسف من راع إلى مزارع.

تتعاضد الأساطير فيما بينها، وتتشابك وتنمو من بعضها البعض وتتناسل مشكلة حلقات جديدة في منظومة ‏الإنسان الفكرية، فهو يصارع من أجل البقاء ودحر الموت، ولعل الذي يجسد فكرة الصراع بين الخير ‏والشر، وبين الحياة والموت هي أسطورة بعل وموت فلم" يكن الأقدمون مهتمين بالمجردات، وإنما كان ‏تفكيرهم واقعيا.

وكانت آلهتهم تصور مشتبكة في علاقات حيوية وأعمال هامة ونضرب مثلا ببعل "رب ‏الخصوبة والحياة"، وموت "رب العقم والموت" حين يقتتلان، فإن الفعل غير هام في ذاته ولكن له منزلته في ‏أن النتائج إنما تحدد ما سوف تكون عليه الأرض خصبة أو مجدبة لفترة تطول.

ولا شك في أن جل الأساطير ‏الكنعانية تصب في مجرى الخصب والنماء، والجدب وتعكس نصوص هذه الأساطير دورة سبع سنين رخاء ‏التي يقابلها سبع سنين جدب المرتبطة بما يمر به الإله المسن " إيل" فإن عنة إيل إنما تعني بدء السنين ‏العجاف، وتعلن رجولته عن ابتداء دورة السنين الوافرة ،التي ينجب فيها إيل السابوع من آلهة الخصب من ‏أجل إقامة دورة من سبع سنين رخاء وإذا لم ينجبهم كان العكس""33".‏

ولا شك في أن سنوات الوفرة السبعة، وسنوات الجدب، قد تشكلت على هيئة رؤيا الملك التي أولها يوسف، ‏وهي البقرات السمان اللواتي يأكلهن العجاف والسنبلات الخضر والأخرى اليابسات.

والرؤيا في حد ذاتها ‏تحمل رموز الزراعة والرعي فالحيوانات تحيل على الرعي، والسنابل تحيل على الزراعة، وهي أنماط تتكرر ‏من أجل تذكير الإنسان للسعي في الحياة من أجل العيش والبقاء ودحر العدم من أجل استمرار دورة الحياة ‏والتناسل المستمر.‏

ومنه نستطيع القول إن أول نمط وجد قبل أن يخلق البشر والإخوة الأعداء هو المعركة بين الجدب ‏والخصوبة، ثم معركة الشتاء والصيف، ويليه معركة الإلهين اللذين نزلا لتعليم البشر، الزراعة والرعي، على ‏أن هذه المعركة التي تبدو في ظاهرها تحمل طابع العداء، تنتهي بالمصالحة: فتصالح الصيف والشتاء، يسند ‏لكل فصل وظيفته ،وتصالح الراعي والمزارع يحيل على التعايش، فكل منهما يحتاج إلى الآخر لتستمر ‏الحياة.

ويبدو " أن الأساطير عند بعض الأمم هي رواية لما فعلته الأرباب عند خلق الدنيا،و يبدو أن أحداثها ‏ترمز إلى النظام الحالي الذي تخضع له المخلوقات، فلم يكن وجود الحقبة الأسطورية عبثا، بل وجدت لتفسير ‏دنيا الأزمان التاريخية وتبرر أحداثها""34" لذلك حينما يريد المصريون تفسير علة وجود شيء ما، فإنهم ‏يسندونه إلى القوة الأولى.

فكانت كل مظاهر القوة سواء طبيعية أو بشرية تمثيلا جديدا لبعض الوقائع ‏الأسطورية، فالشمس مثلا ظهرت عند خلق العالم، لكن دراما الخلق العظيمة هذه تتكرر كل صباح، ورأس ‏كل سنة، حينما تبدد الشمس السحب الرعدية تكرر هزيمة " أبوفيس" على يد "رع" في الماضي الأسطوري ‏‏"لأن ذلك كان أمرا مقضيا منذ القديم" كما يقول النص، وإذا ما أرعدت السماء فليس هذا إلا "ست" يزمجر ‏وإذا ما شطا النبات فليس هذا سوى روح أوزيريس تقوم من موتها.

ولعل ظهور الشر كان بعد انقضاء ‏العصر الذهبي الذي ساده الكمال التام، حيث كان خاليا من المحن وساد فيه النعيم، وكان مبدأ الشرّ في رأي ‏المصريين حينما غضبت عين الإله الأعلى، لأن أخرى أخذت مكانها أثناء غيبتها، وكانت استعادة هذا العصر ‏الذهبي هي الفكرة المحورية للطقوس، وصار "ست" المصدر الرئيسي للشر والفوضى التي تهدد الانسجام ‏الذي ساد الكون بعد انتصار عقيدة أوزيريس."35"‏

يغدو كل تفسير أسطوري لمنطق العداء والصراع والتضارب، هو معركة بين الخير والشر وسيادة أحدهما ‏على الآخر، وهي سنّة مستمرة، فالكون فيه الشروق والغروب، الحياة والموت، الجدب والخصب، الظلام ‏والنور... الخ متفاعلة في ما بينهما ومتعايشة.‏

حافز الحلم أو الرؤيا: لا شك في أن حافز الحلم أسهم في بلورة العديد من الأساطير، وكان في كثير من ‏الأحيان البؤرة التي يتم من خلالها صياغة الخطاب الديني، ولعل وظيفة الحلم الاستهلالية التي تشكلت منه ‏قصة يوسف يشبه إلى حد بعيد وظيفة الحلم الاستهلالية التي تبلورت من خلاله أسطورة جلجامش، التي كوّن ‏فيها حافز الحلم استشراف المستقبل مثلما جاء في الملحمة:‏
يا أمي لقد رأيت الليلة الماضية حلما.‏
رأيت أني أسير مختالا بين الأبطال.‏
فظهرت كواكب السماء.‏
وقد سقط أحدهما إليا وكأنه شهاب السماء آنو.‏
أردت أن أزحزحه فلم أستطع أن أحركه.‏
تجمع حوله أهل بلاد أوروك.‏
ازدحم الناس حوله وتدافعوا عليه.‏
واجتمع عليه الأبطال.‏
وقبّل أصحابي قدميه.‏
أحببته وانحنيت كما انحنى على امرأة.‏
‏ ورفعته ووضعته عند قدميكِ.‏
فجعلته نظيرا لي "36"‏

مارس الحلم طغيانا وسيادة في النص، من خلال بنية الاستباق الأمر الذي جعل الحلم يفرض هيمنته على ‏تطورات الملحمة فيما بعد، ويتشابه ذلك مع وظيفة الحلم في القصة الدينية غير أن يوسف سرد الرؤيا على ‏والده وليس على أمه، كما أن الكواكب الساقطة في قصة يوسف ساجدة له في حين ينحني جلجامش للكوكب.‏

ويظهر حافز الحلم في النص السومري في أسطورة هبوط إنانا للعالم السفلي، وفي مقطع تحت عنوان " ‏مصير دموزي"، حيث يرى هذا الإله حلما، جاء نصه كالآتي: " بين الأزاهير استلقى الراعي دموزي وبينما ‏هو نائم بين الأزاهير رأى حلما فنهض من نومه مذعورا مما رأى وعرك عينيه بكفيه ورأسه يدور" "37"‏.

ثم يمضى دموزي المذهول إلى أخته جشتينانا الشاعرة والمغنية ،مفسرة الأحلام فيقص عليها رؤياه: " أختاه ‏سأقص عليك ما رأيت سأقص عليك الحلم الذي رأيت ‏
من حولي كان السمار"38" ينمو ويندفع بسرعة من باطن التربة
‏ وسمارة وقفت وحيدة، وحنت رأسها أمامي.‏
كل السمار وقف في أزواج إلا واحدة أزيلت من مكانها ‏
وفي الغيضة انتصبت حولي، انتصبت من الأرض أشجارا طوال مرعبة ‏
وعلى مرقدي المقدس انسكب ماء بارد.
وممخضتي خاوية قد أزيل ما بها "..." ‏
وعصا الراعي قد تلاشت وذهبت ريحها ""39"‏.

ثم تفسر له أخته الحلم بأنه ليس طيبا، وفعلا فيما بعد ترسل به إنانا إلى العالم الأسفل لينوب عنها هناك ويبدو ‏أن حافز الحلم هنا، فيه إحالة إلى سيادة الزراعة على الرعي كما مر بنا "والراعي الذي فضلته إنانا على ‏الفلاح أنكمدو في الأسطورة السابقة، وتزوجت منه، تعود لتقضي عليه بنفسها ،ويصبح موته شرطا لعودة ‏القوة الإخصابية من عالم الأموات لتتنفس الأرض من جديد" "40"‏.

فيتفق دموزي مع يوسف أيضا في حافز الحلم، ويبدو أن حلم الحزم الذي مر بنا في قصة يوسف التوراتي ‏يشبه إلى حد ما حلم دموزي، فإذا كانت حزم الإخوة قد سجدت لحزمة يوسف فإن دموزي ركعت لـه سمارة ‏واحدة، وتحول السماّر الآخر إلى أشجار طوال مرعبة وما ذاك التطاول النباتي إلا سيادة للزراعة، ولعل ‏الحزم التي سجدت لحزمة يوسف تحيل على خضوع النظام الزراعي له فيتحول الراعي إلى مزارع يتقن ‏فنون الزراعة وقوانينها. ‏

يتحول الحلم في مرحلة من مراحله إلى لغز، على البطل الموعود أن يحلّه، كي يقوم بدور المخلص والمنقذ، ‏فالأسطورة هنا تعمل على شحن مرسلة "الحلم" وإعادة توظيفها في حقول فكرية جديدة "فيحدث لها تحوّل"؛ ‏لأن المفهوم دائم الذبذبات، لا يعرف السكون ولا يذوب في حالة الأشياء، ليس لـه مكان، فينطق بالحدث ‏ويرفض الشيء، يتجاوز علاقات المطلق كونه يعبر عن فكرة الكل والنسبة بصفته مجموعا لعناصر قادرة ‏على التمفصل والتجزئة والتقاطع "41".‏

 

الهوامش
‏22- أبو القاسم حاج حمد، العالمية الإسلامية الثانية، ص 78.‏
‏ *- إن السلوكات البشرية المرتبطة بالخير والشر أنماط تتكرر بل دائمة التكرر، فإذا كان جائزا أن نقول أن ‏يوسف متأثر بقصة أنوب وباطا، فإنه يجوز لنا أن نقول أن حب روميو لجولييت متأثر بحب عنترة لعبلة أو ‏قيس لليلى "وهذا ضرب من اللامنطق!!".‏
‏23- جيمس فريزر، الغصن الذهبي، تر: د.أحمد أبو زيد،، القاهرة، الهيئة المصرية العالمية للكتاب، ‏‏2000، ص 91-93.‏
‏24- أ.ل.رانيلا، الماضي المشترك بين العرب والغرب، ص 21.‏
‏25- ليفي ستروس: الإناسة البنيانية، ت: حسن قبيسي، ط1، بيروت، لبنان، المركز الثقافي العربي1995، ‏ص227-230‏
وانظرأيضا: سيباستيان غونتر، "تحولات مفهوم الإخوة الأعداء، صراع نمطي في الأدب الإسلامي القديم ‏والحديث"، مجلة آداب، ع 9/10 سبتمبر، أكتوبر، القاهرة، 1999، ص 67- 68. ‏
‏* ‏cain en arabe ce mot signifie "forgeron" "…" Le nom Abel ataché a la racine yble ‎‎"meneur de troupeaux ; en syriaque" ce qui soulignerait l’opposition developpée par le ‎texte par le vie nomade de pasteurs et la sedentarité des agricultures, cain : ‎dictionnaire des mythes letteraires sous la direction de pièrre brunel, edition du ‎rocher, jean paul Bertiand, editeur, Paris 1988.p 26‎ا
‏26- طه باقر، مقدمة في أدب العراق القديم، بغداد، 1976، ص 164.‏
‏27- فراس السواح، مغامرة العقل ، ص 262- 263.‏
‏28- طه باقر، مقدمة في أدب العراق القديم ، ص 164.‏
‏29- المرجع السابق، ص 264 –265.‏
‏30- سيباستيان غونتر، تحولات مفهوم الإخوة الأعداء، ص 68.‏
‏31- فراس السواح، مغامرة العقل الأولى، ص 266، 267.‏
‏ 32- صاموئيل نوح كريمر، أساطير العالم القديم تر: د.أحمد عبد الحميد يوسف، مراجعة: د.عبد المنعم أبو ‏بكر،القاهرة، الهيئة المصرية العالمية للكتاب، 1974، ص 159 – 166.‏
‏33- رندل كلارك، الرمز والأسطورة في مصر القديمة، ص 254.‏
‏34- المرجع السابق، ص 257 – 258.‏
‏35- طه باقر، ملحمة جلجامش، ط4 بغداد، دار الشؤون الثقافية،ص 86.‏
‏36- فراس السواح، مغامرة العقل الأولى، ص 227-228.‏
‏37- السمار، أو الأسل نبات أوراقه أسطورية تستعمل في صنع بعض أنواع الكراسي، أو المكانس.‏
‏38- فراس السواح، مغامرة العقل الأولى ص 228.‏
‏39- المرجع السابق، ص 331.‏
‏40-عبد الوهاب ترو، "رمزية التحولات الفكرية والدلالات في الخطاب الأسطوري الفكري العربي"، مجلة ‏الفكر العربي، ع 41، "يوليو سبتمبر"، بيروت، لبنان، ص 98 – 1001.‏
‏42- عبد الوهاب ترو، "رمزية التحولات الفكرية والدلالات في الخطاب الأسطوري الفكري العربي ص ‏‏103‏
‏43- لأن القميص الأصل كان الراحيل فهو قميص زفافها كما مرّ بنا.‏
‏44-ناجح المعموري: تأويل النص التوراتي"قميص يوسف"، ص107‏
‏45-المرجع السابق، ص108‏

شادية شقروش

المصدر: العرب أون لاين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...