«أحببتـه أكثـر مـن حياتـي».. مراسلات باول تسيلان مع إنغبورغ باخمان

01-02-2012

«أحببتـه أكثـر مـن حياتـي».. مراسلات باول تسيلان مع إنغبورغ باخمان

عن منشورات «لوسوي» في باريس، صدرت مؤخرا في ترجمة فرنسية، مراسلات باول تسيلان مع إنغبورغ باخمان، وهما الكاتبان اللذان وسما بعمق، الأدب الألماني في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. هنا كلمة معدة عن الكتاب، انطلاقا من «لوموند» و«لوفيغارو». تسيلان وباخمان في صورة من العام 1948
التقيا ذات يوم من أيام شهر أيار، العام 1948، في فيينا، في منزل الرسام إدغار جونيه. كان باول تسيلان، قد وصل لتوه من رومانيا، ويبلغ السابعة والعشرين من عمره. غادر بلده، إذ تم إبعاده عنه، واستطاع أن يتخطى فترة الاعتقال التي عرفها، لكنه لم يستطع أن يتخطى قصة موت والديه اللذين قضيا في مخيمات الاعتقال النازي. من جهتها، كانت إنغبورغ باخمان، في الواحدة والعشرين من عمرها، وقد وصلت لتوها من كارنثيا، مدينتها. كانت تشعر بالضياع، وبخاصة بسبب والدها الذي انتسب، من اللحظات الأولى، إلى الحزب النازي في النمسا، وكان أحد أعضائه الفاعلين والناشطين. تنزها في المدينة الخربة مثل «تائهين مسحورين». النسبة إلى باخمان، كانت تشعر بأنها تعيش «بين المجانين والقتلة»، لذلك اعتبرت أن قصتها تشبه «حكاية خرافية»، شبيهة بقصص الساحرات. حلمت بأن تجد قصرا لهذا «الغريب» الذي كان يرتدي معطفا أسود، الذي «أخفاها تحت الخشخاش» والذي قدم لها أول قصيدة افتتح بها مراسلاته معها، كتب لها: «ستزين الغريبة التي إلى جانبك كي تصبح الأجمل». شكلت هذه الغريبة ذات الشعر «الأشبه بالغيم»، بالنسبة إلى تسيلان، «تبرير العبارة»، هذا الشخص الآخر الذي كانت تحتاجه قصائده والعينان «اللتان تنغلقان على مستوى فمي». بعد سنوات من هذا اللقاء، كتب لها قائلا: «كنت، حين التقيت بك، الأمرين بالنسبة إليّ، كنت الحسية والروحانية. وهذا أمر لا ينفصل عندي يا إنغبورغ».
ما بين باريس، التي استقر فيها تسيلان سريعا، وبين فيينا التي بقيت فيها باخمان، إذ لم تستطع مطلقا أن تلتحق به، بدآ بالتراسل: بطاقات بريدية، تيليغرامات يعلن فيها «أفكر بك». وفي رسائله الطويلة بعض الشيء كان يضمنها قصائده المخطوطة التي يقول عنها: «اقرأي يا انغبورغ، إنها لك». لكن بعد هذه الفترة المحمومة، بدأت الرسائل بالتباعد. شعرت باخمان بأن ثمة قطيعة بدأت تتموضع، قطيعة لا مفر منها. حلمت بباخرة «تمنع تسيلان من الابتعاد»، وبدأت الرسائل تختصر أحيانا بكلمة واحدة «أكتبي لي».
في العام 1952، تزوج تسيلان من جيزيل دو ليترينج ونشر في السنة اللاحقة كتابه «خشخاش وذاكرة»، ديوان، تشكل القصائد التي كان أرسلها إلى باخمان، الجزء الأكبر منه. أرسل لها الكتاب الذي حمل الإهداء التالي: «إلى إنغبورغ. جرة صغيرة من الزرقة». بعد ذلك بعدة أشهر، جاء دور باخمان – التي اعتبرت النجمة الجديدة الصاعدة في دنيا الأدب – لترسل إليه ديوانها الأول «الوقت مع وقف التنفيذ» لتكتب عليه الإهداء التالي: «إلى باول. التبادل من أجل أن نتعزى». من تلك اللحظة، بدأ نوع جديد من الحوار بين الكاتبين، الواقفين عند حدود الصمت: حوار عبر أعمالهما المتقاطعة. ثمة حوار صامت، حوار متخيل، تشير إليه الرسائل، استمر إلى ما بعد انتحار تسيلان العام 1970، وإلى ما بعد موت باخمان العام 1973.
لحظة مشتركة
هذا الحوار، إن دل على شيء، فعلى أن الحرب «لم تنته» بعد عند الاثنين، إذ استمرت في عملها البطيء في تدمير المجتمع من الداخل. كل عمل باخمان النثري، كان صرخة في وجهها، كان يصف بدقة الآثار السلبية. ألم تصرخ قائلة: «لا يزال القتلة بيننا». الوسط الأدبي لم يشذ عن ذلك. بدأت المآخذ تنهمر عليها، وبخاصة من تسيلان الذي لم يقدر هذه الشهرة «الهشة» التي بلغتها باخمان على الساحة الألمانية: «لقد أعطتك الحياة كثيرا يا إنغ.. لديك أصدقاء كثر، الكثير من الناس الذين يعتنون بك، أكثر مني». إزاء هذا شعرت باخمان بالذنب، لكن لم تستطع تحديد مصدر هذا الذنب. صارعت كي يصل صوت تسيلان إلى ألمانيا، نظمت له قراءات، دعته عبر مجموعة الـ47، التي كانت تضم مجموعة من الكتّاب الذين يكتبون باللغة الألمانية ويحاولون إبداع أشكال جديدة للكتابة.
لكن الاتهام بالسرقة الأدبية التي أطلقتها أرملة الشاعر ايفان غول أضنت تسيلان لسنوات، أثر ذلك أيضا على باخمان الذي لم ترسل له العديد من الرسائل التي كتبتها له. وحين بعث لها العام 1959، «صرخة حزن» أخيرة، ونسخة من المقالة النقدية التي نشرتها إحدى جرائد برلين عن كتابه «شباك العبارة»، والتي كانت حافلة «بالمعاداة للسامية»، لم تجد ما تقوله، وإن حاولت أن تقوم بردة فعل تجاه ذلك، بمساعدة صديقها الجديد ماكس فريش. أحس تسيلان بالخيانة، وطلب منها الصمت: «الأمر قاسٍ جدا بالنسبة إلي، يا إنغبورغ، أتمنى منك اليوم أن لا تكتبي إليّ مطلقا.. ليس اليوم فقط، بل لفترة طويلة مقبلة».
ومع ذلك، عرف الاثنان لحظة مشتركة أخرى. كان ذلك في العام 1957، حين شاركا معا في مؤتمر أدبي في «ووبرتال»، لحظات وكأنها أعادت إحياء هذا اللقاء السرابي. يومها عاد تسيلان ليغرقها بقصائده، وللمرة الأول اعترف بقصائدها «ها هي كتبنا جنبا إلى جنب». لحظة لقاء، لم تكــن مأمـــولة، ووعد طوباوي مليء بالحب والشعر، خلدتها باخمان في كتابها «مالينا» بالقول: «سيــأتي يوما». ففــي هذه الرواية التي نشرتها بعد سنة من انتحار تسيلان برمي نفسه في نهر السين نجد التالي: «كان حياتي. كنت أحبه أكثر مما أحب حياتي».

اسكندر حبش

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...