فلاسفة حياتي لـ“ادغار موران”

22-11-2013

فلاسفة حياتي لـ“ادغار موران”

تحت هذا العنوان نشر ادغار موران كتابا ممتعا حقا. إنه يشبه السيرة الذاتية الثقافية وأحيانا الشخصية. والفكرة جذابة في الواقع ومفيدة. أتمنى لو أن المثقفين العرب يتحدثون لنا عن مسارهم الوجودي ومن هم المفكرون الذي أثروا عليهم وكانوا بمثابة المنارات لهم على درب الحياة الطويل. كنت قد سمعت بالكتاب من قبل ولكن لم أستطع الحصول عليه الا في مكتبة “بايو” الأنيقة وسط نيوشاتيل. لا ينبغي أن أكون منكرا للجميل. فقد اشتريت العديد من الكتب الهامة من مكتبة “كليلة ودمنة” أو مكتبة “الألفية الثالثة” في الرباط العامرة. وقد اغتنت مكتبتي الشخصية بها. هذا ناهيك عن مكتبة “دار الأمان” الضخمة الموجودة خلف وزارة العدل والمتخصصة بالكتب العربية. ولكن من الواضح أن مكتبات فرنسا وبلجيكا وسويسرا حيث مررت مؤخرا أغنى من مكتباتنا بكثير وذات امكانيات هائلة ولذلك تجد فيها كل ما تريد. من هم الفلاسفة الذين أثروا على ادغار موران وحلوا له مشاكله الفكرية بل وحتى الشخصية في مختلف مراحل حياته؟هذا هو السؤال الذي يطرحه الكتاب. لن أستطيع الاحاطة بهم كلهم في مقالة واحدة! ولكن لا بأس من تعداد أسمائهم قبل التوقف عند بعض المحطات الأساسية. انهم على التوالي: هيراقليطس، وبوذا، ويسوع، ومونتيني، وديكارت، وباسكال، وسبينوزا، وجان جاك روسو، وهيجل، وماركس، ودوستيوفسكي، ومارسيل بروست، وفرويد، ويونغ، ومدرسة فرانكفورت، وهيدغر، وفلاسفة العلم كباشلار،والسريالية،وحتى بيتهوفين!

ادغار موران وهيراقليطس

يقول ادغار موران عن فيلسوفه الأول هيراقليطس ما معناه: لقد رافقني هذا الفيلسوف اليوناني القديم دائما. ولا أعرف في أي لحظة من لحظات حياتي اكتشفته واطلعت عليه. هل كان ذلك قبل اكتشافي لهيغل أم بعده؟ الله أعلم. ولكن الشيء المهم هو أنه كان يتجاوب مع تساؤلاتي ويلبي طموحاتي. لقد وجدت لديه بشكل ساطع التناقضات الأساسية الكبرى التي لا حل لها أو لا يمكن تجاوزها والتي غذت مسار حياتي. لقد ساعدني هيراقليطس على تحمل مسؤلية التناقضات التي تمزقني: كالتناقض بين الايمان والشك مثلا، أو بين الأمل واليأس، أو بين العلم والشعر، أو حتى بين العقل والجنون. . أفهمني أنه ينبغي أن نضطلع بكل ذلك دفعة واحدة. فالانسان ليس عقلا كله ولا جنونا كله وانما خليط. صحيح أنه يوجد تناقض بين هذين الحدين المتطرفين ولكن يوجد تكامل أيضا. فالكائن الانساني على عكس ما نتوقع لا يعيش بالعقل فقط وانما بالجنون أيضا. هناك حاجة ماسة الى الشطحات الجنونية في بعض اللحظات. بعضهم يدعوها بلحظات الانخطاف أوالنشوة والذهول. لقد أفهمني هيراقليطس “أننا نحيا بالموت ونموت بالحياة”. لقد علمني كيف أجمع بين المتناقضات. لقد علمني أن: “البشر آلهة ميتون،والآلهة بشر خالدون يحيون من موتنا ويموتون بحياتنا”. والواقع أن الآلهة يولدون من بنات أفكارنا ثم يفلتون من عقالهم ويسيطرون علينا في نهاية المطاف!. . ثم يختتم ادغار موران كلامه عن هيراقليطس قائلا:عندما تركت زوجتي الأولى تركت لها كل شيء: الشقة والأثاث وحتى حسابي في البنك! ولم آخذ معي الا عشرة كتب من بينها هيراقليطس. حلو!

ادغار موران وسبينوزا

ننتقل الآن الى علاقته بسبينوزا الذي هو يهودي مثله وخارج على الارثوذكسية اليهودية، أي الانغلاقية اليهودية، مثله أيضا. ولذلك يقول منذ البداية بأنه يشعر بالانصهار الكامل في سلالة سبينوزا. فهذا المفكر الذي عاش في القرن السابع عشر خرج على اليهودية كليا ورفض الايمان بوجود دين سماوي، أو وحي خارق للطبيعة،أو اله خالق متعال على الكون. وكان ذلك يعتبر أكبر فضيحة في ذلك العصر وعليها تقطع الرقاب. كان يعتبر كفرا ما بعده كفر. وأنا شخصيا لا أتبناه اطلاقا. ففي كتابه الشهير:“مقال في اللاهوت السياسي” يحصر سبينوزا الدين بمضمونه الأخلاقي فقط ويطرح كل ما تبقى من عقائد وطقوس. بالنسبة له الدين هو المعاملة فقط. فاذا كنت نزيها مستقيما في تعاملك مع الآخرين فأنت أكبر مؤمن حتى ولو لم تعتنق أي دين على وجه الأرض. كان سبينوزا يقول عبارته الشهيرة: “الله أو الطبيعة اذا شئتم”. . بمعنى أن الطبيعة هي الله، والله هو الطبيعة أي كلية ما هو موجود. وهذا يشبه الى حد كبير مصطلح وحدة الوجود عندنا في الفكر الاسلامي. وبالتالي فدين سبينوزا هو دين المحايثة الأرضية لا التعالي السماوي. ويرى ادغار موران أن حداثة سبينوزا الرائعة تكمن هنا. فالطبيعة بالنسبة له خلاقة بشكل ذاتي وليست بحاجة الى أمر من السماء لكي تخلق وتبدع. وهذا يعني أنه ينبغي أن نموضع الابداع الخلاق داخل الطبيعة أي داخل العالم الحي، وبالطبع داخل العالم البشري بالدرجة الأولى. هذا التصور صدم كل أتباع الأديان التوحيدية من يهود ومسيحيين ومسلمين ولا يزال يصدمهم حتى اليوم. وأنا شخصيا أختلف معه ولكني أحترمه. فله وجاهته أيضا. هذا من جهة. وأما من جهة أخرى فقد وصل الأمر بسبينوزا الى حد رفض احدى العقائد الأساسية في اليهودية ألا وهي: مقولة شعب الله المختار. فسبينوزا يرى أن الفرد اليهودي لا يمتلك أي صفة أو موهبة تضعه فوق الآخرين. ولا يوجد أي فرق بينه وبين الانسان غير اليهودي. بل ويصل الأمر بسبينوزا الى حد القول بأن العبرانيين لم يتفوقوا على الشعوب الأخرى بالعلم والايمان و لا بالتقى والورع أو الاستقامة الأخلاقية. وبالتالي فان مقولة “شعب الله المختار” التي تشكل احدى العقائد الأساسية في اليهودية خاطئة ولا معنى لها. كبرهان على صحة كلام سبينوزا نقول: لقد فقد اليهود معظم رصيدهم الأخلاقي بسبب ما فعله الصهاينة من عدوان متواصل على فلسطين وشعبها. ومعلوم أن رصيدهم كان كبيرا بسبب الاضطهاد أوالاذلال الذي تعرضوا له على مدار التاريخ تقريبا ما عدا الفترة المعاصرة. والشرفاء منهم يشعرون بذلك كل الشعور ويندمون أشد الندم على ما حصل. . والحل الوحيد هو أن يضغط الضمير اليهودي العالمي على قادة اسرائيل المتطرفين لكي يقبلوا بدولة فلسطينية الى جانب الدولة الاسرائيلية. فهذا أضعف الايمان. ثم ينبغي أن يعتذروا للشعب الفلسطيني عما فعلوا به من تنكيل وتعذيب وتدمير على مدار ستة عقود على الأقل.

لكن لنعد الى سبينوزا بعد كل هذا الاستطراد. يقول ادغار موران:لقد كفر حاخامات اليهود سبينوزا منذ القرن السابع عشر وحتى اليوم. وعندما أراد بن غوريون ازالة حكم التكفير عنه ووجه بمقاومة عنيفة من قبل الحاخامات المعاصرين. بل وحتى الفيلسوف المعروف ايميل ليفيناس رفض رفع تهمة التكفير عن سبينوزا. ومع ذلك فالبعض يعتبره أحد كبار فلاسفة العصر! ولكن على ما يبدو ظل في أعماقه يهوديا متعصبا. والدليل على ذلك أنه ليس فقط كفّر سبينوزا وانما خوّنه! يقول بالحرف الواحد: “لقد ما رس سبينوزا تأثيرا فكريا حاسما ومعاديا لليهود. وبالتالي فهو خائن لشعبه”. انتهى كلام ليفيناس المخجل الذي لا يمكن أن يصدر عن فيلسوف حقيقي. ولذلك فان ادغار موران يصنفه في خانة الأصوليين اليهود المتزمتين لا في خانة المفكرين الأحرار. على أي حال فقد ظل سبينوزا على مدار العصور مفكرا ملعونا، منبوذا، هامشيا، على الأقل بالنسبة للأصولية اليهودية المتعصبة وكذلك المسيحية أيضا. انهم يبصقون عليه ما ان يذكر اسمه ويبتدئون بالشتم واللعن. . في الواقع أن ادغار موران يرى نفسه في سبينوزا. فهو أيضا تعرض لهجوم متعصبي اليهود الذين قدموه الى المحاكمة بسبب مواقفه الشجاعة المتعاطفة مع عذاب الفلسطينيين ومحنتهم. لقد اعتبروه خائنا هو الآخر أيضا. .

هناك سبب آخر يدفع ادغار موران الى الاعجاب بسبينوزا. فالفيلسوف الشهير أعلن “الحقد على الحقد، والكره على الكره”. لاحظوا العبارة ما أجملها. . وبنى حياته على الحب،حب الآخرين أيا تكن عقائدهم وأصولهم ومنابتهم. فالناس الطيبون ليسوا موجودين في أبناء عقيدتنا وديننا على عكس ما يظن المتعصبون وانما في كل مكان. وأحيانا يكون أبناء طائفتنا أو مذهبنا من أحقر الناس. ولهذا السبب رفض بقوة كل أنواع التكفير والنبذ والاضطهاد. وتتجلى حداثته السياسية بشكل مدهش بل ومذهل وسابق لأوانه بكثير في رفضه للخلط بين الدين/والسياسة أو استغلال الدين لأهداف سياسية. ومعلوم أنه رفض بشكل قاطع السماح لمتعصبي اليهود والمسيحيين بالمشاركة في العملية السياسية وادارة شؤون البلاد. فكل من يبني حياته وعقيدته على تكفير الآخرين يشكل خطرا على المجتمع وينبغي استبعاده بأي شكل من الساحة السياسية.

ادغار موران وجان جاك روسو

لماذا يعجبه روسو؟ لماذا يحبه؟ لماذا يمثل أحد المفكرين الأساسيين الذين أثروا بشكل حاسم على مساره الفكري؟ لأنه في عز عصر التنوير صرخ قائلا: العقل وحده لا يكفي يا جماعة! يقصد العقل الناشف البارد المجرد من رطوبة العواطف الانسانية. لقد أرهص تقريبا بما سيفعله هيغل من بعده عندما ميز بين العقل الحي المنعش/والعقل التجريدي البارد. جان جاك روسو فاجأ الجميع عندما قال لهم بأن العواطف والمشاعر الانسانية لا تقل أهمية عن العقل ان لم تزد. فما معنى حضارة بدون نزعة انسانية، بدون قلب خفاق؟ ما معنى حضارة بدون أخلاق؟ هذا ما لم يفهمه فولتير أو ديدرو والموسوعيون الذين اعتقدوا بأن العقل النقدي وحده يكفي. لا ريب في أنه ضروري جدا لتبديد الخرافات الدينية وتفكيك الانغلاقات التراثية: أي كل أنواع التعصب الطائفي و المذهبي. ولكنهم أخطأوا اذ ظنوا بامكانية استئصال الدين أو العاطفة الدينية ذاتها. أخطأوا اذ ظنوا بأن الدين اختراع عبثي من قبل الكهنة. الدين أعظم من ذلك بكثير. لم يستطيعوا التفريق بين التعصب الديني/ والدين. أما روسو فقد عرف كيف يفرق بينهما. ولذلك كانت فلسفته أعمق منهم وأبعد نظرا. وربما لهذا السبب قال غوته جملته الشهيرة: فولتير أغلق العالم القديم وجان جاك روسو دشن العالم الجديد. يقول ادغار موران هذا الكلام الهام:

ينبغي الاعتراف بأن فلاسفة الأنوار لم يفهموا أو قل لم يتفهموا بعض الأشياء الأساسية كالدين والأسطورة المثالية الرائعة والجنون والمشاعر الوجدانية أو الانفعالات العاطفية. كل هذه الأشياء كانت خارج عقلهم التبسيطي وغير المعقد أو غير المركب. فالدين بالنسبة لفولتير مثلا لم يكن الا عبارة عن حيلة لخداع الشعب. وهذه العقلانوية الضيقة لم تفهم الجذور العميقة للعاطفة الدينية وكذلك حاجة الانسان الى الدين في مواجهة الفناء الأبدي والقضايا الماورائية الميتافيزيقية. لم يفهموا حاجة الانسان الى النجاة في الدار الآخرة،وكذلك حاجته الى الأساطير الجميلة والمعجزات التي تعزيه عن محدوديته وتفتح له الأمل بحياة أخرى،حياة الأبدية والخلود. هذا ناهيك عن الجنة والحور العين. (اضافة خبيثة من عندي!). ولذلك فان فلاسفة الأنوار غطسوا في العقلانوية لا العقلانية:أي في الهذيان التجريدي لعقل غير واع بمحدوديات العقل ونواقصه. وهذه العقلانوية التبسيطية ولدت بدورها أسطورة أخرى غير أسطورة الدين هي التالية: الاعتقاد بامكانية التوصل الى عالم عقلاني بالكامل، و كذلك التوصل الى طبيعة مسيطر عليها كليا بواسطة التقنيات التكنولوجية. وهذا هو مضمون عبارة ديكارت الشهيرة: ينبغي أن نصبح أسيادا على الطبيعة ومالكين لها ومتحكمين بها عن طريق العلم والتكنولوجيا. ومعلوم أن كل فلاسفة الأنوار خرجوا من معطف ديكارت زعيم العقلانية الفرنسية والاوروبية بدون منازع. وهكذا راحوا يعتقدون بأن البشرية كلها سائرة على طريق التقدم اللانهائي لا محالة.

لا ريب في أن مشروعهم أدى الى خلق حضارة علمية وتكنولوجية كبرى. ولا ريب في أن جان جاك روسو هاجم أحيانا الحضارة بطريقة فجة ومبتسرة. ولكن من منا لا يرى أنه كان محقا في ادانة الجانب اللاانساني من الحضارة الحديثة؟ لقد رأى الى بعيد البعيد واستبق على عصره بكثير عندما حذر من التقدم المادي التكنولوجي الذي لا يرافقه تقدم أخلاقي أو انساني أو عاطفي. والواقع أن كل ما خشي منه أو تنبأ به حصل بعد موته بمائتي سنة أي في عصرنا الراهن. فالأمراض والاختلالات الناتجة عن حضارة الغرب أصبحت واضحة للعيان. نذكر من بينها سيطرة العقل الحسابي البارد على عقلية الغربيين وكذلك الطمع بالربح والشره الى المال ورأس المال والفائدة وعبادة العجل الذهبي. ونذكر من بينها الجشع الانتاجوي الهائل الذي أدى الى تدمير الطبيعة والبيئة والمناخ وظهور أمراض خطيرة كالبقرة المجنونة والاستنساخ وسوى ذلك. وكل ذلك ناتج عن الرغبة في الانتاج بأي شكل من أجل تحقيق الربح بأي شكل. وبالتالي فادانة روسو المسبقة للحضارة الغربية كانت مبررة ومشروعة الى حد كبير. صحيح أنه لا يمكن اختزال الحضارة الغربية الى هذه النواقص،ولكن لا يمكن اهمالها أيضا. هناك جوانب ايجابية كثيرة للحضارة الغربية الحديثة. أقول ذلك وأنا أكتب هذه الكلمات من نيوشاتيل في سويسرا حيث أكاد ألمس الحضارة المادية والمعنوية والجمالية بيدي لمسا. وقد تجولت صباح أمس حول البحيرة ساعات وساعات برفقة السيدة الفاضلة والأخت المحترمة التي استضافتني وتخيلت أني في الجنة في بعض اللحظات. . جمال طبيعي وحضاري لا يكاد يصدق. ولكن عظمة جان جاك روسو تكمن في أنه كشف عن “التراجع في التقدم”، بمعنى أن ما نحققه من تقدم على صعيد ما قد ندفعه تأخرا على صعيد آخر. هذا لا يعني أن المحصلة صفر،أبدا لا. ولكن هناك مشاكل في الحضارة الغربية كالوحدة الهائلة للبشر،وكالجوع العاطفي بعد أن شبعوا من الماديات،وكفقدان القلب والعواطف الحارة الجياشة التي تذخر بها مجتمعاتنا العربية العزيزة. من هنا جاذبيتها على الرغم من فقرها وتخلفها وفوضاها. . لا أحد ينكر التقدم العلمي والتكنولوجي والفلسفي الهائل للغرب. ليس هذا قصدي أبدا. ولكن هل رافقه تقدم أخلاقي وانساني بنفس المستوى؟ أين هي انسانية الغرب من الفجيعة السورية الكبرى؟أو من فجيعة فلسطين المتواصلة منذ مائة عام تقريبا؟ أو من المجاعات التي تحصد الملايين كل سنة في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، الخ. . وبالتالي فأنانية الحضارة الغربية تقزّمها أخلاقيا. ليسمح لنا أسياد العالم المتغطرس بأن نطرح بعض الأسئلة التي طالما أرقت جان جاك روسو في وقته. انظروا مقاله الشهير عن “أصل الظلم واللامساواة بين البشر”.

هذا لا يعني أن جان جاك روسو كان معاديا للحضارة التنويرية كما زعم خصومه. أبدا لا. والا لما كتب كتابيه الأساسيين اميل والعقد الاجتماعي. ففيهما طرح تصورا عن الانبعاث الجديد الذي ينبغي أن يحصل لكي تتحسن أمور المجتمع فيخرج من الظلامية الدينية والظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي في آن معا. لم يكن جان جاك روسو عدميا أو لاحضاريا. وانما كان يعتقد بامكانية ظهور مجتمع آخر،مجتمع أفضل على كافة الأصعدة والمستويات:من تربوية،ودينية،وسياسية،وأخلاقية. ولكن فلاسفة الأنوار الآخرين لم يفهموا مقاصده العميقة فحاربوه ولاحقوه. كانت نظرتهم تبسيطية متفائلة أكثر من اللزوم. يضاف الى ذلك وجود فرق أساسي بينه وبينهم فيما يخص السياسة والفكر السياسي. ففولتير وبقية فلاسفة التنوير اعتنقوا فكرة المستبد المستنير التي تتضمن احتقارا لسيادة الشعب. فولتير ارتبط بفردريك الكبير ملك بروسيا،وديدرو بكاترين الثانية ملكة روسيا. وكلاهما جنى أموالا طائلة من جراء ذلك. بل وراح فولتير يستهزيء بالأصل الشعبي الوضيع لروسو ويعيره بوالده الساعاتي. والواقع أن روسو كان من عامة الشعب وقد بقي مخلصا لأصله وفصله وجذوره. وكان محبا للشعب في أعماق أعماقه. بل وكان أول فيلسوف في تاريخ الغرب يجعل من كلمة الشعب كلمة مقدسة،كلمة حب واحترام. كان يشخصن الشعب أي يتخيله شخصا. وكان أول من أعلن بأن السيادة العليا هي للشعب وللشعب وحده. بالطبع كان يقصد الشعب المستنير المتربي تربية صحيحة على طريقة تلميذه اميل. وهكذا أزاح المستبدين الطغاة حتى ولو مستنيرين عن عروشهم وأسقط مشروعيتهم. لهذا السبب هاجوا عليه من كل الجهات وأرادوا قتله بعد أن لاحقوه حتى أنهكوه. ألم يرفض رواتب الملوك على عكس فولتير وديدرو ودلامبير؟ومن يرفض رواتب الملوك الا المجنون؟والله سيقصمون ظهره!وقد قصموه.

ولكن عندما اندلعت الثورة الفرنسية رفعوه الى مرتبة الأنبياء واعتبروه أبا للثورة وليس فولتير أو ديدرو على الرغم من أهميتهما وعظمتهما.

ثم يطرح ادغار موران أخيرا هذا السؤال:

أيهما نختار: فولتير ؟ أم روسو؟

وعليه يجيب قائلا: نختار الاثنين معا!

يقول موضحا:في عام 1948 كتبت ما يلي: ان روسو، ولا أحد سواه، هو الروح الثورية الكبرى التي تحلق فوق القرن العشرين. فعنه نتجت ليس فقط النظرية السياسية للثورة والفكرة الديمقراطية،وانما أيضا الثورة الكبرى للحساسية الانسانية والمشاعر العاطفية الجياشة. روسو كان انسانا قبل كل شيء. كان قلبه يخفق بأسمى المشاعر وأنبل العواطف على عكس العقلانويين الناشفين الباردين. أما خصومه الموسوعيون من أمثال ديدرو ودلامبير فقد فككوا الانغلاقات التراثية المسيحية التعصبية بطاقة جميلة خلاقة وذكاء باهر. ولكنهم في نهاية المطاف كانوا يدمرون أسس عملهم الثوري نفسه. فتحت ضربات معاولهم النقدية كانت تنحل أشياء كثيرة كالشخص البشري ذاته. فقد اختزلوه الى مجرد مجموعة من الاحاسيس الفيزيولوجية والآليات البيولوجية وفقد طابعه الانساني. والطبيعة تحولت لديهم الى مجموعة من الاجسام والوقائع المعزولة المفصولة عن بعضها البعض. وأما الأخلاق فقد تحولت لديهم الى مجرد علاقات قوة انفعالية محكومة من قبل قانون الأنانية الفردية. بل وحتى الدين المسيحي الذي هاجموه بعنف وحسنا فعلوا فانهم لم يفهموه على حقيقته وانما اعتقدوا أنه مجرد ظاهرة سطحية من اختراع الكهنة.

ولكن على الرغم من كل ذلك فان ادغار موران لم يعد يرفض الموسوعيين لصالح روسو كما كان يفعل سابقا. صحيح أنه لا يزال يضع فولتير والأنوار في جهة،وجان جاك روسو في جهة أخرى. هناك تمايز واضح بين الطرفين. وليس عبثا أنهم لاحقوه وحقدوا عليه. ولكننا لم نعد مجبرين على اختيار هذا الطرف واهمال الطرف الآخر. فهما متكاملان حتى ولو كانا متناقضين. والواقع أن قادة الثورة الفرنسية جمعوا بينهما بل ووضعوا قبر فولتير الى جانب قبر روسو في البانتيون،مقبرة العظماء بباريس. والحركة الرومانطيقية أيضا جمعت بينهما على يد فيكتور هيغو ولامارتين. والشاعر الكبير آرثر رامبو هضم الأنوار وروسو في آن معا. فهذه الرسالة المزدوجة،أي رسالة فولتير وروسو،أصبحت بمرور الزمن رسالة واحدة تهدف الى تنوير العقول من جهة،والى تحرير المقهورين من جهة أخرى. هذا لا يتناقض مع ذاك وانما يتكامل. وهذه الرسالة الرائعة لروسو وفولتير هي أكبر ترياق يشفينا من سم التعصب الديني والهمجية البربرية للستالينية والنازية والفاشية.

وأخيرا يرى ادغار موران أنه ينبغي علينا أن نهضم الأنوار ونتجاوزها في آن معا. ينبغي أن نهضم طاقتها النقدية الخلاقة التي زعزعت الدوغمائيات الدينية المتحجرة وفككتها. ولكن ينبغي أن نتجاوز عقلانيتها التجريدية السطحية التي ظهر أنها عاجزة عن فهم طبيعة الدين والعقائد والأساطير. وهذا ما فهمه ماركس الذي جاء لاحقا وكان أحد الورثة الكبار لعصر الأنوار. الغريب العجيب أن ماركس الشيوعي المادي الالحادي فهم طبيعة الدين ووظيفته أكثر من فولتير والموسوعيين الفرنسيين! فهو لم يقل فقط بأن الدين أفيون الشعوب. لا ريب في أنه كذلك وبخاصة في المجتمعات الأصولية المحافظة التي تبث البرامج والمواعظ والفتاوى الدينية القروسطية على مدار الساعة. انظر بعض الفضائيات عندنا. ولكنه قال أيضا هذه العبارات الرائعة: “ان الدين هو تأوهات الكائن المحروم،الكائن المظلوم. ان الدين هو تنهدات الكائن المقهور. انه روح عالم لا قلب له ولا روح. كما أنه روح الظروف الاجتماعية التي فرغت من كل روح. . . ان رفض الدين يعني رفض السعادة الوهمية للشعب والمطالبة بسعادته الواقعية الحقيقية هنا والآن. ولكن مطالبة الشعب بالتخلي عن أوهام حالته البائسة يعني مطالبته بالتخلي عن حالة هي بحاجة ماسة الى أوهام. ان نقد الدين ينطوي ضمنيا على نقد وادي الدموع التي يشكل الدين هالتها وذروتها”.

هذا تشخيص ممتاز للوضع ولكنه ليس كافيا لأنه مادي أكثر من اللزوم. والدليل على ذلك أن الدين يظل حاجة ماسة حتى بعد تحسن الظروف الاقتصادية والاجتماعية للشعب. وأكبر دليل على ذلك أن الدين لم ينقرض من مجتمعات بلغت ذروة الحضارة كسويسرا واوروبا الغربية عموما. صحيح أنه لم يعد موجودا على هيئة تعصب أعمى وتكفير واقصاء. فالحروب الطائفية والمذهبية انتهت عندهم منذ زمن بعيد. بالامس مررت أمام كنيسة كاثوليكية في مدينة ذات أغلبية بروتستانتية ولا توجد أي مشكلة. كل واحد يصلي يوم الأحد كما يشاء أو لا يصلي. ولا أحد يسألك لماذا صليت أو لم تصلي! ولكن التساؤلات الميتافيزيقية أمام الموت والفناء الأبدي تظل راهنة. من هنا استمرارية الدين كجواب يعزي الانسان ويحميه من الرعب والخوف. يضاف الى ذلك أن الاشباع المادي لا يكفي لبعض الناس وانما يلزمهم الاشباع الروحاني أيضا.

وفي نهاية المطاف فاننا بحاجة الى العقل والى ما فوق العقل أو ما وراءه كما يقول ادغار موران. ولهذا السبب فانه يحتفظ بكل من روسو وفولتير في أعماق نفسه. انهما في حالة حوار داخل فضائه العقلي. انهما، حتى في تضادهما، متكاملان. والواقع أن روسو لم يكن فقط “عاطفيا هائجا مجنونا” كما يزعم البعض. وانما كان أيضا مفكرا تنويريا من الطراز الأول. وأكبر دليل على ذلك كتاب “العقد الاجتماعي” الذي ألف بطريقة عقلانية صارمة. ثم كتاباته الرائعة عن الدين. فقد صدمت عصره وأصابته في الصميم. ولولا ذلك لما هاجت عليه شتى أنواع الأصوليات والأصوليين.

هاشم صالح

المصدر: الأوان

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...