الانسحاب البريطاني اختبار لما سيحدث لو انسحبت قوات الاحتلال من العراق

04-09-2007

الانسحاب البريطاني اختبار لما سيحدث لو انسحبت قوات الاحتلال من العراق

يتزايد الحديث عن انسحاب القوات البريطانية من العراق خلال فترة وجيزة، كما تتوالى التصريحات عن المضاعفات والآثار السلبية لهذا الانسحاب على الأمن في العراق واحتمال اندلاع قتال طائفي بين الفئات المتناحرة على السلطة خاصة في مدينة البصرة وجنوب العراق بشكل عام.

صحيفة “الصنداي تايمز” نقلت في تقرير لمراسلتها من واشنطن سارة باكستر بتاريخ 19 أغسطس/آب الماضي أن ستيفن بيدل، أحد المستشارين العسكريين لدى الرئيس الأمريكي جورج بوش حذر الأخير من أن القوات البريطانية في العراق سوف تجبر على الانسحاب “بطريقة بشعة ومحرجة”.

بينما نقلت الصحيفة ذاتها تصريحاً لأحد القادة العسكريين البريطانيين بأن “القيادة الميدانية أعلمت رئيس الحكومة البريطانية جوردن براون بضرورة سحب الجنود ال5500 من جنوب شرقي العراق “لأنهم لن يستطيعوا تحقيق أكثر مما قاموا به حتى الآن”. ووصفت الصحيفة الحالة في جنوب العراق بأنها سيئة بالنسبة للجنود البريطانيين، وخاصة بعد أن تم الكشف عن رسائل وجهها جنود إلى عائلاتهم يقولون فيها إن قصر صدام الذي يتواجد فيه أكثر من 500 جندي يتعرض لأكثر من 60 قذيفة هاون كل يوم ما يجعل نوم الجنود في الخيم غير آمن. وكانت صحيفة “الديلي تلغراف” البريطانية قد ذكرت بتاريخ العاشر من أغسطس/آب الماضي أن نسبة القتلى في صفوف القوات البريطانية أعلى من نسبة القتلى في صفوف القوات الأمريكية إذا أخذنا بعين الاعتبار أن عدد القوات الأمريكية في العراق يتجاوز ال160 ألف جندي وينتشرون في مناطق أكثر خطورة. أما صحيفة “التايمز” فقالت إنه مع سقوط كل قتيل جديد في صفوف البريطانيين تنخفض الروح المعنوية بين الجنود، فكل الجنود يدخنون وأغلبهم لا يتذكرون الشهر أو الأسبوع ويشعرون أن الحكومة والشعب البريطاني تناسياهم. وتقول الصحيفة انه مع ارتفاع درجات الحرارة في البصرة إلى أكثر من 50 درجة مئوية، ومع ارتداء الجنود لباسهم الميداني الكامل مثل الخوذة المعدنية والصدرية الواقية من الرصاص يصبح القتال ليس سهلاً. كما أن نقل الإمدادات أصبح كابوساً للقوات البريطانية حيث يقدم العديد من سائقي شاحنات التموين على شرب كميات كبيرة من المشروبات الكحولية قبل القيام بهذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر رغم قصر المسافة.

إن انسحاب القوات البريطانية من العراق ليس وليد الساعة، فقد قال رئيس الحكومة البريطانية السابق توني بلير بتاريخ 14 نوفمبر/تشرين الثاني ،2005 إن كلام الرئيس العراقي جلال طالباني حول احتمال انسحاب القوات البريطانية من العراق في غضون عام “عقلاني وواقعي، لكن الجيش البريطاني لن ينسحب قبل أن يتم مهمته”، علماً بأن وزير الدفاع البريطاني جون ريد قد سبق بلير بالتعليق على كلام طالباني قائلا إن “بدء انسحاب القوات البريطانية من العراق في غضون عام احتمال وارد”.

انسحاب القوات البريطانية من العراق ليس بالحدث السهل، لأن بريطانيا هي حليفة الولايات المتحدة الرئيسية في العراق، وانسحابها سيكون ضربة عنيفة للإدارة الأمريكية التي تتهم القوات البريطانية بأنهم لا يسيطرون على الأوضاع في جنوب العراق. وفي الوقت الذي تنقل فيه الصحف البريطانية تفاصيل المأساة التي يعيشها الجنود البريطانيون إلا أنها تقول أن الانسحاب من العراق “سيؤدي إلى العديد من العواقب”، وستنشط الميليشيات وتهدد سلطة الحكومة العراقية هناك وستتدفق الأسلحة الإيرانية وهذه الأمر سوف يشجع حركة طالبان التي تقاتل قوات حلف شمال الأطلسي على تكثيف هجماتها لإرغامها على الانسحاب من أفغانستان كما حدث في العراق)، وتبدي مخاوفها من حدوث حمام دم في شوارع مدينة البصرة بمجرد انسحاب القوات البريطانية حيث ستتصارع الميليشيات الشيعية للسيطرة على حقول وموارد النفط الكبيرة في جنوب العراق، وهو ما كرره هوشيار زيباري وزير الخارجية العراقي في تصريحات لصحيفة “التايمز” في عددها يوم الخميس الماضي حيث حذّر الولايات المتحدة وبريطانيا من أن سحب قواتهما من العراق في وقت مبكر سيقود إلى وقوع كارثة حقيقية على مستوى العالم، ويؤدي إلى تفكك البلاد إلى أقسام، واندلاع حمامات دم بين السنة والشيعة والأكراد، وتحويل العراق إلى ملاذ آمن لتنظيم القاعدة وغيره من الشبكات الإرهابية، كما أن التدخل المحتمل لإيران سيدفع الدول العربية السنية المجاورة وتركيا إلى أزمة إقليمية. إلا أن الوزير العراقي أبدى تفهمه للانسحاب المتوقع هذا الأسبوع لنحو600 جندي بريطاني من قاعدة قصر البصرة للالتحاق بزملائهم البالغ عددهم 5000 جندي في قاعدة مطار المدينة. واللافت للانتباه أن زيباري أشار إلى أن الخطوة “يمكن أن يُنظر إليها كهزيمة في العالم العربي”. وطالب القوات البريطانية والأمريكية بالبقاء في العراق وقال بأن الولايات المتحدة وبريطانيا تتحملان مسؤولية أخلاقية للبقاء لإنهاء الفوضى التي أسهمتا في إحداثها في العراق، ولعبتا دوراً محورياً في الحرب وتغيير النظام السابق، غير أنهما بعد ذلك لم تستمعا إلى “أصدقائهما العراقيين” في جميع القضايا.

من السهل جداً اكتشاف الارتباك في التصريحات، ومن الأسهل اكتشاف أن الحكومة العراقية وقوات الاحتلال عجزت، حتى الآن، عن توفير الأمن والسيطرة على الأوضاع وبناء الدولة الديمقراطية التي وعدوا بها، بل ان الأمور تزداد سوءاً، ومساحة الفوضى تزداد اتساعاً، وبات المسؤولون العراقيون يوجهون انتقادات لقوات الاحتلال، كما فعل زيباري، الذي اتهمهم بخلق الفوضى في البلاد وطالبهم بتصحيح ما ارتكبوا من أخطاء.

وفي الحقيقة، فإن بريطانيا أو الولايات المتحدة لا تضع الأمن في العراق على رأس أولوياتها، ولا تضع إعادة الإعمار أيضا ضمن اهتماماتها، بل إن بناء دولة عراقية ديمقراطية عصرية هو آخر ما تفكر به الولايات المتحدة، وإنما تريد امتداد الفوضى إلى الدول المجاورة للعراق، إلى سوريا والخليج والأردن وإيران، ظناً منها أن هذه الفوضى (الخلاقة) هي التي ستعيد ترتيب الأوراق من جديد، بينما هي في الواقع تسعى إلى تدمير بلاد بالكامل والقضاء على حضارتها وإمكاناتها وسحق نسبة التنمية الضئيلة التي حققتها، لتعيدها، كما أعادت العراق، إلى القرون الوسطى، وبما أن المنطقة تعاني من طائفية كبيرة، وأقليات كثيرة، فإن المسؤولين الذين أتى وسيأتي بهم الاحتلال سيطالبون ببقائه، شأنهم شأن الوزير زيباري الذي كشف أن بلاده “ستوقع على اتفاقية أمنية بعيدة المدى مع الولايات المتحدة خلال العام المقبل، بعد الانتهاء من التفويض الموقع عليه من الأمم المتحدة حول وجود الاحتلال في العراق”. وهو ما سيجعل الأمن في العراق بتصرف الأمريكيين، وعندها سيتحول العراق إلى قاعدة عسكرية “شرعية” في المنطقة، وسيساند الدور الصهيوني، أو سيقومان معا في إدارة الفوضى عن طريق إشاعتها في المنطقة العربية، ناهيك عن اعتمادها الكلي على الولايات المتحدة الأمريكية، التي ستسحب كل خيراتها ومقوماتها الطبيعية والحضارية.
إن الانسحاب البريطاني من البصرة وجنوب العراق سيتم قريباً، وهو حركة اختبارية لما سيحدث لو انسحبت قوات الاحتلال من العراق، وليس غريبا أن تسكت قوات الاحتلال على إقامة كيان سياسي مستقل في الجنوب تمهيدا للتقسيم، وستبدأ بناء عليه الانسحاب من بغداد ثم شمال العراق. وتعلم الولايات المتحدة تمام العلم، أن هذا لن يحدث بين ليلة وضحاها، ولن تستقر الأوضاع ويتم التقسيم بالضغط على الزر، بل سيسبقه حمام دم تبدو معه التفجيرات الحالية والسابقة بسيطة وقليلة. ولكن، ماذا لو تسلم العراقيون السلطة بهدوء، ولم تحدث حرب أهلية كما يتوقعون؟ هل سيعيدون احتلال الأماكن التي انسحبوا منها؟ سؤال ستجيب عنه الأيام القادمة.


د. عبدالله السويجي
المصدر: الخليج

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...