"عاشوراء" ذكرى حيّة تلهم "العدل والثورة" والوحدة الإسلامية

01-01-2010

"عاشوراء" ذكرى حيّة تلهم "العدل والثورة" والوحدة الإسلامية

عاشوراء ما بين الماضي والحاضر، ذكرى حيّة، ملهمة، نابضة ابدًا "في العقل والقلب والوجدان والحركة والممارسة" لدى ابناء الطائفة الشيعية. من لبنان، الى العراق وايران والبحرين والجزائر وباكستان، وصولا الى ترينيداد وتوباغو وجامايكا... لا يزال الشيعة من المسلمين يبكون حتى اليّوم، وكل سنة، منذ عشرات العقود، الامام الحسين بن علي الذي "استشهد في معركة كربلاء". فهذا الجزء من التاريخ الاسلامي المؤلم يحرك الذاكرة الشيعية خصوصاً، والاسلامية عموما، بشيء من الخصوصية.
وكما يدل عليه اسمها، فان عاشوراء تعني، ببساطة، "العاشر" في العربية. فهي اليوم العاشر من شهر محرم في التقويم الهجري، وترجمتها الحرفية: "في اليوم العاشر". وعند الشيعة، هي يوم عزاء باستشهاد الحسين، يضيئون فيه‎ الشموع ويقرأون‎‎‎ المراثي‎ ويمارسون اللطم، تعبيراً عن حزنهم. وفي بعض المناطق، يحمل عدد منهم السيوف والدروع، ويمثلون المعركة، مجدّدين "البيعة‎ لثأر الله".حشود من الشيعة في كربلاء إحياءً لذكرى عاشوراء

ما بين الماضي والحاضر، تنشط الذاكرة الشيعية، ومعها يرفع بحاثة وعلماء شيعة الصوت للتشديد على ضرورة "التدقيق في مصادر النصّ العاشورائي"، من جهة، وتأكيد "التحريم الشرعي لممارسات عنفية، كضرب الرؤوس بالسيوف أو الظهور بالسلاسل وغيرها..." من جهة اخرى. وييقى تأكيد معلن: "عاشوراء ليست موجهة اطلاقا ضد السنة... وهي تحرّر الشيعة ولا تكبّلهم... وتمثل نموذجا رفيعاً للوحدة الاسلامية".

فضل الله: قاعدة إسلاميّة مشتركة

ماذا تمثل الذكرى في الذاكرة الشيعية؟ "تمثّل جزءاً من التاريخ الإسلامي الذي نستعيده للعِبرة والدرْس، ونأخذه لواقعنا الذي نعيش فيه، ونخطّط فيه لحركة المستقبل في إطار مسؤوليّة كلّ جيل عن صناعة تاريخه"، يجيب الباحث الاسلامي جعفر فضل الله في حديث الى "النهار"، مشيرا الى "اننا لا نحيي عاشوراء لنغرق في مفرداتها في التاريخ، بما قد تتمثّله النفس من عناصر الثأر والحقد والكراهية التي تتفجّر ضدّ من نختلف معهم في الفكر أو في المنهج، انما لننطلق بروح منفتحة على أساس أن نفيد جميعاً من التاريخ ما يقي حاضرنا كثيراً ممّا وقع به الماضون".
وفضل الله من دعاة "بقاء عاشوراء في أصالتها على مستوى الأحداث التأريخية، فلا نقبل عليها زيادات قد تأتي بها طبيعة حركة العاطفة في جانب الإحياء العزائي، إنّما قد ينطلق التعبير عنها في الأسلوب بما يُظهر أهمّية المضمون الواقعي في أبعاده المتنوّعة، انطلاقاً من القواعد الأساسيّة التي حكمت حركة الإمام الحسين في عاشوراء وقبلها، والتي هي قواعد الإسلام التي نزل بها القرآن الكريم وتحرّكت بها السنّة الشريفة".
ويشدد على ضرورة ان "يبقى الخطّ الإحيائي لعاشوراء مرتكزاً على أصالتها النابعة من الإسلام، فلا نقبل في ممارسة الذكرى أيّ شيء قد يسيء إلى رموزها أو يبتعد بها عن بُعدها الإنساني في التعبير لتكون حركة في العنف ضدّ الذات وما إلى ذلك".
وما هو ردّه على قول بعضهم أنّ الذكرى تكبّل المسلمين الشيعة وتمنع تحرّرهم من الماضي المؤلم لينطلقوا في مسيرة مصالحة مع المسلمين السنّة؟ يجيب: "وهل عاشوراء موجّهة ضدّ السنّة؟ وهل جريمة قتل الإمام الحسين ارتكبها من ينتمي السنّة إليهم؟ ليس الأمر كذلك؛ فحركة الإمام الحسين لم تكن حركة شيعيّة- بالمعنى المذهبي- ليكون الواقفون ضدّها يتحرّكون في الفلك السنّي- بالمعنى المذهبي-. هناك حركة إصلاح في الأمة الإسلاميّة كلّها، وكانت مواجهة للواقع الجائر الذي لا يمثّل أيّ خطّ إسلاميّ؛ فيزيد لم يكن يمثّل السنّة، وكذلك إنّ الإمام الحسين كان إمام المسلمين، وهو الذي روى فيه المسلمون قول رسول الله له ولأخيه الحسن: "الحسن والحسين إمامان، قاما أو قعدا".
ويعتبر انّ "القيم التي تؤكّدها عاشوراء هي القيم التي يُنادي بها كل المسلمين. لذلك فإنّ إحياءها إحياءٌ لقيم الإسلام، وهكذا ينبغي أن تكون...".  ويقول: "نجد أنّ المسلمين السنّة يعتبرون أنفسهم معنيّين بالإمام الحسين وحركته، ويُشاركون إخوانهم المسلمين في تعبيرهم عن أصالة عاشوراء الإسلاميّة التي تمثّل في حقيقتها قاعدة إسلاميّة مشتركة بين المسلمين جميعاً".
والسؤال عن تحفظات عن بعض الممارسات الشعائرية في الذكرى يقوده الى مزيد من الشرح: "من الطبيعي أنّ الإحياء الشعبي يمثّل الحضور الوجداني الحيّ للذكرى ورموزها في نفوس الجماهير. ومن المهمّ المحافظة على هذا المستوى من الإحياء، في وقت نجد أنّ من المهمّ والضروري التدقيق في مصادر النصّ العاشورائي، فلا ينطلق التعبير بطريقة لا تعكس المضمون الحقيقي للثورة والقيم التي جسّدتها عاشوراء، والتي لم تكن إلا قيم الإسلام والعزّة والحرّية وتأكيد العدل في حياة المجتمع والإصلاح في أمّة الإسلام وما إلى ذلك". ويرى ان "عادات دخلت في طريقة إحياء الذكرى، ممّا لا تملك أيّ قداسة في هذا المجال، كضرب الرؤوس بالسيوف أو الظهور بالسلاسل، إلى غير ذلك من الأساليب العنيفة المضرّة بالجسد، وما إلى ذلك. فمثل هذه العادات تعتبر محرّمة شرعاً كونها مضرّة بالجسد، أو توجب هتكاً لحرمة خطّ أهل البيت".
بالنسبة اليه، "تنبغي المحافظة على شعبية الخطّ التقليدي لإحياء عاشوراء، وتأكيد عدم انجرافه نحو الروايات غير الموثوقة، أو المخالفة للقرآن، أو الصورة المشرقة لأهل البيت، أو بما زيد على التراث العزائي من أمور انطلقت من ذهنيّات خاصّة قد لا تنسجم مع مفاهيم الإسلام أو قواعده". واذ يدعو الى أن "ينطلق إحياء عاشوراء على كلّ مستوىً من المستويات"، يرى انه "من المهمّ أن يدخل في المسرح والسينما والشعر المنفتح على قضايا العصر والجانب الإسلامي والإنساني في مضمون الذكرى والإنشاد وما إلى ذلك ممّا انفتح عليه العصر من وسائل التعبير".

الشيخ ترمس: كسرت القيود

رأي شيعي آخر... وتبقى الذكرى مهمة، ملهمة. يقول الكاتب والباحث الإسلامي الشيخ أمين ترمس لـ"النهار" إن "المسلمين الشيعة ينظرون إلى عاشوراء على أنها ثورة الحق في وجه الباطل، وثورة العدل في وجه الظلم، وفيها تجلّت أرقى المعاني الدينية السامية وأسماها، والإنسانية الكاملة، وهي تتجدد كل سنة لتثبت في الأمة كلّ عناصر الوعي والإصلاح". ويرى ان "هذه الثورة ليست في ذاكرة المسلمين الشيعة فحسب، بل هي في ذاكرة كل من عرفها، وسمع بها ودرسها واطّلع عليها من أي مذهب أو دين".
وبالنسبة اليه، الامر لا لبس فيه: "من الخطأ الفاحش النظر إلى هذه الذكرى على أنها مذهبية، وأن الإمام الحسين نهض من أجل هدف خاص به أو ببعض الموالين له، ذلك لأن الإمام الحسين كان هدفه إصلاح ما أصاب الإسلام من فساد، بل كان يسعى الى إصلاح المجتمع الإنساني برمّته. كذلك، لم يكن يزيد بن معاوية سنياً، ولا المسلمون السنة كانوا راضين عن أفعاله ومؤيدين لأعماله، ولم يشعر الشيعة في يوم من الأيام بأن مأساة كربلاء يتحمل مسؤوليتها السنّةُ، ولطالما اعترف الجميع، سنة وشيعة، أن ظلم يزيد طال كل المسلمين، بل وغيرهم، وأن نهضة الحسين كانت من أجل الأمة بكل انتماءاتها. من هنا قاتل في جيش يزيد بن معاوية من كان محسوباً بالولاء على الإمام الحسين، وقاتل مع الإمام الحسين من كان قبل عاشوراء غير موالٍ له".
ويخلص الى التأكيد ان "المسلمين الشيعة لا يجدون أنفسهم مكبّلين أو مأسورين بالماضي، بل بالعكس ينظرون إلى هذه الذكرى على أساس أنها كسرت كل قيود العصبية والمذهبية والعرقية، وحررتهم من كل الدوائر الضيقة، لينطلقوا في سماء الإسلام الرحبة".
وماذا عن الشعائر الحسينية؟ نسأل. "مع ان أكثرها شرعي وأصيل، إلا أن بعضها دخيل وطارئ عليها ومرفوض من أكثر الناس وغالبية العلماء"، يجيب، مشيرا الى ان "من هذه الممارسات، شجّ الرؤوس بالسيوف، وهو ما يعرف بالتطبير، وضرب الأجساد بالآلات الحادة، والسير على الجمر من دون حذاء، وما شابه ذلك. فمثل هذه الممارسات، وإن تفاعل معها بعض الناس، إلا أن معظم العلماء لم يجوّزوها شرعاً. ومن قال بجوازها منهم، علّقها على شرطين، الأول عدم الإضرار بالنفس، والآخر عدم توهينها للدين. وإذا لم يكن كلا الشرطين موجوداً في هذه الممارسات، فلا أقل أن أحدهما موجود، وهو كاف لترك هذه الأعمال والإقلاع عنها".
والامر المؤسف بالنسبة اليه هو "استمرار بعضهم في تمسّكه بهذه الممارسات، رغم إصرار كبار مراجع الدين والعلماء البارزين في العقود الأخيرة على ترك هذه الأعمال والإقلاع عنها وعدم الترويج لها، وألا يجعل منها عاملاً معطلاً للمشروع الحسيني الإصلاحي". ويعتبر ان "بيان خطورة هذه الأعمال على مبادئ الثورة الحسينية، وفداحة الضرر والتشويه اللذين يلحقان بها بسبب أفعالهم سيُساهمُ كثيراً في إقلاعهم عنها، لاعتقادي أن الغالبية الساحقة ممن يقوم بهذه الأعمال إنما يمارسها عن حسن نية وسلامة طويّة".
الشعائر التي تعبّر عن هذه الذكرى "في شكل إيجابي كثيرة، ومتاحة للجميع"، يقول. وفي الوقت نفسه يرى انه "تمكن الافادة من التطور الهائل في وسائل الإعلام والتعبير، فنوصل الرسالة إلى أكبر فئة من الناس، عبر الخطابة والكتابة والتمثيل والمسرح وما شابه، مع الافادة من الإمكانات المتطورة في مجال التصوير والمؤثرات الصوتية لعرض هذه القضية المقدّسة".

رسالة الى الشيعة والسنة

وتفتح ذكرى عاشوراء الباب امام آفاق اوسع شيعية وسنية. "نعتبر ان هذه الذكرى من الذكريات الإٍسلاميّة التي ينبغي ألا تنغلق في إطار مذهبيّ معيّن، ولا أن توجّه بالتالي نحو مذهبٍ آخر، لأنّ الحسين هو إمام المسلمين، وهو الذي انطلق ليؤكّد الإصلاح والعدل والإسلام كلّه في حياة الأمّة..."، يقول فضل الله. ويشدد على أن "عاشوراء تمثل نموذجاً رفيعاً من نماذج الوحدة الإسلامية. ويمكن أن تكون مناسبة من أعظم مناسبات الوحدة الإسلامية...".
بالنسبة الى الشيخ ترمس، الرسالة واضحة: "أقول للشيعة والسنة، وحتى لغير المسلمين، إن الإمام الحسين قدّم نفسه وعائلته وأهل بيته وأصحابه وكل غالٍ ونفيس في سبيل رفع الظلم والفساد عن الإنسان والإنسانية. فعلينا ألاّ نضيّع هذه الأهداف أو نحجّم تلك التضحيات". 


هالة حمصي 

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...