شهادة اللوحة وبلاغة النص عند أسعد عرابي

31-03-2008

شهادة اللوحة وبلاغة النص عند أسعد عرابي

عرفنا أسعد عرابي فناناً تشكيلياً إشكالياً خرج من أرصفة حارة الورد ليستقر في باريس باحثاً عن لحظة انعتاق مميزة، وحين عثر على ذاته العرابية حقق ما عجز غيره عن فعله في أرض حبلى بالفنانين والنقاد، واستطاع أن يحقق المعادلة الصعبة بين حرارة الشرق وألوانه وموضوعاته، وأكاديمية الغرب وصرامته ونقده الذي لا يرحم، أسعد عرابي من القلة الذين لم يُستنكر عطاؤهم في الغرب، لأنه حمل دماءه معه، ولم يشأ أن يغير هذه الدماء، ولم يسمح للصقيع أن يجعله بارد العواطف والأحاسيس تجاه شرقه الذي امتزج بروحه ودمه. 
 استقبله الفن العالمي باندهاش، وهو يقدم شامياته، أو موضوعاته المستوحاة من الشرق، فكان الشرق مصدر إلهام وإيحاء، ولم يكن لديه كما لدى غيره كائن مخبري للتشريح والتجريح، كان الشرق عند عرابي أيقونة مقدسة، بغض النظر عن مصدر القداسة، وكان كائناً جميلاً يخاف عليه ويتواصل معه في كل لحظة من لحظات حياته.
قد يكون عرابي من التشكيليين القلائل الذين يحملون إضافة إلى الريشة قلماً أدبياً خارقاً، وأسلوباً صوفياً آسراً، وهو بذلك خرج عن إطار اللون الواخز إلى إطار الحرف المتصوف الجميل. عرفت فيما مضى المبدع الراحل فاتح مدرس قرأت قصصه في عود النعنع، وطالعت أشعاره المشتركة مع حسين راجي، وجالسته سنوات في مرسمه، قرأت عباراته الموجزة التي كان يكتبها بقلم عادي، وأحياناً بقلم عريض، ومرات قليلة بالريشة التي يرسم بها.
حوّل فاتح مدرس مرسمه إلى لوحات ملونة يجود بها إبداعه بالريشة، ولوحات أخرى بيضاء يكتب عليها ما يعنّ له أن يقوله في عبارات موجزة مختصرة شعرية أو نثرية، لكنها شاعرية الأسلوب، ناقدة الفكر. وحين رحل فاتح مدرس ظننت أن هذا الصنف من المبدعين المهمومين بالريشة والكلمة قد أفل، ولكنني ما إن التقيت أسعد عرابي في تظاهرات ثقافية وفنية حتى عرفت أنني أمام شخص آخر مختلف.
لم أستطع، أو لم أشأ أن أقترب من أسعد عرابي أكثر، فأنا لا أعرف عنه سوى معلومات قليلة من لقاءات رأيتها أو قرأتها، أو جاءتني لأنشرها في الأقسام التي أشرفت على تحريرها، وفضلت أن أقرأ عرابي في فنه أكثر قبل الولوج في عالمه، فكان أن قرأت له كتاباً تقنياً نشر مفرداً، فهمت بعضه، وغابت عني أشياء كثيرة منه.

أما المحطة الأهم التي وقفت عندها فكانت في الكتاب التذكاري الذي صدر عن غاليري أيام، ومما يحمد لغاليري أيام بدخولها السوق التشكيلي السوري هو ما درجت عليه من إصدار كتب تشكيلية مهمة وأنيقة ومكلفة ما كانت لتجد طريقها إلى المطابع عن طريق دور النشر العادية، لتكاليفها العالية وقلة زبائنها.

- نشرنا في صفحاتنا أكثر من مرة عن أسعد عرابي الفنان، وأنا لن أدخل هذا الجانب لقلة بضاعتي في النقد التشكيلي، ولكنني سأتحدث عن أسعد عرابي الأديب والكاتب الذي كسبه الفن التشكيلي وخسره الأدب، وأزعم من خلال ما قرأت لأسعد عرابي في كتابه التقني، وفي كتاب شهادة اللوحة أن أسعد عرابي مبدع في الكتابة، وقد يكون بارعاً في الكتابة الإبداعية لو أخرجها إلى القراء، براعة لا تقل عن براعته في التشكيل، ومن المحال أن يكون صاحب هذا الأسلوب الرائق غير منتج للأدب الإبداعي.

- على ضخامة الكتاب، فقد رافق اللوحة من أول الكتاب نص بقلم أسعد عرابي، يقدم في أجزاء منه سيرته الذاتية، وفي أجزاء سيرة العصر الذي عاش فيه، وفي أماكن رؤيته التشكيلية والفنية، وكل ذلك كان بأسلوب غير مباشر، وأهم ما في هذه الكتابة تلك الرؤية النقدية التشكيلية والمجتمعية والذاتية التي قدمت رؤى مهمة دون أن تكون مخصوصة بالنقد، ففي علاقته مع القوميات والوطنيات قدم عرابي نفسه وزوجته بطريقة آسرة، وفي طرائق تعامله الأسري كان أسعد عرابي معلماً للكيفية التي تبنى العلاقة فيها بين المرأة والرجل، مع اعترافه بالفكر الذكوري الذي يهيمن على كل مفاصل حياتنا.
قدم قبل زمن الصديق الراحل الدكتور بديع حقي سيرة دمشق في (الشجرة التي غرستها أمي) وطاف بنا من حارة الورد إلى ساروجة وإلى العالم أجمع، وعاد ليضع رأسه على تراب دمشق قرب شجرة النارنج.
وفي شهادة اللوحة يضوع الورد من حارة الورد التي أهدت وردتها المبدعة أسعد عرابي للعالم كله، ليبدأ بالشاميات وينهي أعماله بها، ليخرج من حارة الورد باحثاً عن ذاته ودائراً في دوامات الصعلكة الأنيقة إلى أن يجد نفسه ملقى على أرصفة حارة الورد من جديد.

- تعرض أسعد عرابي لسوء فهم في أثناء رحلته التشكيلية، وهو يوسع نقده إلى سائر الكلام المكتوب الذي يصفه بالتواطؤ مع المؤسسة الرسمية، ويبرز ذلك بقدرة الكلمة الدعائية على أن تفعل ما لا تفعله اللوحة التشكيلية، وهو في هذا الجانب محق نوعاً ما، ولكن لو سأل فيما بعد: لماذا أعجب الناس بلوحات أسعد عرابي؟ لعرف أن المشكلة في تكوين الذائقة التشكيلية لدى المتلقين هي السبب الرئيسي في انحسار أثر اللوحة، والكلمة اليوم في ظل أمية قرائية واسعة تعاني ما تعانيه اللوحة من جهل في التلقي، ومن انعدام في التأثير، فالكلمة صارت تدور في حلقة مفرغة بتواطؤ أو بغير تواطؤ حتى هيمنت الكلمة السطحية والقراءة غير الواعية.

- ليست شهادة اللوحة سيرة ذاتية وحسب كما أسلفت، وإنما هي تأسيس وتأريخ، تأريخ للرجل والمرحلة وتأسيس لما يجب أن يكون، ودعوة أسعد عرابي للتأسيس تختلف عن دعوتي ودعوة أمثالي، فهو تشكيلي بارع متفوق استطاع أن يحقق عن جدارة مكانة لدى نخبة من المتذوقين القادرين على اقتناء لوحاته، وهو إضافة إلى ذلك عاش في الغرب، تعامل معه، ورأى الفنانين العرب، ويلخص أسعد عرابي مشكلة التشكيل العربي المعاصر بقوله:
(يقع الفن العربي المعاصر اليوم بين فكي أصوليتين: الأولى غيبية نكوصية أطلالية انعزالية مغلقة تقدس خدرات الماضي الملفق (على الطريقة الفولكلورية الاستشراقية) والثانية عولمية سياحية فاقدة للذاكرة تلهث خلف الإبهار والمراهقة الحداثية ويسعى الفك الأول إلى معاداة الحداثة بأي ثمن، ويسعى الثاني إلى اللهاث خلف سرابها بأي ثمن)225.
لقد نعت أسعد عرابي كلتا الوجهتين بالأصولية، وهو هنا يحمّل المصطلح المعنى السلبي ولا يقصد الأصولية، بمعناها التاريخي، وهذا ما أشير إليه سابقاً أن أسعد عرابي لم يغير دمه وفكره، بل تسلح بقراءته الخاصة التي تدل على خصوصيات الإنسان العربي من ابن خلدون وابن رشد وغيرهما ليبين أن الطريقة النهضوية الحقيقية للفن العربي المعاصر تكون بالتخلي عن هاتين الأصوليتين، فالفكر غير الفولكلوري، مع التقانة والحداثة يمكن أن يكونا طريق النهضة الفنية الحديثة، وذلك لأن أسعد عرابي لا يؤمن بصراع الحضارات بل يؤمن بالتأثر والتأثير:
(آن الأوان ونحن على ضفاف القرن الواحد والعشرين أن نتجاوز منطق صراع الحضارات الذي يرسّخه العسكريون الجدد من الطرفين، وأن نرى في اللوحة مرآة صيرورة أمواج المتوسط التي تسافر تياراتها في الاتجاهين، وقد تصب في المحيطات الأخرى من أطراف البسيطة).

- ليس من الصعب على القارئ المنصف أن يعترف بجمال ما يقرأ، وأنا خلال قراءتي لشهادة اللوحة، ودون أن تربطني بأسعد عرابي أي رابطة شخصية، كنت مسحوراً باللوحة والنص معاً، وهو من أجمل النصوص التي قرأتها منذ سنوات لما فيه من غنى بالجانب الشخصي والجانب المجتمعي والجانب النقدي والفني والفكري على السواء.

إسماعيل مروة

المصدر: الوطن السورية


 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...