«سيميوزيس» دفْع عملية السلام بين العرب وإسرائيل

05-04-2017

«سيميوزيس» دفْع عملية السلام بين العرب وإسرائيل

الواقع أنه في الخطابات السياسية، ثمة مسائل توضع لها مصطلحات غير واضحة، ويتم التحرك في فن الممكن، ضمن الفسحة الغامضة من المصطلح، ينتج على أثرها حجج تنتهي الى القبول بالواقع بشكل «سحري» وغير منطقي، حتى لأصعب القضايا وأكثرها تعقيداً. وهي الحال مع «عملية السلام» في النظام العالمي الجديد. ولعلّ قضية السلام بين «إسرائيل» وفلسطين من أبرز المصاديق على تشكيل المعنى الغامض بالتسمية وإهمال التعريف، إنه «فنّ أن لا تقول شيئاً» الدبلوماسي.

ليس ثمة تعريف ومنهج واضح لهذه القضية، ولا لمؤهلات أطراف النزاع الذين وجب دفع عملية السلام بينهم، بل ليس ثمة توضيح إلى أين سيتم دفع العملية. إلى ذلك، تثبت الوقائع أو السياقات الناتجة من عملية «الدفع» التي تحصل اليوم بين العرب وإسرائيل، أنه ليس ثمة رابطة بين الدال «السلام»، بمدلوله الحقيقي أي ما تشير إليه مفردة السلام. وعليه، لا ينبغي في تأويل هذه العبارة «خلط علاقتها بما تعبّرعنه» كما يقول ميشال فوكو.
الواقع أن غياب السياق عن المكان الذي سيتم الدفع إليه، سيؤدي إلى خلق سياقات تتقلّب فيها القضية إلى ما لا نهاية، بل إلى أن يتم تحقيق هدف واضعي المصطلح. ذلك أنّ إبقاء السياق غامضاً يؤدي إلى خيارات مفتوحة، يمسي معها المجتمع الدولي قادراً على تغيير اتجاهاته من دون الحاجة الى تغيير كلماته. إنها «استراتيجية عدم الوضوح» في الخطابات السياسية، إنه الدهاء السياسي الذي يبرع فيه الأميركيون.
وعليه، سأحاول في هذا المقال تحديد العلاقات التي تميز العبارة في خصوصيتها، والتي تفترضها المصطلحات والقضية ضمنياً وتجعلان من «دفع» السلام شرطاً سابقاً. وكيف يتم فرزها من قيم الأهداف النبيلة، لتحقيق أهداف الاستعمار والاستيطان.

«دفع عملية السلام»

يتضح من العبارة أن المطلوب هو «الدفع». علاقات الغياب في التحليل تشير إلى أن هناك عائقاً معيّناً ينبغي الدفع لتخطيه، وليس التوقف عنده؛ فالهدف هو التحرك باستمرار من دون توقف، للوصول إلى الغاية النبيلة وهي «عملية السلام». وبالتالي، لا توقُّف ولا حتى لمعرفة العوائق ودراستها.
ولدراية منظومة الأوليات التي أنتجت «عملية السلام»، سنبدأ منذ ولادة المصطلح في سياقه التاريخي الى الحاضر:
يقول الباحث الأميركي وليام كواندت في كتابه «عملية السلام»: «بدأ استخدام تعبير عملية السلام في وقت ما في منتصف السبعينيات لوصف الجهود التي قادتها الولايات المتحدة من أجل إحلال سلام متفاوض عليه بين إسرائيل وجيرانها. ومن حينها درج استخدام التعبير وأصبح مرادفاً للمقاربة التدريجية لحل أكثر صراعات العالم صعوبة. في الأعوام التي تلت عام 1967، انتقل تركيز واشنطن من طرح مُكوِّنات السلام إلى العملية التي يمكن أن توصلنا إليه... لقد قدَّمت الولاياتُ المتحدة الاتجاهَ والآلية».
ليس ثمة نص صريح يكشف عن الاتجاه والآلية اللذين أشار كواندت إليهما. وإذا ما تتبعنا نجد أن «الاتجاه والآلية» متغيران نسبة إلى بنود الاتفاقيات التي يتم عقدها. ويتضح أنها تكشف عن الكثير من المكاسب للطرف الإسرائيلي. أبرزها الاعتراف به ككيان موازٍ يتمتع بالحقوق نفسها، كما في اتفاقية «كامب ديفيد» الموقعة عام 1979 بين مصر وإسرائيل، إنها تقتضي أن «يقر الطرفان ويحترم كل منهما سيادة الآخر وسلامة أراضيه واستقلاله السياسي».
وقّعت مصر الاتفاقية وانحدر الطرف العربي باتجاه تنازلات جديدة على ظهر البند الذي يتعهد فيه الطرفان «بالامتناع عن التهديد باستخدام القوة». إذ يتكفل مجلس الأمن بمراقبة «التعهد» ومحاسبة المعتدي، وعلى مرّ تاريخ مجلس الأمن، لم يُعرَف أنه تمّت محاسبة إسرائيل، وليس ثمة محاسبة إلا للطرف العربي.
«وادي عربة»، هي الاتفاقية الموقّعة بين الأردن وإسرائيل، وفيها تنازل الأردن عن المياه الجوفية الصافية، بينما صدّرت إسرائيل للأردن مياهاً ملوثة من بحيرة طبريا.
تقول الدعاية الأردنية الرسمية «إننا أجّرنا المنطقة لإسرائيل»، إلا أنّ كلمة تأجير لم ترد في الاتفاقية. وليس ثمة عودة إلى الوراء، ويحقّ لإسرائيل مقاضاة الأردن في حال تحلله من الاتفاقية.
الواقع أن «الآلية» الجوهرية التي تحدّث عنها تعريف كواندت تكمن في العبارة نفسها، وهي «عملية الدفع». وتكمن عظمتها في قدرتها على الإقناع بالواقع. فمن خلال الدفع بدون توقف، يتم التنازل عن العوائق ولو كانت حقوقاً ومطالب مشروعة، وبغض النظر الى أين ستصل في النهاية. عملية الدفع قد تكون في مسار خاطئ، بل يمكن أن تحمل الكثير من الغبن. فالأردن لم يستعد بموجب الاتفاقية منطقة الباقورة أو المنطقة المحاذية لوادي عربة. ومجلس الأمن لم يحرّك ساكناً، ومع ذلك فإن التوقف عن «دفع العملية» مرفوض. بالأحرى لم يعد ممكناً إيقافها، لأنه بمجرّد الموافقة على تشغيلها أصبحت آلية بذاتها ككرة الثلج.

السلام العادل والسلام الدافئ

يمكن القول إن عملية «الدفع» هذه هي ولادة سياقات تتغير بما يخدم المصالح. فتُنتِج مصطلحات تتشكّل انطلاقاً من إعادة تنظيم عناصر تصل الى حد التناقض أحياناً؛ كـ«السلام العادل».
إن السلام «العادل» في تمثيله يشي بوجود سلام «ظالم». وهما على الرغم من تناقضهما ــ أي العدل والظلم ــ وتناقض السلام مع وقوع الظلم أصلاً، يمثلان بعداً واحداً، وهو القبول بالواقع. تصبح الخيارات محصورة بالسلام العادل والسلام الظالم. ويمسي الخطاب على الشكل الآتي: ليكن بمعلومكم أن هناك سلاماً ظالماً بوسعكم تغييره ورفضه، وسلاماً عادلاً إذا قبلتم به ستُكافأون عليه. وبهذا يتم دفع الأطراف المحلية إلى تقديم التنازلات الضرورية لـ«السلام»، من خلال سياسة الجزرة والعصا (أي المكافآت والعقوبات).
وعلى هذا المنوال، يتم ثتبيت الواقع في المصطلحات: كـ«السلام الدافئ» الذي أشار إليه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، على هامش القمة الفرنسية لدفع عملية السلام بين فلسطين و«إسرائيل» والتي تمّ تأجيلها عام 2016. وللتصريح على هامش تأجيل القمة بسبب غياب الطرف الإسرائيلي دلالة أيضاً. فلطمأنة الجانبين وللمزيد من التفاؤل بأن «السلام البارد» أي التنافر الذي يشعر به الطرفان سيتحول مع الزمن الى «سلام دافئ». فيقترح السيسي على الإسرائيليين والفلسطينيين «النظر الى اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية من عام 1979 لرؤية نتائج السلام الإيجابية»، ذلك أن «مستوى العداوة بين مصر وإسرائيل الذي كان قائماً قبل تحقيق الاتفاقية لم يكن مختلفاً عن العداوة بين الفلسطينيين والإسرائيليين اليوم».
الى ذلك، أسس قرار الأمم المتحدة 242 عام 1967 مصطلحات مثل «حق إسرائيل في الوجود» وهو في سياقه يغلق على معنى واحد وهو «حق إسرائيل في استعمار فلسطين»، ما يُشرْعِن احتلال فلسطين. ومصطلح «الأرض مقابل السلام» الذي يعني تخلي الفلسطينيين عن 78% من أراضيهم مقابل توقف حروب إسرائيل الاستيطانية ضدهم والتوقف عن المناكفة في 22% الباقية.

السلام الشامل

أثارت حرب 6 أكتوبر التي شنتها دولتا مصر وسوريا على إسرائيل بشكل مفاجئ عام 1973، جهوداً دبلوماسية لم يسبق لها مثيل بهدف التوصل إلى حل للنزاع العربي الإسرائيلي من قبل وزير الخارجية الأميركي الشهير هنري كيسنجر.
أدخل كيسنجر أساليب عدة على ما أصبح يطلق عليه اسم «عملية السلام». كان كيسنجر يشك في أن الصفقات الإجمالية والشاملة قادرة على حل النزاعات، التي ما فتئت قائمة منذ فترة طويلة بسرعة. وبالتالي، فقد حث الأطراف على التركيز على خطوات صغيرة عملية نحو السلام بدل الإصرار على حل جميع المشاكل دفعة واحدة. وأصبح هذا الأسلوب يعرف في ما بعد بدبلوماسية «الخطوة خطوة»، ونجم عن ذلك سياقات جديدة «دفعت» العملية الى ثلاث اتفاقيات: سيناء 1 والجولان 1 في أوائل عام 1974، وسيناء 2 في خريف عام 1975. قدم فيها العرب المزيد من التنازلات مقابل الحصول على ما هو حق لهم.
وعندما تولى جيمي كارتر الرئاسة عام 1977، خلص هو ومستشاروه إلى أن «عملية الدفع خطوة خطوة» قد وصلت إلى نقطة النهاية. وأنه قد حان الوقت لرؤية ما إذا كان من الممكن تحقيق سلام عربي ــ إسرائيلي «شامل». وكان من رأي كارتر دفع الأطراف العربية إلى مواجهة متطلبات السلام، وهي: الاعتراف والسلام اللذان تحتاج إليهما إسرائيل، مقابل الانسحاب من الأراضي التي احتلت عام 1967 والاعتراف بحقوق الفلسطينيين بالحكم.

حلّ الدولتين

بعد تثبيت مصطلح «السلام الشامل» بمتطلباته المشهورة، جهد من جاء بعد كارتر للدفع بها وتخطي العوائق الغائبة بل المغيبة: كحق الشعب الفلسطيني بكامل أرضه، وسياسة إسرائيل الاستعمارية، وقضية اللاجئين الفلسطينيين. حتى قبل بها الطرف الفلسطيني، إذ وافق رئيس منظمة التحرير الفلسطينية الراحل ياسرعرفات «على حق «دولة إسرائيل» في العيش في سلام وأمن والوصول إلى حل لكل القضايا الأساسية المتعلقة بالأوضاع الدائمة من خلال المفاوضات»، معترفاً بدولةٍ لإسرائيل تبسط سيادتها على 78% من أراضي فلسطين التاريخية، ضمن اتفاق أوسلو عام 1993.
واليوم، وكأحد تجليات قدرة العبارات والمصطلحات على قلب الآيات، فإن الطرف الفلسطيني هو من يسعى إلى هذا السلام، والإسرائيلي يرفض. ويطالب الفلسطيني بدفع العملية كأنه «ملك» أكثر من «الملك»، وخصوصاً بعد الانتفاضة التي انتهت عام 2003، عندما قدمت ما يسمى اللجنة الرباعية للشرق الأوسط (الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة) خريطة طريق تنص على إقامة دولة فلسطينية بحلول 2005 مقابل إنهاء الانتفاضة وتجميد الاستيطان اليهودي في الأراضي الفلسطينية. وبات الطرف الفلسطيني يحلم بالاعتراف له بدولة منقوصة السيادة على 22% من أراضيه، ضمن ما سمي «حلّ الدولتين».

دمج إسرائيل في العالم العربي

ومع تولي دونالد ترامب زعامة العالم، بدأت تتكشف معالم السيناريو الأخير عندما صرّح بأن حلّ الدولتين «ليس الخيار الوحيد».
والآن، هل بقي ثمّة خيار يحافظ على «حق إسرائيل في الوجود» غير تعايش الشعب الفلسطيني مع إسرائيل؟
هكذا يمكن للخطاب أن يحوّل «عملية السلام» الى أسطورة، كانت ضرورية لقضم المزيد من الأراضي الفلسطينية وتمييع القضية بأقل الأضرار الممكنة، فمجلس الأمن الدولي لم يضغط يوماً على إسرائيل مع كل ما قامت بارتكابه من مجازر بحق الشعبين الفلسطيني واللبناني، وكل تلك التعديات على الدول العربية.
تصريحات ترامب هذه، إضافة الى أعمال العنف في المنطقة، وتفاؤل نتنياهو بالعرب «الجدد القدام» بأن الدول العربية «لم تعد تنظر إلى إسرائيل على أنها عدوّ بل حليفة لهم»، إضافة الى رفضه «حلّ الدولتين». كل ذلك يأتي في فصول أسطورة عملية السلام. وإذا ما اكتملت الفصول ورفع الستار عن هذه المسرحية المرتجلة، فسيُحكى بعد أجيال قادمة عن الشعب الفلسطيني الذي سكن يوماً فلسطين، تماماً كما يُحكي عن الهنود الحمر.

زينب عقيل

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...