سعاد جروس تكتب: الفضيحة عمرها يومان

10-02-2007

سعاد جروس تكتب: الفضيحة عمرها يومان

الجمل- سعاد جروس:  عندما كانت فكرة التخلص من الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات تصول وتجول في دماغ شارون وهو في عز منصبه كرئيس وزراء إسرائيل, حذره فريق من رجاله من مغبة غضب الشارع العربي. فقال لهم بما معناه, إن ذلك ليس بذي أهمية, ستخرج تظاهرات لمدة يومين أو أسبوع, ثم ينتهي الأمر. ولعل شارون لم ينطق بهذا الرأي عن صلف وعنجهية عُرف بهما, بقدر ما نطق عن خبرة طويلة بوزن ردود الفعل العربية طوال عقود, كرست لديه قناعة ينطبق عليها المثل الشامي العتيق: «زوج ابنك لابنتك فضيحة عمرها يومين».
اعتادت مجتمعاتنا على الفضائح والانتهاكات, وأدمنت على ردود الفعل والتدفق الى الشارع للاستنكار وإظهار الغضب العارم والعارم جداً, حتى باتت نمط حياة, لا ينقصها تنديد زعمائنا الأشاوس ولا تثمين أبواقهم لكل «تنديد» ووزنه بميزان الذهب الخالص من دنانير بيت مال المسلمين. وعلى الرغم من وفرة التنديد والادانات والمطالبات الفورية بوقف الاعتداءات أي اعتداءات, كانت جميع بيانات الشجب والاستنكار والتقارير الإعلامية العربية عن ردود الأفعال على الإساءات التي تتعرض لها أمة العرب والمسلمين هي ذاتها وتنطبق على كل الأحداث الجسام التي مرت بها المنطقة منذ قرن كامل من الزمان. وإذا أخذنا السنوات الثلاث الأخيرة نموذجاً واستعدنا جملة الرسوم المسيئة للرسول, والانتهاكات في أبي غريب, بالإضافة إلى تصريحات بابا الفاتيكان, ولا ننسى الاعتداءات الدائمة على المسجد الأقصى, لم يتبدل شيء في البيانات والتقارير, ولاكتشفنا أن عمر الفضائح الى ضمور, فعمر الفضيحة لم يعد يتجاوز على الأرض أسبوعاً أو يومين, وأحياناً ساعات, بعدها تصبح حديث جرائد مهما بلغت فداحتها, إلى أن تؤول كالمعتاد إلى النسيان, وقد يواتيها الحظ فتنبش من أرشيف الأخبار ليجري تداولها كحدث تليد, ثم كأن شيئاً لم يكن, ليس لبلادة في الشعور, وإنما لأن المصيبة تمحوها مصيبة أخرى أكبر منها, ولهذا ما تدل عليه جملة العزاء الموروثة في حالة وفاة عزيز: «الله لا ينسيكم إياه», أي ألا يفجعكم بمن هو أعز منه, فيهون عليكم وتنسون ذكره. هذه الأيام بما أننا نعيش كارثة تهديد المسجد الأقصى في القدس الشريف نقول, الله لا ينسي العرب أن لهم كرامات تُهدر على يد الإسرائيليين, وألا تشغلهم مصيبة العراق وملهاة لبنان عن مأساة فلسطين.
ومع أن هذا العام اعتبر منذ بدايته عام تصعيد الاعتداء على المسجد الأقصى, فإن كائناً عربياً رسمياً لم يتحرك, تلبية لنداء حمايته, سوى بعض الهمسات الخجولة لوقف «فوري» لأعمال الهدم الدائرة رحاها في محيط الأقصى, لكن من دون أن تتأثر أو يطرأ أي تغير على العلاقات العربية ­ الإسرائيلية المعلنة والخفية, فلم يسحب سفير تعبيراً عن الاحتجاج, ولم يستدع نظير لغرض الاستفسار, وبقيت المكاتب التجارية مشرعة أبوابها لضمان تدفق المساعدات والاستثمارات, وزاد عليها استقبال حافل لشمعون بيريس في إمارة الحريات الإعلامية. أما الجامعة العربية €عجل الله أجلها€ فمكثت تنتظر أن يدعوها أحد ما للتحرك لكي تسارع بإصدار بيان تستغرب فيه أعمال إسرائيل الهمجية الحاقدة, لاسيما وأن الجمعيات والمنظمات الإسلامية العربية المعنية شاركت بالأجر وأدلت بدلوها ودعت للتظاهر وإعلان التعبير عن السخط بكل جدية.
اللافت في النداءات والدعوات المنهمرة من كل حدب وصوب تركيزها على إسلامية المسجد الأقصى كجزء من العقيدة, لاستنهاض همم المسلمين في التظاهر, وكأن القضية دينية عقيدية بحتة, في تجاهل شبه تام لقدسية المسجد الأقصى التاريخية العربية, ومحوريته في قضية الصراع العربي­ الإسرائيلي التي هي أوسع بكثير من الصراع الديني, وقد كان أجدى بالجهات والمنظمات والأحزاب العربية الليبرالية والعلمانية واليسارية أن تهب لتستنكر الاعتداء على الأقصى كاعتداء على تاريخ منطقة وشعب, وتدين أي عملية ترمي من وراء العبث به إلى تخصيب تاريخ آخر مزيف على أنقاضه؛ القضية ليست دينية وحسب, وإنما عربية ذات بعد إنساني, تستحق وقفة دولية كتلك التي حصلت عندما اعتدت حركة طالبان على التماثيل البوذية, حينها لم تناقش المسألة على أساس أنها تعني الديانة البوذية, وإنما تعني التراث الإنساني ككل, فلماذا لا يكون المسجد الأقصى كذلك €دونما اهمال لطابعه الديني€, ولماذا منظماتنا العربية الأهلية مصرة على لعب دور الببغاء, فتندد وتردد ما تقوله نظيرتها الغربية عن انتهاكات حقوق الإنسان والكبير والصغير والمقمط بالسرير, ولا تبادر إلى لفت أنظار الرأي العام العالمي لانتهاكات إسرائيل للتراث الإنساني والحضاري في القدس. وتبيان أن حقيقة ما يجري على الأرض ليس كما تدعي إسرائيل بأنه أشغال اصلاح وبناء, وإنما تدمير وتحطيم لحضارة أمة بأكملها بحثاً عن دلائل مزعومة لأسطورة دولة إسرائيل.
لكن الناس على دين ملوكهم, والكل استمرأ تدبيج البيانات والتقارير في الأوفر تايم, وعلى هذا سيبقى غضب الشارع مجرد صراخ لملء الفراغ السياسي, سرعان ما يتبدد بانتظار ما يلي من كوارث ليعاود الكرة, لكن ليس كل مرة تسلم الجرة, أحياناً قد تتحطم على رؤوس الغافلين عن شعوبهم, بعدها لن يتمكنوا في نهاية النهار, أن يأووا الى الفراش دائخين مدووخين, ليناموا مطبوبين طباً, مطمئنين إلى أن الفضيحة عمرها يومان لا أكثر.

بالاتفاق مع الكفاح العربي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...