سكان السرافيس «عالم قائم بذاته»

07-10-2009

سكان السرافيس «عالم قائم بذاته»

هو مسلسل يومي طويل لا نهاية له، حلقته الأولى تبدأ في الصباح الباكر، حين تضطر للخروج من منزلك قبل نصف ساعة على الأقل، كي تصادف (السرفيس) وهو (يُعتلُ) ركابه، لتكون واحدا ممن يحشرون في أحد كراسيه.. ميزة السرفيس في بلادنا أنه كبيت الضيق (بيسع ألف صديق)، عدد الركاب يفوق عدد الكراسي، والأجمل أن هناك حركات معينة يمارسها أهل الشارع والسائق باليد، للتدليل على أنه لا مقاعد شاغرة، بمعنى يمكنك أن (تجلس القرفصاء)، فيقرفص، راكب، ويتبعه راكب آخر، وآخر، حتى تجد نفسك مضطراً لضم قدميك إلى صدرك، لأن راكب القرفصاء سيغدو في أحضانك، ويتمسك بعنقك بحال ضرب شوفير السرفيس (فراماً) معيناً نتيجة قيادته الساحرة التي تدفعك للشعور بأنك تحلق في السماء... 
 في السرفيس تتعرف على كل مطربي النوادي والملاهي الليلية، وتصبح من القادرين على التمييز بين صوت فلان أو فلانة، لأن سائق الميكرو يجبرك على سماع ما يسمى أغاني الملاهي، التي لا تحمل إلا كلمات فارغة، والموضة الجديدة فيها، عبارات تخدش الحياء، ويرفع صوتها إلى آخر حد يمكن وصفه، لدرجة تشعر أن دماغك على وشك الانفجار، وإن طلبت منه خفض الصوت، يجيبك بعزة نفس، ( إللي ما عجبو ينزل)، وإن وصل أحد الركاب إلى مكان بيته أو عمله، وأراد النزول فالسائق لا يسمعه إلا بعد أن يعلو صراخ كل الركاب ( يا أخي نزلو)..
ركاب السرفيس في سورية مجتمع قائم بذاته، تصادف فيه، المثقف، والعامل، والأستاذ، والمحامي، والمجرم، وكل له قصة، وله رواية، تسمعها عبر هاتفه الجوال الذي يطربك بغنائه، فتسمع حكايته بتفاصيلها، لأنه يتحدث بحرية، فالركاب يعتقدون أحياناً، أن الميكرو سيارتهم الخاصة، أو ربما ينسون أن بجانبهم آخر غريباً. (سرافيس) دمشق باب لذي الدخل المحدود، الذي يحسبها كما يقولون (عالقرش)، لأنه إذا أراد أن يأخذ سيارة أجرة بشكل يومي من عمله إلى بيته، فمرتب أشهر لا يكفي، بحكم أن سائق التاكسي في شوارعنا (إما لا يشغل العداد) وإما عداد ونص، وإما تعطيه أجره، (فيطنش) على ما تبقى.
المشاكل التي نواجهها في السرفيس، باتت حديثاً تقليدياً من يومياتنا، وأصبح مشكلة فعلاً (عويصة) وتحتاج إلى حل،
ما الضرر لو تمتع المواطن بشيء من الرقي، إذا جلس بجانب إحدى المواطنات، بالسرفيس، دون أن يفرد جناح قدميه، ناسياً أن أنثى بجانبه، وما السبب الذي يدفعه، إلى إزعاجها بحركات لا حياء فيها، ناسياً أن شقيقته، أو زوجته، قد تتعرض لموقف مشابه، ليرتدع عن الأفعال المشينة داخل حافلة ركاب.

هذه التساؤلات طرحناها على العديد من المواطنين الذين شعروا أنهم ينفسون عما بداخلهم، فروى كل منهم حادثة، أججت بداخله غضباً، لا يعرف على من؟
أماني ترى أن (السرفيس) في بلدنا، أسوأ ما فيه أن الجشع يملأ قلب سائقه فتجد الركاب فوق بعضهم البعض، وقلة الذوق من بعض الركاب الذين، يحشرون أنفسهم في السرفيس، دون مراعاة للذين قبلهم، فما أن يضرب السائق «فراما»، حتى تجد الناس فوق بعضهم البعض، أماني تروي موقفاً حصل معها، ركبت السرفيس ذات صباح للتوجه إلى العمل، وفي لحظة رأت أن الناس باتوا فوق رأسها لدرجة لم تعد قادرة على التنفس، وفجأة اصطدم السائق بسيارة أمامه، فإذا بكل الركاب الواقفين، يسقطون فوقها، أو بالأحرى كما تقول بحضنها، وكلهم شباب، لأن الفتاة نادراً ما تقبل بركوب السرفيس، لتبقى واقفة، أماني تعتقد أن هذه المشكلة تحتاج إلى حل لأن معظم الأحيان نشعر بأننا (دواب).
نداء تروي قصة تتعرض لها الكثير من الفتيات، ففي إحدى المرات جلس بجانبي شاب، ومن اللحظة التي ركب فيها بالسرفيس، بدأ بحركات غليظة، أولا مد يده بطريقة خفية كي لا يراه أحد، ولوح لي (ببطاقة) تحمل اسمه ورقم هاتفه، فاعتبرت أنني لم أر شيئاً، ووجهت نظري إلى مكان بعيد عنه حتى لا تقع عيني على عينيه، ولكن وقاحته وصلت إلى حد اللمس، لدرجة صعقت فيها فأنا لم أتعرض لموقف كهذا من قبل، ولا أعرف كيف سأتصرف، فطلبت منه أن يكف عن تصرفاته بصوت منخفض، كي لا ينتبه أحد من الركاب وأدخل في مشكلة أخرج منها بحرج، ولكنه لم يتوقف، وفجأة ودون أي احترام للمكان، رفع هاتفه الجوال بوجهي، وإذا بصورة إباحية تتصدر شاشته، وهنا للأسف فقدت أعصابي، ولم استطع التحمل ولا أعرف ماذا قلت، ومنذ ذلك اليوم قررت ألا أصعد السرفيس أبداً.
نداء تؤكد أنها ليست وحدها من يتعرض لمواقف كهذه في السرفيس بل الكثير من صديقاتها، كل يوم لهن قصة جديدة، الأمر بغاية السوء، ويحتاج إلى حل.
تغريد لها حكاية أخرى، فهي رغم الكثير من المواقف التي تتعرض لها في السرفيس، سواء من الركاب، أو حتى السائق، هي مصرة على استخدامه كوسيلة نقل، لأنه أوفر، فمرتبها الشهري لا يخولها باستخدام التاكسي، وترى أن أفضل حل للمشاكسات، (التطنيش) بمعنى أن تتحول إلى شخص لا يرى، ولا يسمع، وفي النهاية أنت ستصل إلى بيتك، أو عملك كأن شيئاً لم يكن، ، تغريد ترى أن السرفيس، أحياناً يكون بابا لعلاقات اجتماعية قد تدوم، فهي مثلا تتحدث مع الناس في السرفيس، تتعرف إليهم، وهي تؤكد أنها استطاعت من خلاله تكوين صداقات ما زالت مستمرة، تغريد تقول إنه لا داعي لأن نعمم النظرة السلبية، بحكم موقف أو أكثر يتعرض له الناس، فدوماً هناك السلبي، والإيجابي في كل شيء..
ماتيلدا ترى في السرفيس بابا (للتطبيق) كما يقال، فدوماً حين تجلس الفتاة في كرسي يقابله شاب، فوراً يبدأ بتوزيع ابتساماته، وكأنه يعرفها منذ سنوات، والمضحك كما تقول ماتيلدا، إذا كانت الفتاة تضع نظارة شمسية، يشير لها بأن تخلعها كي يرى وجهها جيدا، ماتيلدا تضحك من هذه المواقف لدرجة أنه في إحدى المرات، رفعت نظارتها عن وجهها، وسألت الشاب (رفعنا النظارة تفضل شو بدك) فأجابها (عيونك حلوين) فردت عليه (شكراً وبعدين) فرد هو بإحراج (لأ سلامتك) تضحك ماتيلدا من الموقف وتصف نفسها بالجريئة فهي تتعاطى مع هذه المواقف بصوت عال وأمام الناس، ولا يهمها شيء.
الحاج أبو محمد يرى أن سائق السرفيس رجل لا يهتم بحياة ركابه، فهو دائماً يسير مسرعا بطريقة جنونية، غير آبه بالسيارة التي أمامه، ولا بشرطي المرور، إضافة إلى السباق الذي يقوم به سائقو السرفيس إذا مروا بجانب بعضهم بعضاً، فهم ما شاء اللـه زملاء مهنة واحدة، يتباهون في الشوارع، أبو محمد يصف سائق السرفيس بأنه بعيد عن الأخلاق، والذوق، فحين يهم الراكب بدخول السرفيس وقبل أن يجلس تجد السائق يطير، فيقع الراكب على الأرض، ولا يكلف نفسه الاعتذار منه بل يصرخ بوجهه (يا اخي خلصنا واقعد).. فهو لا يقيم احتراماً لكبير، ولا لصغير.. للأسف سائق المكرو في بلدنا، لا يحترم الركاب، أبدا، بل الشرطي فقط...
رانية ترى أن الميكرباص خدمة مواصلات جيدة، ولكنها لا تخلو من بعض الخروج عن النظام والتجاوزات، من ناحية التسعيرة... وعدم التقيد بالمواقف الرسمية، كما ينقصها بعض الميزات
وتروي رانية أكثر من حادثة جرت معها، فتقول: ذات يوم كنت بأحد السرافيس «او الميكرو» وطلبت منه أن يوقفني في أحد المواقف لم يسمع مني، لأنه كان يمشي بسرعة ويرفع صوت المسجل بأغانيه الهابطه، ومن البديهي ألا يسمع طلبي... المهم أنه لما سمع أوقف الميكرو فجأة وعندما هممت بالنزول لم ينتظر حتى ابتعادي من الباب، فداس على البنزين وكان قد تحرك بسرعة، وكدت أن أقع أو تنالني ضربة من الباب.
ذات يوم كنت في أحد السرافيس وعندما أعطيته الأجرة لم يكن معي «فراطة» وكانت خمسمائة ليرة.... وعندما ناولتها لمن كان في المقعد الذي أمامي، رآها السائق لتحدث الكارثة.... وبدأ السخط والصوت العالي... (ليش ما في فراطة... ما معك غيرها.... ما عندي أصرفلك.... وهكذا... وطلب مني النزول). وموقف آخر... كنا في الميكرو ننتظر اكتمال عدد الركاب وامتلأت المقاعد... وعندما أغلق شخص الباب، فوجئنا أن السائق يريد عدداً فوق العدد... وبدأت دفعه أخرى من ركاب لا يجلسون على المقاعد... تضايق الجميع... وصاح أحدهم: شو رأيك تحط دور تاني؟!!
وهكذا حتى أنني رأيت ذات يوم أحد الميكروباصات وكنت أجلس في المقعد الخلفي وتسير السيارة... وهناك فتحة كبيرة على أرضية السيارة تطلع الجالس على تفاصيل الطريق... كانت مرعبة!!!

بعض ميزات سرافيس النقل في مدينة دمشق عن سواها في عالمنا الصغير:

إيصال النقود للسائق وترجيعها للراكب يتم بالتسلسل بمساعدة الركاب بين السائق والراكب، هذا إذا لم يتأفف أحد الركاب، لأن السرفيس من كثرة الطلب عليه، راكب نازل، وراكب طالع على راكب.
كثيراً ما يتم صرف النقود بين سرفيس وسرفيس أو بين سرفيس وتكسي: يحتاج لمزامنة حيث يسير الاثنان بنفس السرعة وتتم مبادلة القطع بالاستعانة بركاب المقعد الأول إن وجدوا.
الراكب الذي يجلس خلف السائق هو عادة مركز مصب كل الركاب، فهو يحسب لكل واحد، كم أعطى، وكم بقي له. أحياناً يقوم الركاب بتبديل أماكنهم إما للجلوس أمام صديق أو بقرب الباب أو أحياناً بعيداً عنه. إذا نزل أحد الركاب القاعدين، وأراد بعض الركاب الجدد الصعود، أولوية الجلوس على المقاعد التي أصبحت فارغة للمقرفصين حسب شطارتهم.
حين يقف السرفيس لإنزال راكب ما، تجد الناس في الشارع يركضون باتجاهه، فيصعد القادمون قبل نزول النازلين.
إذا وقف السائق في مكان لا يريده الراكب، ينتقم الراكب بإغلاق الباب بعنف.
ويجب ألا ننسى أن مزاج السائق يجب أن يعدل، وذلك من خلال محطات شاي ودخان، وعلى الراكب أن ينتظر ويصمت.
وأجمل ما في الموضوع، أنك إذا كنت تريد سرفيساً ولا تجده، فأنت مضطر لأخذه ذهاباً وإياباً حتى لا تتأخر عن عملك، يعني (20) ليرة.
أحياناً يطلب السائق من الركاب النزول والصعود إلى سرفيس آخر: يتم هذا بعد تنسيق واتفاق بين السائقين إما بالإشارات أو حسب اتفاقيات مسبقة، والسبب، يكون معه راكب أو ثلاثة فقط، فالركاب غير «محرزين» لإكمال خط السير.
بعض السرافيس لا تنطلق إلا إذا اكتمل العدد مع المقرفصين أو المقاعد الإضافية، ما يعني أنه لا مجال أمام الركاب المنتظرين على الطريق أي مقعد.
المقعد الأمامي يتسع لشخصين بإمكانك أن تحجزه وحدك كاملاً بأن تدفع عن راكبين.

أزمة حقيقية، لا يشعر بها إلا من عايشها، وما زال يعايش مظاهرها البعيدة كل البعد، عن الرقي والحضارة، أزمة تحتاج إلى وقفة حقيقية مع النفس، سواء من ناحية السائق الذي نتعاطف معه في كثير من الأحيان، لأنه يجول طوال النهار من أجل لقمة العيش، والراكب الذي يسعى لتوفير القليل من أجل ضمان بقية الشهر دون حاجة أحد، إذا المصلحة بين السائق والراكب مشترك، لمَ لا يقدر كل منهم الآخر، ويتشاركان الهموم، لتكون بابا نحو تعامل، وعلاقات، نرقى فيها إلى مستوى، لا نصنف فيه بدول العالم الثالث.

وسام حمود

المصدر: الوطن السورية

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...