رئيس ظريف للزمن الصعب
لم يكن الياس الهراوي، الواقعي جداً، كما كل أهل الزراعة، ينظر إلى نفسه على أنه "رجل تاريخي". بل لعل رئاسة الجمهورية لم تكن تبدو له قريبة المنال.. لكن مجموعة من المصادفات القدرية تضافرت فذللت الصعاب ووضعت الأمنية في اليد.
لقد دخل الرئاسة بعد فاجعة اغتيال الرئيس المنتخب رينيه معوض الذي انتخب فعلياً في مؤتمر الطائف برعاية دولية وإخراج عربي. وكان على الياس الهراوي الذي باشر مهماته من ثكنة الجيش في أبلح، تحت الحماية السورية، أن يصل إلى بيروت في موكب مموّه ليستقر في بناية عادية قدمها الرئيس الشهيد رفيق الحريري لتكون "المقر المؤقت". وليس إلا بعد إنهاء "التمرد" وإخراج العماد ميشال عون من قصر بعبدا كنتيجة مباشرة لعملية "تحرير الكويت" من "الاحتلال العراقي" والتي قادها الأميركيون وشارك فيها نصف العرب، وسوريا من بينهم، حتى أمكن أن يستقر "الرئيس" في القصر الجمهوري، وأن يستوفي اللقب شروطه.
للتذكير، فإن "التمرد" نشأ لأن رئيس الجمهورية الذي انتهت ولايته في أيلول ,1988 والذي جاء أصلاً كوريث اضطراري لشقيقه الذي انتخب في ثكنة مطوقة بالدبابات الإسرائيلية، قد ظل يعمل لتجديد ولايته ويمنع انعقاد المجلس حتى جاءت اللحظة الحاسمة، فسلّم القصر لحكومة عسكرية انشطرت فور إعلانها نصفاً قابلاً ونصفاً رافضاً... ثم كانت "حرب التحرير" وبعدها "حرب الإلغاء" وكاد لبنان يصبح أثراً بعد عين.
إذن فالياس الهراوي تسلم الرئاسة وهي ممهورة بدماء رئيسين انتخبا فعلاً ثم استحال عليهما أن يمارسا، وبعد تمرد وحربين كانت جميعها ممهورة بالدم، فضلاً عن أنها كانت قد جعلت "الدولة" شاحبة الوجود، مؤسساتها مدمرة ومنهوبة، والميليشيات سيدة الموقف، والقرار في دمشق بتفويض عربي ودولي.
وتحمّل الياس الهراوي أوزاراً كثيرة بينها أن يجري، بعد ثلاث سنوات من تسلمه السلطة، انتخابات نيابية للمرة الأولى بعد عشرين سنة، بقانون رأته الأكثرية "أعرجَ" فقاطعه المسيحيون ولم يتحمس له المسلمون، واستولد قيصرياً سنة .1992
ولأن القرار بقي سورياً، ولأن حرب "تحرير الكويت" اضطرت الأميركيين لتقديم جائزة ترضية لحلفائها بالرغم منهم، من العرب، فقد أعيدت الروح إلى مفاوضات "الحل السلمي لأزمة الشرق الأوسط" فكان مؤتمر مدريد.
وفي ظل الافتراض بأن هذا الحل آتٍ لا محالة بين يوم وآخر، فقد تم تمرير التمديد للرئيس الياس الهراوي، الذي كان الرئيس رفيق الحريري أول من زكاه لدى القيادة السورية، ثم واصل دعمه مع سائر "حلفاء" الخط وفيهم الرئيس نبيه بري ووليد جنبلاط وسائر "الاقطاب" أو الذين سيغدون أقطاباً بعد حين..
وبرغم الاعتراضات المبدئية والعملية، فقد أمضى الياس الهراوي تسع سنوات كاملة في رئاسة الجمهورية، مسجلاً بذلك سابقة أنه أول رئيس يمدد له ويكمل فترة التمديد (بينما بطل الاستقلال
بشارة الخوري قد اضطر إلى الاستقالة في منتصف الولاية الثانية)..
- لم يبنِ الياس الهراوي دولة نموذجية في لبنان، ولا كان بوسعه حتى مع شركائه وحلفائه، أن يبنيها.
لكن يحسب له ولهم أنهم أعادوا صورة للدولة كانت قد غابت مع انفجار الحرب الأهلية سنة 1975: أنهيت الحرب، وتمت إعادة بناء المؤسسات، ولو على عجل، وأعيدت الحياة إلى قلب بيروت، وانفتحت المناطق بعضها على البعض الآخر، وعاد المواطنون إلى التواصل، وأعيد بناء الجيش وقوى الأمن، ودائماً بمساعدة سورية ومتابعة يومية "أزالت" الحدود بين "الدولتين"، لا سيما وقد ربطتهما "معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق" بمؤسساتها السياسية والعسكرية والاقتصادية (وبغض النظر عما تم تنفيذه من بنودها).
على أن أبرز وجوه الياس الهراوي أنه بظرفه وخفة دمه وأسلوبه المباشر في الحديث والتصرف قد كسر الكثير من تقاليد الرئاسة، فجعلها "شعبية"، وصار المواطن يشعر بإلفة مع هذا الزحلاوي الذي يطلق كلامه عفوياً وبلا بروتوكول، سواء مع السياسيين في لبنان أو مع المسؤولين في سوريا، أو حتى مع زواره الرسميين من ممثلي الدول الأجنبية...
مع غياب الياس الهراوي يفتقد لبنان لبنانياً سياسياً محترفاً، مناوراً متميزاً، ورئيساً أضحك اللبنانيين بعدما كان غيره قد أبكوهم، ورفع الكلفة بين المقام الرسمي وبين الناس فحفظوا له من نوادره وتصرفاته الجريئة في خروجها على البروتوكول ما يجعلهم يبتسمون كلما تذكروه، في حين أن رئاسة الجمهورية كثيراً ما أحزنتهم حتى البكاء.
طلال سلمان
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد