دريد لحّام.. ذلك المجهول!

05-08-2008

دريد لحّام.. ذلك المجهول!

تنطوي حياة دريد لحّام على أكثر من مفارقة، فأستاذ الكيمياء في جامعة دمشق لم يخطط يوماً لأن يكون ممثلاً محترفاً، على رغم ولعه الشديد بالفنون... لكن تأسيس التلفزيون السوري عام 1960، فتح أمامه فرصة نادرة للكشف عن مواهبه الفنية خارج إطار جامعة دمشق، حيث كان يشرف على الفرقة المسرحية. وقد وضعه ذلك أمام مفترق طرق: هل يغامر بوظيفته الحكومية ويتجه إلى التمثيل؟ أم يكتفي ـــ من الفنّ ـــ بالهواية؟
في كواليس التلفزيون التقى صديق عمره نهاد قلعي، فشكلا ثنائياً كوميدياً، صار اليوم جزءاً من ذاكرة العالم العربي. هكذا ولدت شخصيتا «غوار الطوشة» و«حسني البورظان». الرجل النحيل والرجل البدين، نسخة عربيّة من لوريل وهاردي.
يقول دريد إنه استعار الاسم الذي سيشتهر به طوال حياته، من حارس أمام باب التلفزيون... لكن شخصية «غوّار» ستذهب إلى مناطق أبعد غوراً في تأكيد مفهوم «الرجل الصغير»، صاحب المقالب الكوميدية والمكائد الصغيرة. بشرواله وطربوشه وقبقابه ومكره الخاص، انتصر لهامشيته وهموم رجل الشارع. وإذا به يعبّر عن تطلعات الشرائح المسحوقة التي وجدت نفسها في مرآة هذه الشخصية، وقد كانت ــــ على نحو ما ــــ بوصلة لمآسي الإنسان البسيط. وربما لهذا السبب على وجه التحديد، رفض الجمهور لاحقاً شخصية «أبو الهنا» لفرط ضعفها وهشاشتها في مواجهة مشكلاتها الحياتية والاجتماعية: فهو لم يتعاطف معها لأنها كانت تواجهه بهزائمه وخيباته وانكساراته. «أبو الهنا» صورة عن اللا بطل، فيما الجمهور يبحث عن بطل يحقق المعجزات بالنيابة عنه. ويصرّ دريد لحام على ضرورة طي صورة «غوّار الطوشة»، بعد أن خرج من الحارة الشعبية، و«فندق صح النوم» إلى صخب الحياة اليومية بكل قسوتها، ليُصدم بالنفاق الاجتماعي والفساد وتبدّل القيم، وقلة الحيلة في مواجهة الفواتير الضخمة.
لكنّه يتذكر شخصية غوّار بحنين خاص، فهي ــــ كما يقول ــــ تشبه طفولته، ونشأته الأولى في أسرة فقيرة، كانت تقطن «حي الأمين» في دمشق. ويتذكّر أيضاً كيف واجه صعوبة العيش، في أسرة كبيرة كانت تعيش في غرفة واحدة، في «أكثر بقاع العالم كثافةً سكانية». خلال دراسته انخرط في مهن عدة، فعمل حداداً وخياطاً ومكوجياً، قبل أن ينهي الثانوية العامة بتفوق مع راتب شهري قدره 137 ليرة سورية طوال مرحلة الدراسة الجامعية: «عندما تقاضيت أول راتب أهديت والدتي طباخاً بفتيل يعمل على زيت الكاز». في مكتبه نجد متعلقات «غوّار» وإكسسواراته التي لم يتخلّ عنها، بوصفها تاريخاً شخصياً وفنياً من جهة، وصورة تذكارية عن الزمن السعيد.
لكن غوّار ليس كلّ حياة دريد! هناك مثلاً محطة أساسية أخرى في مسيرته، عنوانها «مسرح الشوك». بعد هزيمة الـ67، التقى الممثل المسرحي عمر حجو صاحب فكرة «مسرح الشوك»، وهي فقرات انتقادية ساخرة تعمل على تعرية الأنظمة العربية، وتفضح سطوة أجهزة الاستخبارات على الشارع العربي... قدما معاً عملاً انتقاديّاً افتتح «مهرجان دمشق المسرحي الأول»، فاهتزت له المدينة، وأزعج السلطة، وكاد المهرجان أن يتوقف.
منذ ذلك الوقت، وجد في النكتة السياسية مفتاحاً للتعبير عن هموم الشارع وقضاياه الراهنة... لكنه حين التقى محمد الماغوط، اكتشف نصاً أكثر جرأة في محاكمة السلطة، عبر مانشيتات ساخنة لم يعتدها الجمهور. مانشيتات تقوم على وضع المجتمع أمام تناقضاته مباشرة، من دون أي محاولة للتنميق أو التجميل، وبكاريكاتورية تثير ضحكاً أسود كالبكاء. هكذا جاءت «غربة» و«ضيعة تشرين»، و«كاسك يا وطن»... انتهاءً بـ«شقائق النعمان» التي انفرط بعدها العقد بين الشاعر والممثّل الكوميدي، نتيجة خلافات تتعلق بتوجهات هذا المسرح.
وفي الفترة نفسها، أنجز الماغوط ودريد لحّام للسينما فيلمي «الحدود» (1984)، و«التقرير» (1986)، وهما استمرار للنهج الهجائي نفسه... لكنهما في المقابل كانا نقلة نوعية في مسيرة هذا الفنان، من منطقة التهريج السينمائي في أفلامه القديمة مع نهاد قلعي... إلى منطقة انتقادية ساخرة، تخلّى فيها للمرة الأولى عن شخصية «غوّار الطوشة» الصعلوك المتشرد، وصاحب المقالب المضحكة، ليلبس شخصية «عبد الودود»، المواطن العربي العالق على الحدود بين بلدين عربيّين... في كوميديا هجائية راقية.
«كان الماغوط يرسم شخصيات محكومة سلفاً بالقفص الذي سجنها فيه، فيما كنت أضيف توابل غنائية وميلودرامية للتخفيف من وطأة الهجاء السياسي، والتأكيد على قيم كبرى مثل الوطن والشهيد والأرض والكرامة»... حتّى اليوم ما زال دريد لحّام يتجنّب التطرّق إلى أسباب القطيعة مع محمد الماغوط. يكتفي بالتعليق أن شريكه كان مزاجياً وسوداوياً، ولا يحتمل النقد... ويرى أن فترة التعاون بينهما كانت مثمرة، مضيفاً: «مسرح الماغوط فشل بعد افتراقنا».
لا شك في أن خسارة دريد لحام الكبرى كانت بالغياب الفاجع لشريكه الأول نهاد قلعي، أول من أسس للكوميديا الشعبية بنكهتها الدمشقية... كما في «صح النوم» و«مقالب غوار» و«ملح وسكر».... وإذا بهذه الأعمال تخترق الحدود المحلية نحو الفضاء العربي الأوسع، لتصبح أوّل سفيرة فنيّة للّهجة الشامية. أما بعد تلك المرحلة، فظلت خطوات هذا الفنان في صعود ونزول، على رغم دفاعه عن تجاربه اللاحقة. فهو يرى أن «الخروج من شخصية «غوّار» إلى شخصية «أبو الهنا» كان ضرورياً ومهماً. لكن اعتياد الجمهور على شخصية غوّار جعله ينفر من الشخصية الجديدة».
ولا مفرّ من أن يقود الحديث مع فيلسوف الكوميديا العربية إلى الأطفال: «هؤلاء الذين لم يعاصروا النكبات والهزائم العربية». التفت إليهم في أعمال مسرحية وسينمائية عدة، حملت توقيعه كاتباً ومخرجاً، مثل «العصفورة السعيدة»، و«الكفرون»، و«الآباء الصغار»... ونتيجة لاهتماماته بالطفولة والبيئة، اختارته منظمة اليونسيف ليكون سفيراً للنوايا الحسنة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (1997)، لكنه تخلّى عن المهمة لاحقاً (2004)، لأنه كما يقول رفض المساومة على عروبته واعترض على مبدأ تزوير الحقائق، حين وقف عند «بوابة فاطمة» في الجنوب اللبناني، وقذف حجراً باتجاه الجنود الإسرائيليين، ليعبّر عن دعمه للمقاومة، فكان هذا الموقف سبباً لاتهامه بدعم الإرهاب، ومطالبته من جانب الهيئة الدولية بالاعتذار. وهنا اتخذ الفنان قراره بالتخلي عن هذا المنصب الفخري، لأنه لا يتوافق مع مبادئه ومواقفه الوطنية.
في السنوات الأخيرة، توجه دريد إلى تقديم البرامج التلفزيونية، مثل «على مسؤوليتي» و«عالم دريد»، ليطرح عبر الشاشة الصغيرة هموماً وقضايا راهنة تكشف بعمق وجرأة عن مكمن الوجع العربي، من دون مجاملة أو مواربة... وقد أثارت بعض الحلقات ردود أفعال غاضبة، وصلت في بعضها إلى حدود التكفير. هل جاء زمن تكفير «غوّار الطوشة»؟

 

5 تواريخ

1934
الولادة في دمشق لأب سوري وأم لبنانية
1960
أول ظهور تلفزيوني
لـ«غوّار» في «الإجازة السعيدة»
1964
الوقوف أمام كاميرا
في فيلم «عقد اللولو»
1997
سفير اليونيسيف للأطفال في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حتّى استقالته عام 2004
2007
وسام الاستحقاق السوري

خليل صويلح

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...