«أندروماك» عرض فرنسي سوري مشترك في دمشق

11-06-2008

«أندروماك» عرض فرنسي سوري مشترك في دمشق

اختار المخرج الفرنسي جان كريستوف ساييس النسخة الإغريقية من مسرحية «أندروماك»، حين فضّل نص يوربيدس على نص مواطنه راسين، لا لشيء، إلا لأنه مفتون بحلم أن يقدممن المسرحية لغتين على خشبة المسرح كما يقول. وبالطبع لا يغفل المخرج عن أن لذلك مبرره الدرامي القوي فالحكاية تقول إن الإغريق حين انتصروا على الطرواديين ساقوهم سبايا إلى بلادهم، وكانت أندروماك على رأس هؤلاء السبايا. وهي هنا تتحدث العربية حين تكون وحيدة، أو مع رفقاء الأسر، فيما تتحدث بالفرنسية حين تخاطب معتقِليها الإغريق، وبالطبع فإن كلتا اللغتين تساقان بالنيابة عن لغة أخرى، فالعربية كناية عن اللغة الطروادية، والفرنسية كناية عن لغة الإغريق. من دون أن يرمي المخرج إلى تقديم العرب كأسرى معاصرين، فهو يقول إن لا نوايا سياسية لديه، خصوصاً أن كلمته في دليل العرض ألمحت إلى صراع شرق وغرب في العمل، سوى أن لا شيء هناك من الشرق سوى أن أندروماك تنتمي إلى آسيا، حيث طروادة القريبة من بلاد الأتراك. وهنا قد يحلو للبعض أن يشير إلى غرب منتصر وشرق مهزوم. ولكن لا معنى لذلك طالما أن العرض لم يناقش، ولم يشر إلى ذلك.
- لا نوايا سياسية إذاً، فالمخرج يؤمن بأن السياسة تفقر المسرح، ولا إشارات معاصرة، فهدف المخرج أن يقدم العرض مثل قصيدة شعرية معزولة عن مكان أو زمان، بل حتى بالتخلي عن عناصر تشويق مسرحي، أو إبهار تقني. فقد قدم النص الإغريقي، هو الحافل بكثير من الدم والسيوف والمبارزات، بالاعتماد فقط على الممثل، الجسد والحركة، وعلى اللغة. لا ديكور، ولا أغراض سوى سكين واحدة، تستخدم لتقشير التفاح ليس إلا (وهنا بالذات يمكن الإشارة إلى ذلك الاقتصاد الكبير في العناصر، إلى حدّ تبدو معه أصغر حركة بالغة الأهمية والدلالة، ومثالها تقشير تفاحة، الذي يكاد يصير حدثاً على الخشبة). كأنما هناك قصد بالعودة إلى أصل المسرح، من حيث هو كلمة وجسد وحكاية. لكن ما أصعب ذلك في المساحة الهائلة التي كانت اختباراً للممثل الذي لا يسانده سوى الضوء. مساحة مفروشة بالرمل، كأنها تأتي لتسجل حركة الممثلين، وكم كان مبدعاً ذلك الخط الذي رسمته قدما الأسير الولد، ابن أندروماك. وكم كانت مبدعة إطلالة حلا عمران في مستهل العرض، وهي التي لعبت دور أندروماك، وقد أطلّت بفســـتان أحمر لطيف وسط العتم بذراعين عاريتين ظلّتا تحومان ببطء على إيقاع مونولوجها الطويل.
العرض في العموم مشغول على قماشة العتم، حيث جدران المسرح كلها مغطاة بالأسود، وحيث الممثلون في معظمهم يرتدون الأسود، حتى أن حركتهم، وهم يخرجون من وراء ستارة ليعبروا الخشبة باتجاه ستارة أخرى، وهم يلقون ما عليهم من كلام، حركتهم توحي بحركة أشباح يخرجون من جدار ليختفوا في جدار آخر. وهنا يأتي دور الإضاءة لتقدم مساهمة كبيرة في الرسم. كانت ترسم مربعاً حول أندروماك حين تكون أمام أعدائها، فهذا هو سجنها، وغالباً ما يختفي المربع المرسوم بالضوء، والمضروب حولها، حين تكون وحيدة، كأنما تحرّرها وحدتها.
لا شك أن العرض لمن لا يتقن الفرنسية، التي هي معظم العرض لا نصفه، ولم يساعده شريط الترجمة الذي مرّ بخطأ تقني جعله بمعظمه غير مفهوم، فلا وسيلة للفهم غير اللغة، حينها يروح المرء يتلهّى بتتبع الصور، وباكتشاف ممثل هائل مثل تييري بوسك، والحق أن الممثلين في معظمهم كانوا مجيدين، وفي تتبّع الضوء ومصادره، وفي ترقّب بعض كلمات عربية بإلقاء جميل من حلا عمران ولمى حكيم. وهكذا إلى أن ينتهي العرض، الذي أطال حتى غادر قليلو الصبر من المتفرجين. ولكن بالتأكيد ليست هذه علامة إخفاق، فنعرف جيداً عناصر التشويق في المسرح السوري، التي ليست سوى عناصر تخريب للمسرح، بدءاً من تلفيق نصوص تتخفى تحت ستار اليومي، والواقعي، والراهن، وتحت سطوة تقنيات «تدوش» المتفرج ليس إلا.
«أندروماك» ليس واحداً من العروض الضيفة على احتفالية «دمشق عاصمة الثقافة العربية»، وقد تميزت العروض التي استقدمتها الاحتفالية بمستوى مسرحي رفيع، فهذا عرض صنع في دمشق، بالشراكة مع المركز الثقافي الفرنسي بدمشق. وباشتراك ممثلين وتقنيين سوريين وفرنسيين. وهو سيقوم بجولة أوروبية، إلى أن يحطّ في افتتاح مهرجان قرطاج المسرحي في تونس هذا العام.

راشد عيسى

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...