غسان الرفاعي: عندما يحولون سارتر إلى «مهرج»

19-04-2010

غسان الرفاعي: عندما يحولون سارتر إلى «مهرج»

ـ 1 ـ تقلص الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر الذي طالما بالغ المفكرون في امتداحه وتملقه ولو كارهين، ثم بالغوا في الافتراء عليه وهجائه ولو عن قناعة، إلى (مهرج سياسي) لا يستحق طرح أفكاره للحوار الجاد. ولولا الإسراف في احتفالات باريس بموت ألبير كامو ومبادرة الرئيس ساركوزي المفاجئة إلى طرح فكرة نقل رفات كامو من مقبرة متواضعة في ضواحي باريس إلى قصر البانتيوم حيث يدفن عظماء فرنسا في كل الميادين، لَما أقدمت بعض أجهزة الإعلام على الاحتفال بمرور ثلاثين عاماً على وفاة جان بول سارتر، إذ يتذكر الفرنسيون أن سارتر كان أكبر مبشر بالكراهية السياسية، في حين بقي كامو رمزاً للاعتدال والتسامح خصوصاً حينما قال في كتابه (كلمات): (إنّني أحمل حقداً على البرجوازية الفرنسية لن ينتهي إلا بزوالي إن ما يقرفني في سلوكها هو تلذذها باضطهاد الآخرين)..

ـ 2 ـ ‏

تؤكد الأوساط الثقافية اليوم أن سارتر لم يعد مطروحاً، وأن كتبه تشكو حالياً من الإهمال الثقافي والفكري، لقد شهدت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية ازدهاراً وتألقاً في الحركة الوجودية حتى إن بعض دور الأزياء ابتكرت ثياباً خاصة بالوجوديين للجنسين ذكوراً وإناثاً، بل إن حياً بكامله هو سان جرمان دو بريه بمقاهيه ومطاعمه ومكتباته كان يضج بالمتحمسين للحركة الوجودية وكان سارتر شخصياً يتردد يومياً على مقهى (الفلور) ويحيق حوله المريدون والمعجبون في حين أن كل أثر للوجودية قد اندثر في هذا الحي الأنيق حالياً. ‏

ثم إن سارترـ كما تؤكد الأدبيات المعاصرة ـ لم يعد مطروحاً كفيلسوف سياسي وان كانت بعض مواقفه تثير بعض النقاش في اللقاءات السياسية ـ الثقافية، إذا سألت عنه في أوساط الشباب في مقاهي سان جرمان دو بريه.. سارتر؟ من هو؟ سيكون الجواب إنه ستاليني أحمق، ثم إن الأحزاب اليسارية لا تتحدث عنه بجدية ولا تستشهد بما قاله ذات يوم في رسالة خاصة إلى ألبير كامو: (لا أجد حولي إلا حريات مضطهدة تحاول أن تتحرر من العبودية الاجتماعية.. إن حريتنا اليوم ليست أكثر من خيار للنضال من أجل أن تتحرر، ثم إن الطبيعة المتناقضة لهذه المعادلة تظهر بكل بساطة ظروفنا التاريخية، ليس المطلوب هو معرفة ما إذا كان للتاريخ معنى أو إذا كان علينا أن نشارك في صنعه، وإنما أن نعطي لوجودنا المعنى الأحسن والأفضل ما دمنا مغموسين في هذا التاريخ حتى الجذور.. لا يحق لنا أن نرفض المساهمة حتى لو كانت ضعيفة..!). ‏

ـ 3 ـ ‏

سئل الفيلسوف باتريك مانيغليه (أنت فيلسوف وعمرك لا يتجاوز الـ 37 عاماً ماذا يمثل لك سارتر حالياً..؟) أجاب: السؤال مستمد من مناخات أسطورية ولا بد من أن تتحرر منها. ‏

إن عبقرية سارتر هي في أن يضع الجميع في موقف مستحيل، نعم إن سارتر مريض، لقد نجح في أن يجعل من مرضه نظرية، يقول: (إن المثقف هو نتاج يستعصي على الفهم وإنه لا يحتل المكان الذي يليق به) بل إنه يتطرف أكثر من ذلك ويقول: (إن المثقف هو الإنسان العدمي الذي يتدخل بما لا يخصه ولا يعنيه، وفي قناعتي أن سارتر حاول أن يقلب قضية شخصية خاصة به إلى مأساة إنسانية أي أن يجد صدى لمشاكله كبرجوازي صغير ولمشكلات كل الملعونين في الأرض ولكن هذا الجهد قد أخفق. إذاً ما النتيجة؟ (ألاّ تكون جدياً) هي الطريقة الوحيدة لإعادة الاعتبار إلى التفكير.. ‏

ـ 4 ـ ‏

لقد عومل سارتر في فرنسا من دون اكتراث ثم عومل كمفكر سيئ السمعة، لقد ارتكب أخطاء جسيمة أثناء الحرب الباردة ثم تصرف كجبان إبان الاحتلال النازي لفرنسا ولا تزال سمعته السياسية في تدهور وانحدار. وكما يقول أحد الأساتذة في جامعة السوربون: سارتر يشكل عبئاً على المثقفين والكل يحاول التملص من هذا العبء واستبداله. ‏

ولكن في الوقت الذي كانت فرنسا تفتش عن (القمل في رأس سقراطها) كما يقول المثل الفرنسي كان مثقفو العالم في أوروبا وافريقيا وآسيا وأمريكا على اتفاق على أن رسالة سارتر هي أرقى رسالة وأن مؤلفاته نقاط علام في خريطة الاستقامة والنزاهة. وكما جاء على لسان روسول أحد كبار مثقفي الولايات المتحدة في اجتماع عام في 20 تشرين الثاني 2009: (صوت سارتر مسموع أكثر من أي وقت مضى بسبب وصول أوباما إلى البيت الأبيض.. إن ما كتبه سارتر عن العنصرية وفي الدفاع عن الزنوج لا يحتاج إلى مديح.. إذ كتب: (قيل لي إذا لم تكن مواطناً أمريكياً فلا تتحدث عن مشكلة السود. أنت تجازف بإيلام المستمعين إليك. وحتى إذا تحدثت بمزيد من الحذر والحكمة فأنت ستعطي الانطباع بأنك تتدخل في قضية عائلية لا يحق لك التدخل فيها) ثم كتب: (في هذه البلاد التي تتفاخر بمؤسساتها الديمقراطية هناك إنسان من كل عشرة محروم من حقوقه السياسية، يعيش في بلاد حقوق الإنسان هذه 3 ملايين من الذين لا يحق لك الاقتراب منهم، هؤلاء يخدمونك في المطاعم، ينظفون حذاءك، يقفون لاستقبالك في المصاعد، يحملون حقائبك إلى غرفتك في الفندق ولكن لا علاقة لك بهم ولا علاقة لهم بك، هؤلاء يطلق عليهم، مواطنون من الدرجة الثالثة، هؤلاء هم السود) ويضيف: (هناك متسع للأمل في أن يحدث تغير جذري في هذا البلد أي في الولايات المتحدة ..!؟) وقد حدث هذا التغير ودخل باراك أوباما إلى البيت الأبيض وأخذ يغير وجه الولايات المتحدة. ‏

ـ 5 ـ ‏

لقد أنزل المفكر المتأمرك جان روفيل كتاباً إلى الأسواق سماه (هاجس معاداة أميركا) حاول فيه بخبث أن يحفر تحت مشاعر العداء لأميركا لاستجلاء الاسباب ومعرفة الدوافع، لقد أراد أن يطلق رصاصة الرحمة على أعداء أمريكا في أوروبا قبل أن يحطم صنمين، ديكارت (صنم العقلانية) وسارتر (صنم الوجودية) تماماً كما حطم متطرفو الطالبان تمثال بوذا قبل أن تتناثر شظاياهم في مغارات تورا بورا. وأغرب ما في الأمر أن النخب الثقافية الفرنسية استقبلت هذا (المدفع الشرير) بمزيج من المازوشية والشماتة وقبلت بشيء من الرخاوة بإهانة مفكريها: ديكارت وسارتر. ‏

العداء لأميركا لا يعني كراهية الشعب الأميركي، وإنما رفض الهيمنة الأمريكية المتوحشة على مقدرات العالم واستنكار الانحياز الأميركي (الجشع والبشع والظالم) للعدوانية الاسرائيلية البربرية والمسؤولين الإسرائيليين. من الجائز أن نكون معجبين بنمط الحياة الأمريكية بالتاريخ، بالأدب، بالموسيقا ورعاة الأبقار وممثلي هوليود والهامبورغر والكوكاكولا والجينز دون أن ننحاز إلى السياسة الأميركية وغطرستها. ‏

سارتر الذي كتب أقذع هجاء لأميركا بسبب تصفيتها للهنود الحمر واضطهادها للزنوج هو الذي ترجم قصص (فولكنرو دوس باسوس وستاينبك) إلى الفرنسية. ‏

ـ 6 ـ ‏

البارحة قرأت مقالاً لغانز موركانتو (الأستاذ في جامعة هارفارد) ورئيس جمعية (سارتر ما زال حياً) حول الدفاع عن المصالح الأميركية، تمحور حول فكرة واحدة: أن أهم خصلة من خصال العقل الأميركي ـ أو هكذا ينبغي أن يكون ـ هي الإيمان بأن العقل السياسي ينبغي أن يكون من وحي المبادئ الأخلاقية، وليس استجابة للشعور بالقوة والتفوق وهذا القول هو دعوة للمؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة إلى التمسك بالمبادئ الأخلاقية في تعاملها مع العالم ومن المؤكد أن يثير سخط وغضب الكثير من المفكرين والإعلاميين. ‏

أتى الرد من دافيد برودر (وهو رجل أعمال أراد أن ينقلب إلى رجل مبادئ) ـ في صحيفة نيويورك تايمز ـ استهله بالقول: مثل هذا التشخيص للعقل الأميركي سيؤدي إلى انهيار سمعة الولايات المتحدة ذلك أن العالم بحاجة إلى هراوة غليظة لا إلى انجيل أخلاقي. ‏

ـ 7 ـ ‏

ويتبرع برودر - بكل الصفاقة التي يملكها ويتفاخر بها ـ بتقديم فاتورة من الحجج الداحضة من العيار الثقيل: ‏

أولاً: إن ازدياد الحقن الأخلاقية في السياسة الدولية سيؤدي لا محالة إلى الابتعاد عن الواقعية وبالتالي إلى الخرف السياسي، إن الدول الكبرى بحاجة إلى ميكافيلي لا إلى نبي، ثم إن الولايات المتحدة - وهي الدولة الأقوى - لن يسعدها أن ترى نبيها مصلوباً بل لعلها تفضله في خندق الكتروني يضغط على زر لإطلاق الصواريخ العابرة للقارات. ‏

ثانياً: الأخلاقية قد تكون (واجهة) تختفي وراءها السياسة الحقيقية ولكن لا يجوز أن ينشأ تطابق فعلي بينهما.. الأخلاقية تصدر من على المنابر للاستهلاك الشعبي الساذج، ولكن السياسة تطبخ في الغرف المغلقة لتحقق الأهداف المرسومة بكل دقة وعناية. ‏

ثالثاً: الأخلاقية موقف دفاعي متخاذل وليس موقفاً هجومياً شجاعاً.. المهزومون هم الذين يتشبثون بالمبادئ، ولكن المنتصرين يحملون سياساتهم ويزرعونها، حيث يوجدون.. الرجوع إلى الأخلاقية في الاستراتيجية الأمريكية دليل عجز وإفلاس لا دليل صحة وعافية. ‏

ـ 8 ـ ‏

لم يكن عند سارتر إلا إخلاص واحد: خيانة نفسه باستمرار. كان يرفض فكرة الاستمرارية في مسيرة واحدة وكان يبدل جلده باستمرار وكان يكرر: (الحرية هي التي تصنع الإنسان، حرية الإنسان في أن يتنكر لذاته وهذا الانشقاق الدائم لا يتحمل الندم ولا الأسف). ‏

كتب عام 1930: كل لحظة تنتزع مني هي ورقة ميتة لا أريد أن احتفظ بها. ثم كتب عام 1944: إن الأخلاقية الحقيقية هي كابوس الخيانة الدائمة. ثم كتب عام 1946: إنني أضع كل طاقتي فيما أفعله ثم فجأة أتخلى عن كل شيء، إنني أخون وأنا دوماً متحمس لهذه الخيانة..!. ‏

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...