سعاد جروس: «شاهد ما شفش حاجة»

10-11-2007

سعاد جروس: «شاهد ما شفش حاجة»

الجمل- سعاد جروس:  إلى جانب مؤتمر وزراء خارجية دول جوار العراق, الذي انعقد في اسطنبول الأسبوع الماضي, جرت مسرحية هزلية كان للإجراءات الأمنية التركية المتشددة الفضل في جعلها تضارع في مواقفها مسرحية €شاهد ما شفش حاجة€ لعادل إمام.
بدأت المتاعب منذ اليوم الأول الذي شهد الاجتماع التحضيري للخبراء في فندق كونراد, القريب من فندق تشيرهان الذي انعقد فيه اجتماع الوزراء في اليوم الثاني.
بالنسبة إلينا نحن الصحفيين اجتماع الخبراء هو الأهم, خلاله يتم وضع مسودة البيان الختامي, والنقاشات الأساسية تحصل في داخله, لذا حضرنا الى الفندق قبل ساعة من موعد الاجتماع, وتحملنا برد صباح اسطنبول القارص على أمل الحصول على معلومات مفيدة نتسقطها من المجتمعين, وإلا فلا معنى لتحملنا عناء السفر قبل يوم وحمل معداتنا كالصليب على أكتافنا, والتنقل من فندق إلى فندق وسط إجراءات أمنية مشددة.
وصلنا الى الفندق وكلنا ثقة بأن الأبواب ستفتح أمامنا على مصراعيها كوننا نحمل بطاقة صحفية خاصة بالمؤتمر صادرة عن الخارجية التركية, لكننا فوجئنا بعناصر الأمن التركي يمنعوننا من الدخول, لأننا صحافة ولأننا نحمل هذه البطاقة بالذات, فالتعليمات لديهم كانت واضحة لا يسمح بدخول الصحفيين الأجانب, الصحفيون الأتراك وحدهم يحق لهم الدخول وحضور اجتماع الخبراء.
نزعنا البطاقات عن رقابنا, وتولى الزميل عساف عبود كونه رئيس لجنة المراسلين, مهمة الاتصال بالقنصلية السورية لإبلاغهم بالأمر, وهم بدورهم تابعوا الموضوع وانتهى الأمر نتيجة مساعيهم الميمونة إلى وقوفنا لأكثر من ساعتين خارج الفندق في الجو الزمهريري من دون جدوى, فالتعليمات واضحة ممنوع يعني ممنوع, ومن حاول منا الدخول من دون بطاقة كانت الكلاب البوليسية له بالمرصاد.
ذهبنا إلى فندق تشيرهان لعل وعسى نعثر على من يَمُنَّ علينا بمعلومة مفيدة, وتمكنا من الدخول بعد اجتياز أكثر من حاجز أمني والخضوع للتفتيش والتنبيش والتفحيص والتمحيص, اكتشفنا بعدها أن البطاقة تسمح لنا بدخول حدائق الفندق والبقاء في الخيمة الإعلامية الضخمة المقامة في محيط القصر الذي تجري فيه الاجتماعات من دون التمكن من الدخول والاحتكاك بالمسؤولين المجتمعين, أي أن تغطية الأخبار ستكون عن بعد, وكل صحفي وشطارته واتساع علاقات مؤسسته.
حاولنا ألا نكون غافلين عن شيء, فشغلنا حاسة السمع والشم كالكلاب الشمامة إلى أن حضر الوفد السوري, فأمدنا مشكوراً بمعلومات عن نشاطاته والعناوين العريضة للمباحثات واللقاءات التي تجري. إلا أن الحدث الأهم الذي جرى في اليوم التالي وهو لقاء وزير خارجيتنا وليد المعلم مع كوندوليزا رايس, لم يتم إعلامنا به, وكانت الهمسات حول حصوله وبعض تفاصيل الحوار بدأت تتناثر حولنا في الأجواء, وكنا بدورنا نسأل عن صحة ذلك, فيأتي الجواب أن لا تعليق, ثم بدأت الاتصالات تأتي من الخارج مؤكدة أن اللقاء حصل ويريدون التفاصيل, وكنا كالزوج المخدوع نؤكد بكل ثقة أن لا شيء من هذا القبيل قد حصل.
ساعات قليلة, وشاع الخبر من خلال المسؤولين الاميركيين الذين علمنا أنهم طلبوا من الوفد السوري ألا يعلن عن اللقاء كي لا تتكرر الجولة الإعلامية ذاتها التي ربحها الوفد السوري في اجتماع شرم الشيخ لدى اجتماع المعلم مع رايس, حينها خرج السوريون بالخبر قبل الاميركيين وسبقوهم إلى تسجيل مواقفهم. لأن الإعلام في مثل هذه اللقاءات هو لعبة تسجيل مواقف ومن يسبق يربح, وكل ما يأتي لاحقاً يصبح مجرد تفسير.
عندما تأكدنا من الخبر, كان الوفد السوري قد وصل إلى دمشق عائداً من اسطنبول, ونشرت «سانا» الخبر بعد ساعات عدة من إذاعته في كل وكالات الأنباء. أما نحن الصحفيين السوريين فكان شعورنا مثل شعور «شاهد ما شفش حاجة», مع أن بعضنا لحق وبث الخبر, لكن مجرد الإحساس بأن الوفد أخفى عنا المعلومة كان كافياً لإحباطنا, نحن الذين ذهبنا على نفقتنا الخاصة من دون التأكد أن مؤسساتنا ستتكفل بتغطية المصاريف مدفوعين بهوس مهني مقلق, في وقت نرى فيه رايس تصطحب معها, حيثما طارت وحطت مجموعة لا تقل عن 22 صحفياً, يصنعون أخبار تستهلكها غالبية الوكالات والصحف والمجلات الدولية, مروجين لأفكار ومواقف ووجهات نظر تخدم أهداف سياسة الإدارة الاميركية, وللأسف كنا من مستهلكيها عندما غابت عنا المعلومة.
نحن الذين لم يصطحبنا معه أحد, بل كنا متطوعين مغفلين, وكان بالإمكان أن لا نذهب ونبقى في منازلنا هانئين نتابع الأخبار عبر التلفزة والانترنت والهاتف. بل كان من الممكن قضاء نزهة سياحية ممتعة في اسطنبول بدل الارتجاف برداً على البوابات الموصدة, والتعرض لإذلال التفتيش والملاحقة كلما ترك أحدنا جهاز الكمبيوتر لدقائق في مكان ما من الفندق, والخضوع لمساءلة أمن الفندق وتقديم دليل يثبت أن هذا الجهاز له. ما دامت النتيجة ستكون على هذا النحو: الأكل من خبز فرن الإعلام الاميركي, فما الذي سيدفعنا لتكرار هذه التجربة المرة؟
ما يلفت النظر وما نتمنى أن يلفت نظر المعنيين أن الدول تسعى لأن يكون إعلامها صانع الخبر, فالأتراك حصروا نقل وقائع اجتماع الخبراء بمؤسساتهم المحلية, والاميركيون اصطحبوا صحفييهم معهم, واختاروا من يرونه مناسباً من المؤسسات العربية لبث المعلومات التي يريدونها.
ما نرغب في قوله إنه على الرغم من أهمية سوريا وموقعها في الحدث السياسي الإقليمي لا نلمس لدى مسؤولينا الاهتمام بأن يكون إعلامهم أو الإعلاميون السوريون مشاركين في صناعة الخبر السوري المطلوب في الخارج, فإذا حصل وتبرعوا من تلقاء ذاتهم فيكون خير وبركة, مثلما فعل زميلنا أنس أزرق الذي انفرد بتصوير لقاء المعلم­ كوشنير لمصلحة تلفزيون «المنار», ولو أن أنس لم يذهب على نفقته, لما رأينا ولا صورة واحدة لهذا اللقاء في التلفزيونات, وكأن الحدث على الرغم من أهميته لم يحدث, فأين التلفزيون السوري من ذلك؟
الأمر الغريب العجيب, وغير المفهوم على الإطلاق, أنه إذا لم يتطوع أحد من الإعلاميين المراسلين للذهاب, فلن يسأل عنه أحد, إذ لا غضاضة في غياب الإعلام السوري عن الحدث, فالخبر آت إلى «سانا» لا محالة تحت شعار محدَّث €أن تأتي متأخراً خير من أن تأتي أولاً€ لأن رأس حكمتنا الإعلامية €في العجلة الندامة وفي التأني السلامة€ مهما عانى دبلوماسيونا من تزوير الحقائق التي يمارسها المسؤولون الاميركيون والغربيون خصوصا عبر الإعلام, ففي حين تكون أجواء لقاءاتهم مع السوريين عادية أو ايجابية, يقولون للإعلام انهم هددوا وتوعدوا وتحدثوا بشكل حازم. حصل هذا أكثر من مرة, وكل مرة كان السوريون يردون بدهشة البكم, ربما على أمل أن يصحو ضمير هؤلاء ويتبرعون ذات يوم لخدمة أهداف السياسة السورية. والى ذلك الحين علينا الرضا بما قسم لنا من أدوار في مسرحيتنا الإعلامية الهزلية, كشهود... لم ولن يُسمح لهم بأن يروا أي «حاجة».

بالإتفاق مع الكفاح العربي
 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...