ريف اللاذقية الشمالي: كيف يسترد أهله؟

30-01-2016

ريف اللاذقية الشمالي: كيف يسترد أهله؟

ريف أشباح وقرى بلا سكّان. بهذه العبارة يمكن وصف واقع ريف اللاذقيّة الشمالي الذي غادره سكانه تدريجياً بعدما تحوّل إلى ساحة معركة في العام 2012، وظلّ ينزف أبناءه تباعاً حتى بات خالياً، إلَّا من المقاتلين الذين أجبروا على مغادرته بعد معاركهم مع الجيش السوري مؤخراً.
كل الوقائع تشير إلى أنَّ أهالي الريف غادروه، أقلّه خلال الفترة الأخيرة، بدليل أنَّ الجيش السوري كان يتقدّم في قرى خالية من سكَّانها. وتبدو فكرة ترحيل الأهالي بهذه السرعة القياسيّة، مستحيلة، إلَّا إذا كان الأمر متعلّقاً ببعض العائلات التي يتمّ ترحيلها قبل بدء المعارك.
لكن عودة الريف إلى سيطرة الدولة، لا تعني عودة الأهالي للإقامة فيه، وهذا ما يعتبر الرهان الأكبر الذي تقف الحكومة أمامه. فعودة الأهالي إلى بيوتهم، تأتي في المرتبة الثانية من حيث الأهمية، بعد النصر العسكري الذي أحرزه الجيش السوري.
وفق أرقام رسميّة خاصة، فإنَّ 56400 نسمة كانوا يعيشون في قرابة 105 قرى ومزرعة منتشرة في جبَلي الأكراد والتركمان، لكنّ هؤلاء باتوا اليوم منتشرين في مواقع مختلفة بعيداً عن هذا الريف، وهم لم ينزحوا إلى اللاذقية المدينة إلَّا بأعدادٍ قليلة لا تفوق 600 عائلة، وفق ما هو مسجّل لدى جمعيّات المجتمع المدني في المحافظة.سكان من ربيعة يغادرون البلدة في اتجاه الحدود التركية بعد سيطرة الجيش السوري عليها (رويترز)
إلَّا أنَّ آلاف العائلات موجودة حالياً في تركيا وإدلب، حيث يعيش بعضهم في مخيمات على مشارف الحدود، فيما انخرط آخرون في المجتمع التركي باعتبار أنّهم تركمان الأصل وتربطهم علاقة سابقة بالأتراك، لكن نسبتهم قليلة ولا يشكّلون أرقاماً كبيرة، خصوصاً أنَّ هذه العلاقة حصرها الأتراك ـ تاريخياً بالنخب والمثقّفين والباحثين عن التطور الجامعي. وغالبية النازحين من هذا الريف، يعيشون حياة قاسية في المناطق التي نزحوا إليها سواء في المخيمات التركيّة أو في إدلب، علماً أن نسبة لا يستهان بها منهم هاجرت إلى أوروبا.
السكّان الذين نزحوا من الريف الشمالي إلى اللاذقية في العام 2012، هم مسيحيون وعلويون وسنة، بالإضافة إلى أبناء الطائفة المرشدية الذين تعرّضوا لضغوط كبيرة من قبل المسلحين، كما خُطف عدد منهم قبل أن يضطّروا إلى مغادرة قريتهم كدين باتجاه اللاذقيّة. هؤلاء جميعاً لديهم رغبة بالعودة إلى قراهم بعد غياب دام سنوات، لكن هذه العودة تحتاج إلى مقومات، في مقدّمتها إعادة البنى التحتيّة والخدمات وتأمين المواصلات وترميم المنازل المتضرّرة.
يقول وائل، وهو من أهالي الريف الشمالي: «لا أنكر أنَّه إذا ما قرّرنا العودة إلى قريتنا، سيكون هذا قراراً صعباً جداً، فهناك رهاب نفسي يمنع ذلك، لكن ظروف المعيشة هنا صعبة وعلينا أن نعود لكي نرتاح من عبء إيجار البيت ومصاريف الحياة، والعناية بأرضنا عسانا نعوّض خسائرنا في السنوات الماضية من خلال العمل في الزراعة وتسويق المحصول والمواسم، في ظل ارتفاع جنوني بالأسعار».
المقيمون في الخارج لهم رأي مختلف تماماً في موضوع العودة، فهم لا يثقون بالدولة، ولا تربطهم بها أيّ علاقة، وقد كانوا من أوّل من آمن بأنَّ النظام سيسقط قبل أربعة أعوام.
يقول ناشط مدني يعيش في تركيا: «اليوم يجب أن نطرح سؤالين مهمّين، هل يريد الأهالي العودة، وهل الدولة تريد إعادتهم؟ بحسب ما أرى، فإنَّ الأهالي غير متحمّسين للعودة، لكنهم لا يريدون العيش بعيداً عن أرضهم، والدولة حتى الآن لم تفعل شيئاً لإعادتهم. وهنا أقصد الدولة وليس النظام السياسي، وأرى أنَّ على الدولة أن تبني جسور الثقة معهم لكي يعودوا وتعود الحياة إلى الريف الشمالي، فقد اشتاق الناس لبيوتهم وحياتهم الطبيعية».
عوامل كثيرة تحول دون العودة الآن، يقول الناشط الذي يصنّف نفسه على أنّه غير منتمٍ سياسياً، ويضيف أنَّ «الخوف، والاختلاف السياسي، وغياب الثقة، وحالة الحقد التي تشكّلت خلال السنوات الخمس من الضخ الإعلامي الطائفي، وتخوين من يفكّر بالعودة من قبل المعارضة، تجربة الحفة الفاشلة (الحفة مدينة شهدت معارك في 2012 واستعادها الجيش في العام ذاته)، إذ لم تقدّم الدولة لأهالي الحفة ما يحفزهم على العودة إليها من ناحية المعاملة أو الدعم المعنوي، وظلت النظرة إليهم على أنّهم إرهابيون، فيما عانى الشبّان من صعوبة في التعامل مع الأجهزة الأمنيّة التي اعتقلت معظم الذين عادوا، ما أدّى في النهاية إلى قرار غالبية الأهالي عدم العودة إليها، وهي اليوم لا تحتضن أكثر من 25 في المئة من سكّانها الأصليين».
احتمالات عديدة تنتظر ريف اللاذقية الشمالي، أوّلها أن يبقى خالياً من سكّانه الأصليين حتى الوصول إلى التسوية السورية الشاملة المنتظرة، أو أن تنطلق الدولة في مشروع مصالحة شاملة لهذا الريف مع الأهالي وتبني جسور الثقة بينها وبينهم، لتبقى المشكلة الاجتماعية وحالة الانقسام المجتمعي التي نتجت عن سنوات الحرب والاعتداءات التي تعرّض لها الأهالي من مختلف الأطراف في هذا الريف، هي الأخطر. وكذلك المضايقات التي أفرزت درجةً عالية من الانقسام جعلت نسبة كبيرة من المؤيّدين والمعارضين غير قادرين على قبول بعضهم بعضاً، فهناك أصوات بين المؤيدين تطالب بعدم السماح للأهالي بالعودة، ومعارضين ينادون بالقطيعة وحتى الانتقام من الجيران المؤيدين. هذا يزيد الطين بلة، خصوصاً أن ملف المختطفين في ريف اللاذقية ما زال عالقاً ولم يتم التوصل إلى حلّ بشأنه، وهو سيبقى جرحاً مفتوحاً لدى أهالي المختطفين، سببه أبناء هذه العائلات التي ستعود للسكن بجانبهم كجيران.
من هنا، فإنَّ معظم المحلّلين وناشطي المجتمع المدني يجمعون على أنَّ ملف ريف اللاذقيّة يحتاج إلى مصالحة شاملة سياسيّة واجتماعيّة بغطاء واسع لقلب صفحة السنوات الخمس، وهي صفحة ليس من السهل طيّها، وتحتاج، بما لا شك فيه، إلى العمل بخطّين متوازيين في إعادة ترميم الحجر والبشر.

بلال سليطين

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...