ماريو بارغاس يوسا: دمشق جذر مهم في ثقافتي
ولد يوسا في مدينة اريكيبا (البيرو) في 28 آذار 1936.قضى فيها سني طفولته الأولى مع والدته وخالاته ثم انتقل الى العاصمة ليما للعيش مع والده ،كتب يوسا عن ألم تلك الفترة واعترف بأنه يكنّ لوالده الكثير من مشاعر الخوف لذلك لجأ الى القراءة ثم الكتابه باعتبارهما الملاذ الآمن من الوحدة والخوف من الأب ولدغات الشعور بالحنين والفقد لأمه وخالاته، وقد ألحقه والده بالكلية العسكرية ليقضي على رغبته في أن يصبح كاتبا.. لكنه كان يملك الاصرار الجدي على التحدي، فدرس الآداب والفلسفة في جامعة سان ماركوس في ليما، نشر قصصه القصيرة الأولى في تلك الفترة وحصل على جائزة اتاحت له السفر الى فرنسا والحصول على منحة، فيما بعد حصل على الدكتوراه في الآداب من جامعة مدريد، نال العديد من الجوائز الادبية العالمية، وهو مرشح بشكل دائم لجائزة نوبل.
لدى يوسا تأملات عميقة يبدو انها بدأت منذ الطفولة، تأملات طفل وحيد مستوحد في ذاكرته حقل آثار سيكولوجية مليئة بالألم والحنين، خليط من ذكريات قديمة تواشجت مع قضايا ساخنة وعنيفة وفساد سياسي كان يراها كل يوم في بلده البيرو وفي دول أميركا اللاتينية، تلك التأملات تحولت الى مرويات على الورق، نقل فيها عالما فريدا وغريبا يشبه أحلام البشر وتأملاتهم المسكوت عنها.. ببساطة احلامه المكتوبة لم تكن تأملات هروب، إنماكانت تأملات انطلاق وهبوب غالبا تحمل خاصية قابلة للاتصال مع الآخر في أي مكان في هذا العالم، الآخر/ القارئ الذي تغذيه بصور وأحداث، تكثف تأملاته وتدعوه للمشاركة في تلك العوالم المتخيلة.
من رواياته المعروفة المدينةوالكلاب ـ محادثة في الكاتدرائية ـ امتداح الخالة ـ حفلة التيس ـ الفردوس على الناصية الأخرى ـ وأخيرا رواية شيطنات الطفلة الخبيثة التي صدرت الشهر الفائت ، كتب القصة القصيرة والمسرح والدراسات، كتب مقالات سياسية يناصر فيها قضية الشعب الفلسطيني، وحقه في دولة مستقلة جمعها في كتاب صدر حديثا.
أثناء زيارته لدمشق قدم محاضرة في جامعة دمشق بإشراف مركز ثرفانتس الاسباني عن ادب أميركا اللاتينية ـ الرواية في الادب المعاصر ـ بدأها: كان حلمي ان ازور دمشق لانها تعني لي الكثير وتاريخها وثقافتها هما جذر مهم في ثقافتي الاسبانية وهي مرتبطة بمخيلتي مع قصص ألف ليلة وليلة.
أعرف ان مؤلفات أدب أميركا اللاتينية وصلت اليكم، لكن كيف وصل هذا الأدب الى العالم اليوم؟ كيف اكتشف؟
عندما كنت شابا ادرس في الجامعة في البيرو كانت دول أميركا اللاتينية متباعدة منقسمة تعاني التجزئة الاقتصادية والسياسية والثقافية، لا تواصل حميمي فيما بينها، بل كانت هناك عداوات بين دولها اضافة لتربع الديكتاتوريات على أغلب سلطات دولها، الحرية السياسية معدومة، والحركة الثقافية مقيدة الى ابعد الحدود، بشكل عام الادب الحي كان مجهولا للناس وموجوداً فقط ضمن دائرة ضيقة، ما كان يحدث في البيرو بلدي كان يحدث في كل بلدان أميركا اللاتينية تقريبا..
في الأدب المعاصر كان القليل من الشعراء والكتاب معروفا على مستوى القارة مثال ـ بابلو نيرودا، كنت أقرأ وأتابع ادب اميركا الشمالية وأوروبا همنغواي، فوكنر والفرنسي فلوبير، بلزاك ذات الشيء كان يحدث لأبناء جيلي في بقية بلدان أميركا اللاتينية..
كنا في الجامعة نناقش أفكار ستالين وسارتر، وقد كنت منجذبا لسارتر احفظ افكاره ومقالاته غيبا.
كان كل اهتمامنا بالادب والسياسة والفلسفة نحو الخارج، كانت عيوننا متعلقة بكتاب أميركا الشمالية وأوروبا..
سافرت 1958 الى أوروبا كنت مقتنعا بسذاجة إن لم اسافر الى باريس لن اصبح كاتبا مهما في يوم ما.. وأنه يجب عليّ ان اكون هناك لأصبح خلاقا.. عشت سبع سنوات في باريس تعلمت فيها ان الكتابه عمل دؤوب تتطلب الشغف والانضباط، أو كما قال فلوبير: يجب تحويل الادب الى نوع من المعيشة..
كنت اظن انني انتمي الى البيرو /كهوية ثقافية/ لاحقا اكتشفت انني انتمي لأميركا اللاتينية فنحن بلدان نتشارك في جملة كبيرة من الامور.. اللغة، الثقافة، المشكلات المتشابهة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.. بدأت هناك في باريس اكتشفت ادب أميركا اللاتينية الخلاق، الذي بدأ يروج له في فرنسا وايطاليا، وتبنته فرنسا باعتباره أدب أقليات... عندما دعي (بورخيس) من قبل ا ليونسكو الى باريس وشارك في محاضرة ادهشت الفرنسيين حيث قال: ان كل لغات العالم لها كاتب واحد هو رمزها شكسبير للانجليزية، ثرفانتس للاسبانية.. الخ.. أما فرنسا لا يمثلها كاتب واحد فقط بل مجموعة كبيرة من الكتاب والشعراء، لقد بهر هذا العجوز الاعمى جمهوراً واسعا من المهتمين ، هذا القادم من مكان بربري يتكلم بلغات عدة، ويجالس كل هؤلاء الكبار ببساطته وابداعه، هذا الرجل فتح الباب الكبير على مصراعيه لادباء ومبدعي اميركا اللاتينية على العالم، لقد اكتشفت مع الفرنسيين أدباء قارتي التي كنت اتجهالها بسذاجة.. اكتشفت الفنتازيا، ثقافتنا الخاصة التي تحولت الى أعمال ابداعية.. وبدأت اتعرف على كبار الكتّاب الذين لبوا نداء باريس لترجمة كتبهم... هؤلاء المبدعون الجدد المتجددون الخلاقون الذين لا يقلدون احدا.. مواضيعهم غرائبية، وتمتلك في الوقت نفسه تقنيات ادبية جديدة في الشكل والمضمون.
فعملت مع كبار الكتاب في اليونسكو ـ قسم الترجمة ـ من الكتاب المهمين الذين وضعوا بصمة مهمة متميزة في الادب اللاتيني الارجنتني كورتازا روايته (الحجلة) التي كسرت التقاليد القديمة في الأدب المعاصر، احداث الرواية في ثلاث مدن في الوقت نفسه، الأولى باريس الثانية بيونس آيريس والثالثة مكان غير معروف، مختلق، كلها تتلاقى بشكل ما كتلاقي المرايا، الحوار يبدأ بشكل روتيني الى قلق الى غير متوقع حتى تحدث أمور مستحيلة ضمن متاهات مقصودة بدقة متناهية ومشكلات سياسية الخ.. الكاتب كورتازا عندما سئل كيف تتخيل كل هذا؟ يؤكد انه عندما يجلس ليكتب لم يكن يدري ماذا سيكتب مسبقا؟
بعد باريس اكتشفت داراً صغيرة في برشلونة /اسبانيا/ هذا الأدب كان مدير الدار بارار شاعرا مثقفا تحايل على نظام الرقابة في عهد فرانكو لنشر أول رواية لي في اسبانيا في الطبعة الأولى حذف ثماني جمل رقابية، في الطبعة الثانية لم يلتزم صاحب الدار بارار بشرط الرقابة وطبعها دون حذف، هذه الدار انشأت أول الجسور بين كتاب أميركا اللاتينية واسبانيا..بعدها بدأ ماركيز بنشر رواياته في اسبانيا (مئة عام من العزلة) هذه الرواية التي رفضت الانعزال، رفضت الفكر الضيق، وأحداثها ممكن ان تحدث في أي مكان في العالم وبإمكانها محاورة اي ثقافة أخرى ليست الفنتازيا فقط ما يميز هذه الرواية، بل هي حولت التجربة المحلية في الادب المعاصر الى تجرية عالمية اضافة للنثر البديع واسلوبية شفافة بلغة اسبانية واضحة بسيطة تصل الى أي قارئ كموسيقا عذبة تذكرنا بأحاسيس الطبيعة الكاريبية، أصبحت أميركا اللاتينية ليست القارة البعيدة التي تعاني من انظمة استبدادية متخلفة اجتماعيا واقتصاديا، يحكمها الاقطاع الظالم اجتماعيا في الريف، والعساكر في المدن، وتجار السلاح والمخدرات والعصابات تؤجج الصراعات والتناحر بين دولها..
هذه القارة المتخلفة التي يتباهى حكامها بكبت الحريات، أنتجت ادباً عالمياً وأدباء من الصف الأول بامتياز...
هناك من يقول اننا ظاهرة (البوم) Boom الانفجار الادبي الفجائي لمجموعة كتاب من أميركا اللاتينية.. هذا الكلام غير صحيح، إن هؤلاء الكتاب يكتبون منذ زمن بعيد لكن الغرب في لحظة ما وبعد تعرفه على بورخيس اكتشف اننا لا ننتج فقط حروباً اهلية، نزاعات دكتاتوريات وإنما ادبا متميزا..
إن السياسيات المحلية فيما يخص السياسية في بلدان أميركا اللاتينية تخنق أي تطور أما في مجال الثقافة فالوضع مختلف برغم تفشي الجهل واقتصار القراءة على النخبة.
كان الكتاب يركزون قراءاتهم في التراث المحلي والعالمي الغربي، الشرقي الآسيوي (أوكتافيوباث)، (بورخيس) (باث) اهتم بدراسة الاساطير واستخدام لغات عدة تعلمها ليصل الى الثقافات الهندية والصينية، تعلموا اللغات الحية للاطلاع على الفلسفات والثقافة الادبية في العالم.. (سونوتي) اكتشف فوكنر وترجمه.. بترو بارامو المكسيكي ألف قصصاً قصيرة مليئة بالخيال وبعوالم جديدة واهتم بتقنية اسلوب اللغة.
وفان رنخو اهتم بالادب الأميركي الحديث واشتغل نقديا على اعمال فوكنر..
كيف حركت اللغة الاسبانية كل هؤلاء الكتاب وجعلتهم يستفيدون من التراث الثقافي، الاساطير المحلية، التنوع السكاني ، التلاحق بين الثقافة المحلية والعالمية ويكتبون أدبا يحمل روحا جديدة في اسلوب اللغة والسرد والشكل الى حدود الغرائبية الممتزجة بخيال ليس له حدود..
في الماضي.. أقصد بدايات احتكاكنا بأوروبا قبل عام 1970 واعتراف العالم بأدب حداثي ينتمي لمنطقة خلاقة تنتج ابداعا ذا خصوصية..
في تلك البدايات كنا لا نعرف بعضنا البعض لا نقرأ لبعضنا ولا نعترف بمبدعينا.. كنا نشعر بالدونية، بورخيس الذي عرف في باريس وكل تقويمات الفرنسيين كانت حاسمة في تحويله الى احد اهم كتاب اميركا اللاتينية، لم يكن معتبرا في الارجنتين إلاعند القلة ـ النخبة ـ عندما قال الغرب انه مهم قالت عنه كل الارجنتين انه مهم، اليوم اختلف الوضع نحن نتصل ببعضنا البعض، نتواصل، نقرأ ونتابع بعضنا البعض، اليوم نقرأ ونقوّم ادبنا اللاتيني دون الشعور بالدونية.. وقد ظهر كتاب وكاتبات جدد من الشباب يقدمون الجديد كل يوم، دون ان يعيشوا معاناة عشناها ودون ان يجاهدوا ليثبتوا انفسهم، فدور النشر تهتم بكتاب أميركا اللاتينية والكتاب يحصلون على حقوقهم المادية، ويعيشون حياة مريحة مرفهة الى حد ما..
إن الادب اللاتيني في الشعر والرواية حي يتجدد اليوم، لدينا شاعرات وكاتبات روائيات متميزات وأيضا مزيد من الكتاب الجدد، الأدب اللاتيني فقد المركزية وانتشر، ان المحلية غير المنفتحة تخنق الأدب، لكن الأدب اللاتيني انطلق من المحلية المنفتحة على ثقافات العالم المعاصر ليصبح عالميا..
في المؤتمر الصحفي الذي سبق محاضرته اجاب على بعض تساؤلات الحضور حول تجربته الخاصة وبعض اعماله..
عن الأدب قال: الأدب يعبر عن جميع انواع خبرات الحياة الانسانية والسياسية لا يمكن استثناؤها من تاريخ الحياة لاسيما في بلدان العالم الثالث لأن المشكلات الاجتماعية ليست محلولة، انظمة قمع، اضطهاد، سياسة التمييز، حقوق الانسان، حرية التعبير، حرية النقد، ليست محلولة عندنا وهذا يؤثر في النشاط الابداعي الخلاق..
لكن الادب يصبح مشكلة عندما يتحول الى دعاية الى التزام جاف يهمل النواحي الجمالية والفنية وحياة العصر، لا يوجد ادب كبير لايصف ويتدخل في هموم الناس من أصل سياسي..
وعن علاقته بالثقافة العربية قال: من منا لم يقرأ ألف ليلةوليلة لقد قرأتها وأنا طفل (كقصص مصورة) وقرأتها وأنا فتى ثم قرأت النسخ الثلاث المختلفة من ألف ليلة وليلة الموجودة في العالم وأنا شاب بالطبع.. بورخيس كتب عن الف ليلة وليلة ، كذلك كوليتسولو كتب عن شخصية شهرزاد... ألف ليلة وليلة لها تأثير على اعمالي حيث أشابك في روي القصص كما فعلت شهرزاد لألفت انتباه السلطان!
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد