شبح السيدة يطارد «الخادمتين» حتى الانتحار

18-02-2010

شبح السيدة يطارد «الخادمتين» حتى الانتحار

تعد مسرحية «الخادمتان» للروائي والمسرحي الفرنسي الإشكالي جان جينيه (1910 - 1986) من أكثر نصوصه المسرحية تجسيداً على خشبات المسارح في العالم. والمخرج العراقي جواد الأسدي نفسه كان سبق أن أخرج هذه المسرحية برؤية مختلفة، وها هو يعود مجدداً إلى هذا النص عبر عرضه الجديد الذي يقدم حالياً في دار الأوبرا - دمشق.
تعالج مسرحية «الخادمتان» إشكالية العلاقة بين «السيد والعبد»، أو هي تنظّر لثنائية «الجلاد والضحية» من دون الغرق في مقولات كبرى قد يوحي بها هذا العنوان العريض. وتكتسب المسرحية بعداً خاصاً إذا ما أعدنا الى الأذهان مواقف جينيه في معزل عن مكانته الأدبية، مع انه نعت بـ «الملعون» و «المنبوذ»، و «المثير للجدل» وسجن مرات عدة جراء اتهامه بالسرقة. ولكن ثمة مواقف ترفع من شأن هذا الكاتب التي تباينت الآراء في شأن أدبه وسيرته معاً. فهو عارض احتلال بلاده للجزائر، وأعلن، مراراً، تأييده قضية فلسطين سواء عبر نصه المعروف «أربع ساعات في شاتيلا» الذي كتبه بعد زيارة لموقع المجزرة المعروفة، أو من خلال نص «أسير عاشق»، وعلى رغم ذلك الانقسام، فإن كاتباً في مكانة جان بول سارتر لم يتردد في وصف هذا «المتمرد» بـ «القديس الشهيد».

في هذا المعنى فإن «الخادمتان» هي ذريعة لتوضيح العلاقة المجحفة بين المضطَهد، والمضطِهد بل ذريعة لتأكيد النزعة الإنسانية التي طغت على كتابات أو مواقف صاحب «شعائر الجنازة». ولا نبالغ إن قلنا إن تعلق الأسدي، بدوره، بهذا النص ينبع من حقيقة كونه عراقياً، عانى طويلاً مرارة المنفى، و «الاضطهاد»، وراقب، عن بعد، تمزق بلاده على يد مجموعة من الطغاة، مثلما تمزقت حياة الخادمتين أمام صلف أو سطوة سيدة عجوز دميمة، لا تعرف الرحمة، ولا تتقن شيئاً سوى التبرج، ولعب دور المرأة «الارستقراطية» المنفرة، وتوجيه الأوامر، وما أكثرها.

بدا العرض سهلاً ومتخففاً من الشعارات الكبرى، ومن الثرثرة المملة. وعلى رغم ما قيل عن تعلق الأسدي بالنص، فإن العرض لم ينطو على أي اسقطات معاصرة، أو أي تأويلات تربك سياقه السلس. خادمتان ترويان، بلسان الألم، مأساتهما، وتعبران عن أحلامهما المحبطة، وتتوقان الى الخلاص من جحيم دام ثلاثين عاماً (قد يكون للرقم دلالة ما في المثال العراقي). إزاء هذا الحرمان الطويل والشقاء المزمن، تتحول الخادمتان صولانج (كارول عبود)، وكلير (ندى ابو فرحات) الى كائنين غريبين، فقدا نضارة الحياة، وراحا يبحثان عن سبل غريبة يستطيعان معها الاستمرار في هذه «الكوميديا السوداء» التي تسربت الى روحهيما التواقين الى الضوء والحرية، وهما تنصتان إلى صفير القطار وضجيجه، كإشارة الى سطوة الزمن الذي يمضي، بينما تذبل أعمار الخادمتين تحت ثقل قائمة لا تنتهي من الأوامر والنواهي.

ولعل الهاجس الأوحد الذي تحكم في سلوك الخادمتين، بعد كل تلك الأعوام، هو ترتيب لحظة الخلاص من السيدة عبر وضع سيناريوات كثيرة، والسعي إلى تمثيلها على الخشبة قبل تطبيقها فعلياً، واختيار السيناريو الأنسب منها لمقتل السيدة التي حضرت بقوة في حوار الخادمتين، واستطاعت ان تحرك الحبكة الدرامية للعرض من دون أن تظهر إلا عبر صور (سلايدات) أظهرت مقدار غرورها، وغرابة أطوارها، وكأن الأسدي، بإقصاء السيدة عن الخشبة، أراد أن يعبر عن أمنية تتمثل في إقصاء السادة والطغاة والمتنفذين عن خشبة الحياة كذلك. فحين يصعب تحقيق الأماني في الحياة الواقعية، يغدو الفن فسحة مناسبة للتعويض عن الخسارات والخيبات. خادمتان تتسللان، في كل ليلة، إلى حجرة سيدتهما وتقومان بسرقة ملابسها وحليها وقلائدها وأحذيتها، تقلدان سلوكها وتصرفاتها لا كنوع من التماهي بين «الضحية والجلاد»، بل كتمهيد لقتل السيدة التي أهدرت حياتهن في قبوها المعتم، وبددت آمالهما التي حشرت في مكان ضيق لا يتجاوز المطبخ والحمام وصالون السيدة المرفه. وحين تفشلان في قتلها عبر وضع السم في شراب تمتنع السيدة عن احتسائه، تتجرع إحدى الخادمات كأس السم مستسلمة لقدر لم ينصفها، فهي حصلت على الخلاص أخيراً، لكن الثمن كان حياتها. أما الأخرى، فستظل على الأرجح جريحة لفقدها الصديقة «المنتحرة».

قدم العرض باللغة العربية الفصحى التي تتخللها بعض العبارات باللهجة العامية اللبنانية التي كانت تأتي، على نحو مفاجئ، لتخرق التابوات الكثيرة التي تقيد الأنثى، ولتكسر، كذلك، صرامة العرض، وتدفعه باتجاه الهزل والسخرية. واللافت ان العرض حفل بعبارات ومفردات وشتائم بذيئة، غير مألوفة في لغة المسرح الجاد الذي يميل عادة إلى التهذيب، وإلى حذف تلك المفردات التي قد «تخدش الحياء». لكن الأسدي انحاز الى الخيار الآخر، إذ حوى العرض عبارات صادمة، أظهر حجم الضغينة التي تراكمت في ذات الخادمتين، اللتين عبرتا بأكثر المفردات عرياً، ورفضاً، وقسوة واحتجاجاً عن دواخلهما المأزومة؛ حبيسة جدران عالية أقصت انوثتهن عن رغباتها، فلم تجدا سوى في بائع الحليب فسحة عابرة تحقق لهما متعة غامضة وناقصة.

ومثلما كان الحوار مقتضباً، ومكثفاً، فإن الديكور، كذلك، بدا بسيطاً، ومتقشفاً إلى أبعد حد، فهو عبارة عن قبو معتم، تعلوه قاعة يفترض انها صالون السيدة. تنتقل الخادمتان بين هذين الفضائين اللذين شكلا سينوغرافيا هادئة، استثمر الأسدي خلالها موهبة بل ومهارة الممثلتين عبود وأبو فرحات، وأراد أن يقدم درساً إخراجياً حول مهارة الممثل، ودوره في بناء مشهدية بصرية مقنعة على رغم بساطتها. حركات الجسد وليونته، والتحرك المدروس في المكان، وإيماءات الوجوه، والإضاءة المتقنة التي نجحت في رسم أو تلوين مشاهد بدت كلوحات تشكيلية... كل ذلك جاء وفق ايقاع متناغم منح العرض، الذي استمر نحو ساعة، بعداً بصرياً جذاباً بلا أي ضجيج أو إسراف، وأثبت، من جديد، قدرة الأسدي على توظيف مفرداته وأدواته المسرحية في شكل يخدم العرض بلا أي تكلف، ويجسر الهوة التي تفصل بين الخشبة والجمهور في غالبية العروض العربية، فضلاً عن اجتهاده في المزج بين خبرة مسرحية تقليدية، وبين ما يطرأ على فن المسرح من مستجدات حداثية وتكنولوجية، وسعيه الى استثمار قدرات الممثل وطاقاته. وتجلى ذلك في الأداء اللافت لعبود وأبو فرحات اللتين جسدتا دوريهما بمهارة، سواء كان ذلك عبر حضورهما معاً حيث شكلتا ثنائياً مندمجاً في شكل محبب، مع تفاصيل العرض، أو من خلال أداء كل واحدة منهن منفردة.

إبراهيم حاج عبدي

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...