الـوتـر الـمـنـفـرد .. عاصـي الـرحـبـانـي
أشـرف رحـمـة: رحل .. نوره ما زال يشع صبيحة كل يوم
خمسة و عشرون سنة لم تكفِ لإقناعنا بأنه رحل
عاصي الرحباني، وتر البزق المنفرد
اليوم .. ذكرى اليوبيل الفضّي لرحيل هذا الإنسان، قراءة بسيطة في زوايا حياة هذا الفنّان، الزوج، والإنسان .
عاصي الرحباني، عاصي حنّا الرحباني، في سطور
خيط من خيوط شمس الإبداع المشعّة، ولد عاصي سنة 1923 في أنطلياس، أبوه حنّا صاحب الشخصية الغريبة والعجيبة، كان من القبضايات، هرب من بيروت إلى أنطلياس بعد جولات إطلاق نار عديدة تبادلها مع الجنود العثمانيين .
لم تكن مرحلة الدراسة الأولى منتظمة بالنسبة لعاصي، ومع ذلك فقد كان طالباً مواظباً بشدّة على الدراسة وتشهد بذلك مقاعد هذه المدارس التي دخلها :
- مدرسة راهبات عبرين في أنطلياس .
- مدرسة الأستاذ فريد أبو فاضل في أنطلياس .
- مدرسة الأستاذ كمال مكرزل، والمدرسة اليسوعية في بكفيّا، لمدة سنة واحدة، ثم عاد بعدها إلى أنطلياس .
سبع سنوات عاشها عاصي مع عائلته متنقلين بين "المنيبع" (الضهور)، وأنطلياس حيث مقهى "الفوّار" وفي صيف 1938، بين جدران هذا المقهى تحققت أولى أحلامه باقتناء أولى آلاته الموسيقية، حيث عثر في أحد الأيام على ورقة نقدية من فئة العشر ليرات على أرض المقهى، وما كان من والده إلّا أن أمره بتعليقها على حبل في المقهى ليتسنّى لصاحبها رؤيتها، وبعد عدّة أيّام من بقاء العشر ليرات معلّقة على حالها، قام عاصي برسم ورقة مشابهة لها وتعليقها مكان ورقة العشر ليرات الأصليّة التي ذهب بها إلى بيروت ليشتري فيها كماناً قديماً كان أول آلات هذا المبدع .
جدته غيتا كانت علامة فارقة في طفولته، معها حفظ الأشعار والأزجال وسمع القصص الشعبيّة والأساطير التي أغنت مخيلته باكراً. والده أيضاً، كان مولعاً بالشعر يحفظ قصائد عنترة، ومولعاً بالموسيقى. وفي الليالي الطويلة كان عاصي الطفل يسترق السمع من علّيته إلى الوالد يعزف على البزق ألحاناً شجية. وفي العلّية أيضاً كانت تصل الى مسامعه أغاني سيد درويش ومحمد عبد الوهاب وأم كلثوم من "فونوغراف" المقهى . بدا عاصي مبدعاً مبتكراً منذ طفولته، ويتذكر منصور الرحباني - شقيق عاصي - أن عاصي كان يروي له أخباراً غريبة عن أناس لا يكبرون وعن عالم تسوده العدالة ويعيش فيه الناس بمحبة وطيبة. وهذه القيم جسدتها أعمال الأخوين الرحباني في ما بعد.
عام 1937 أصدر عاصي مجلّة صغيرة أسماها "الحرشاية". كان يكتب كلّ موادها بخطِّ يده ويوقّع كلّ مادة باسم مختلف مدعياً أنّ ثمّة أسرة تحرير تسهم في العمل، وآخر كل أسبوع كان يحمل العدد الجديد ويقرؤه في بيوت الأصدقاء والأقارب.
و هذه الأبيات مأخوذة من شعر عاصي الطفل .. نجد فيها حسّاً كبيراً من دعابة الأطفال :
قد جاء الليل بظلماته غمرت أشجار الساحات
لا بيت يضوي بقنديل خوفاً من ضرب الغارات
وبصرت بنومي حبيبة قلبي قد ضربت لي سلامات
ولقد جاءت تخطر مشياً وهي من أحلى الستّات
فضربتها كفّاً شقلبها طحبشها مثل البيضات
برمت برمت برمت برمت شبقت خلف الكنبايات
و مع شقيقه منصور وقبل أن يبلغا سن الرشد، أسس الأخوين الرحباني " نادي أنطلياس الثقافي " حيث كان هذا النادي بوابة لتقديم بعض النشاطات الثقافية والاجتماعية بمساعدة شبان البلدة، فيه قدّم عاصي ومنصور حفلات غنائية، ثم وضعا ألحاناً لإدخالها في المسرحيات وكانت باكورة أعمالهما المسرحيّة : مسرحيّة "وفاء العرب" التي ألّفاها و لحّناها و مثّلا فيها، أخذ عاصي دور "النعمان الثالث" و لعب منصور دور "حنظلة" ثم استمرا بالعمل سوية وانتاج مسرحيّات أخرى إمّا من تأليفهما أو باشتراك مع آخرين .
أولى الوظائف التي استلمها عاصي كانت في بلديّة أنطلياس كبوليس للبلدية عام 1942 وكان معه منصور الذي انتقل فيما بعد إلى شرطة بيروت .
وعن عاصي نظم الشاعر نزار قبّاني قصيدة مهداة إليه سمّاها باسمه يقول فيها :
به بدأ الحبُّ ، وبه انتهى .
وبه بدأ اللونُ الأخضر ... وبه انتهى .
وبه بدأ النبيذُ .. وبه انتهى .
وبه صار بحرُ (أنطلياسْ)
أعظمَ من المحيط الأطلسيّ.
الرحباني .. فنياً
لا نستطيع الحديث عن عاصي الفنان، بمعزل عن أخيّه منصور، إذ شكّل الإثنان ثورة فنيّة متلازمة لا تنفصل حيث أنجزا في بداية حياتهما إخراج مسرحيات لأحد أصدقاء العائلة "يوسف أبو جودة"، وكانا يحلمان بمسرح يزاوج بين الكلمة والأغنية، الحلم الذي تحقق في ما بعد في المسرح الغنائي الذي أطلقاه والذي كان فريداً من نوعه.
وظيفة عاصي الرحباني كبوليس في شرطة أنطلياس ساعدته فنياً حيث كان رئيس البلديّة "وديع الشمالي" من محبّي الموسيقى، الأمر الذي أدّى الى تنظيم حفلات موسيّقية شارك فيها عاصي ومنصور مع رئيس البلديّة .
وفي الفترة نفسها تابع دراسة الموسيقى، فتلقّن أصول قواعد الموسيقى الغربية على يد الأستاذ الفرنسيّ الراحل برتان. ولم يلبث منصور أن تبعه إلى الإذاعة. وبدأت أعمال الأخوين الرحباني تنتشر وتأخذ طابعاً حديثاً. وكان مدير الإذاعة اللبنانية في حينها المرحوم "فؤاد قاسم" يحبّ الأغاني القصيرة، ويرى في التكرار مللاً، وقد كان طابع الأغنية المصريّة الطويلة طاغياً على الأغاني العربيّة. من هنا انطلق عمل الأخوين الرحباني على تقصير الأغنية، وكان عاصي يعتبر أن التكرار لا يعني الطرب، فالطرب هو الإبداع أو التفرّد بحدّ ذاته. خلال هذه الحقبة التقى مدير الإذاعة السوريّة "أحمد عسّي"، ومدير إذاعة الشرق الأدنى "صبري الشريف"، وأجمع الثلاثة على المفاهيم نفسها: تسريع الأغنية، تركيزها، وعدم اختصارها بالمواويل.
يقول أنسي الحاج في مقالته " تداعيات حول عاصي الرحباني " واصفاً عاصي الفنان :
" إرادة جبّارة جعلت ناس الورق يحلّون في المخيّلة الشعبيّة محل ناس اللحم و الدم، فصار الواحد يظنّ نفسه أو يتمنّى أن يكون ظلاً لناس الورق هؤلاء. إرادة جبّارة نفخت روحها القرويّة في العالم العربي كلّه زراعة فنيه، على أجنحة صوت فيروز الاستثنائي، شكلاً جديداً من أشكال الشغف . "
عـاصـي و فـيـروز
في العام 1950، بدأ التعاون مع فيروز الطفلة ابنة الخمسة عشر ربيعاً أثناء دخولها الإذاعة اللبنانية مع الطلائع. ولقد أعلمه الموسيقار الراحل حليم الرومي برغبة فيروز بدخول الكورس. وكان عاصي في حينها ملحّناً ناشئاً، فخوراً بنفسه وبعد أن تعرّف الى فيروز لحّن لها الأغنية الأولى وكانت بعنوان "غروب"، وكلماتها للشاعر العظيم قبلان مكرزل، ثم كانت أغنية "عتاب" و"يابا لالا"...
وكان عاصي يعتبر أن هذه الفترة من حياته الفنيّة كانت صعبة للغاية، نظراً للمقاومة الشديدة التي واجهها الأخوين من قبل الموسيقيين الذين كانوا يرفضون نظريّة الأغنية القصيرة، ويلحنون الأغاني التي تستغرق مدتها نحو ساعة من الزمن.
بداية اعتبر النقّاد أن لون أغنية الرحابنة غربي، نظراً لعرضها في الإذاعة ضمن خانة الأغاني الراقصة وخصوصاً الموشحات ومنها موشح "زرياب" الذي أدّته المطربة حنان ونجح نجاحاً كبيراً في العام 1950. وفي مقابلة أجريت معه في إذاعة لبنان يروي عاصي أنه في محاولة منه لدحض الأقاويل والانتقادات لحّن أغنية "عتاب" لفيروز، واخترع اسم الملحّن "أمين صالح" لأغنية "الى راعية"، ويومها كتبت الصحف اللبنانية بأن هذا الملحّن عرف كيف يتعامل مع خامة صوت فيروز ويطلقه، بعكس الأخوين الرحباني، وطبعاً بعد ذلك عرف الناس الحقيقة.
يقول عاصي في إحدى مقابلاته : " دايماً بين الحرف و الحرف ، بين الكلمة والكلمة، بيكمن معاني عميقة و معاني سطحية، هيدي راجعة لطريقة الإنسان الخلاق أو العبقري الي بيقدر يصيغ من الحرف والكلمة قصيدة أو لا قصيدة " .
صيف 1954 تزوّج عاصي وفيروز، وأنجبا زيـاد وليال وريما. كانت مسيرةً فنيّةَ جمعت ثلاثة عمالقة منصور، فيروز وعاصي، هؤلاء الثلاثة أوصلوا الفنّ اللبناني إلى القمّة جمالاً ورقيّاً، ولوّنوا تلك الفترة بألوان الموسيقا والفرح الذي لا يزال يعمّ حتى يومنا هذا.
الجسد و الموت :
بعد أن احتضنت بعلبك " ناطورة المفاتيح " وأثناء العمل على إحدى حلقات مسلسل "من يوم ليوم" في أيلول سنة 1972 فاجأت آلام مبرحة رأس عاصي، و فقد تركيزه، أسعف على إثرها إلى المستشفى و كانت النتيجة، نزيف حاد في الدماغ .
في غرفة العمليّات، مع جرّاح فرنسي استقَدِم خصيصاً لمعالجة عاصي تمّ إيقاف النزيف تماماً، وبعد هذه الحادثة بفترة عاد عاصي إلى مكتبه وعمله، لكنّه كان قد تغيّر، يضحك دون ضوابط، يفرح و يحزن، يشتم ويغضب، يتكارم ويسخو دون قيود، لكنه استمرّ بالتلحين وإن كان لا يكتب النوت، بل يستدعي شقيقه منصور ليدوّنها على الورق، هذا حال أغنية "سكّروا الشوارع" و "مسرحية بترا" و غيرهما الكثير، على هذه الحال تابع حياته الفنية حتّى عام 1986 إذ بدأت صحّته بالتدهور ودخل في غيبوبة خرج منها " ميّت الجسد " في الحادي والعشرين من شهر حزيران 1986.
أعمال الأخوين الرحباني بين عامي 1957 ¬– 1984 :
- 1957: "أيام الحصاد" (بعلبك) .
- ¬ 1959: "عرس في القرية" (بعلبك) .
- 1960: "موسم العز" (بعلبك) .
- ¬ 1961: "البعلبكية" (بعلبك) .
- 1962 : "جسر القمر" (بعلبك،¬ دمشق) .
- ¬ 1962: "عودة العسكر" (مسرح سينما كابيتول) .
- ¬ 1963: "الليل والقنديل" (كازينو لبنان،¬ دمشق) .
- ¬ 1964: "بياع الخواتم" (الأرز، دمشق) .
- ¬ 1965: "دواليب الهوى" (بعلبك) .
- ¬ 1966: "أيام فخر الدين" (بعلبك) .
- ¬ 1967: "هالة والملك" (البيكاديللي،¬ الأرز،¬ دمشق) .
- ¬ 1969: "جبال الصوان" (بعلبك) .
- ¬ 1970: "يعيش يعيش" (البيكاديللي) .
- ¬ 1971: "صح النوم" (البيكاديللي، دمشق) .
- ¬ 1972: "ناطورة المفاتيح" (بعلبك) .
- ¬ 1972: "ناس من ورق" (البـيكاديللي،¬ جـولة في الولايـات المتـحدة) .
- ¬ 1973: "المحطة" (البيكاديللي) .
- ¬ 1973: "قصيدة حب" (بعلبك) .
- ¬ 1974: "لولو" (البيكاديللي، دمشق) .
- ¬ 1975: "ميس الريم" (البيكاديللي،¬ دمشق) .
- ¬ 1976: "منوعات" (دمشق¬، عمان¬، بغداد¬، القاهرة) .
- ¬ 1977: "بترا" (عمان، دمشق) .
- ¬ 1978: "بترا" (البيكاديللي) .
- ¬ 1980: "المؤامرة مستمرة" (كازينو لبنان) .
- ¬ 1984: "الربيع السابع" (مسرح جورج الخامس) .
بالإضافة إلى لوحات مسرحية ومنوّعات كثيرة قُدّمِت خلال رحلات عديدة خارج لبنان على مسارح العالم.
في السينما كانت حصيلة إنتاج الأخوين الرحباني ثلاثة أفلام :
¬- 1965: "بيّاع الخواتم"، من إنتاج نادر الأتاسي، وإخراج يوسف شاهين، بميزانية مبدئية 220 ألف ليرة لبنانية، وانتهى الفليم وتمّ عرضه، وكانت الحصيلة النهائية لكلفة إنتاج الفيلم 600 ألف ليرة لبنانية.
- 1966: "سفر برلك"، من إنتاج نادر الأتاسي أيضاً، وإخراج هنري بركات .
- ¬ 1967: "بنت الحارس". من أنتاج نادر الأتاسي، وإخراج هنري بركات أيضاً .
بالإضافة إلى مئات الحلقات التلفزيونية والإذاعية من برامج ومسلسلات ومنوّعات وتمثيلات واسكتشات موزعة في لبنان والدول العربية بأصوات عشرات المطربين والمطربات .
المعلومات المقدّمة في هذا النص مأخوذة من :
- مقالة "سيرة حياة عاصي" من موقع الجيش اللبناني .
- مقالة "تداعيات حول عاصي الرحباني" بقلم أنسي الحاج من صحيفة الأخبار .
- الفليم الوثائقي "كانت حكاية " من إعداد وإخراج ريما الرحباني .
إضافة تعليق جديد