حفريات الجارور

03-04-2009

حفريات الجارور

لم يرد محمود درويش لقصيدته أن تنتهي, فترك خلفه مخطوط ديوان جاهزاً للنشر قبل أن يسافر الى أميركا للعلاج, على أمل العودة ليقوم بنفسه بدفعه الى النشر, لكن الموت لم يمهله. كان على موعد مسبق معه, ليس بالوسع تأجيله ثانية.
إلا أن القصيدة بقيت في منزله تنتظر من ينوب عنه ليخرجها الى النور, وكانت قصتها ستكون بسيطة لو أن أصدقاء الراحل وأهله حين وجدوها أطلقوا سراحها فوراً وبلا تردد, لكن الارتباك الذي خلفه رحيل درويش, شاء أن تنسج حول الديوان قصة تعوق نشره, ليصدر اخيراً تحت عنوان «لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي» مرفقا بكتيب بعنوان «حكاية الديوان الأخير» بقلم الياس خوري, يروي فيه قصة بوليسية مثيرة عن اكتشاف قصائد الديوان, وكأنها مخطوطات البحر الميت, عثر عليها أثناء التنقيب في كهف قديم, يعود للقرون الأولى للميلاد, لا مخطوط ديوان جاهز للنشر قال صاحبه أنه تركه في منزله في عمان, ونشر منه ثلاث قصائد في الصحافة. يتحدث خوري بإسهاب كيف دخل الأصدقاء الى بيت درويش, مورداً تفاصيل ساذجة في تناقضها, فيقول «خطر في بالي أن الديوان في الدرج, حاولت فتحه, لكن اضطرابي أوحى لي بأن الدرج مقفل. بحثنا عن المفتاح فلم نجده. قلت يجب أن نخلع الدرج, حين امتدت يد أحد الأصدقاء فتحت الدرج فانفتح بسلاسة»!!
المهم تم بعونه تعالى فتح الدرج, فوقعت عيناه على أكوام من الأوراق, ووجد قصائد بخط يد درويش سبق ونشرت ولم يعثر على قصائد جديدة؛ هذا في البداية, وفجأة وفيما هو يقلب ويبحث «شبه يائس» رأى دفتر بلوك نوت ازرق وضعت فيه القصائد, تابع البحث فلم يعثر على قصائد أخرى جديدة. كل ذلك البحث في الدرج فقط, وكأن مساحته بحجم منزل من عدة طوابق, يتطلب بداية ونهاية يتوسطهما تنقيب لا ينتهي. بعد أن عثر على الدفتر الذي هو المخطوط, قام بترقيمه, لأن كل قصيدة رقمت على حدة, كما تم استبدال الترقيم الهندي بالعربي, ثم نسخ عنه نسختين واحدة احتفظ بها والثانية أخذها أحمد درويش والمحامي جواد بولس, وأعيد المخطوط الى مكانه في الدرج.
بعد أن قرأ خوري المجموعة أكثر من مرة, تأكد له أنه لم يعثر على كل القصائد وأن قصيدة كبرى لا تزال في مكان ما وأن اضطرابه وأصدقاء درويش منعهم من اكتشاف مكانها. في اليوم التالي رن الهاتف فيما هو يشرب فنجان القهوة وابلغه مرسيل خليفة بأن غانم زريقات عثر على القصيدة, مكتوبة بخط درويش وهي ناجزة ولا اثر فيها للتشطيب أو اقتراحات للتعديل, وعثر معها على خمس قصائد أخرى. ورغم الولع الذي أظهره خوري في سرد تفاصيل البحبشة ومراحل الحفريات في الدرج, الا أنه لم يذكر أين عثر زريقات على القصيدة الكبرى والقصائد الصغيرة في الدرج ذاته أم فوق الطاولة أو في مكان آخر, ربما كي لا يمنحه حق الاكتشاف.
يتابع خوري رواية حكاية الديوان الأخير الذي كان من المفترض أن يكون عنوانها حكاية حفريات الجارور واكتشاف الدفتر الأزرق, أنه بعد انتهائه من اعداد المخطوط للنشر «اكتشفت الآن أنني لم افعل شيئا تقريباً, وأن درويش كان صادقاً حين روى لنا أنه ترك مخطوط ديوانه في عمان, وان الديوان شبه جاهز».
إذاً لماذا تكبد عناء تأليف قصة لم يكتف بنشرها كمقال صحفي, بل أصر على أن تكون مقدمة أو مؤخرة لديوان محمود درويش الذي لم يسبق وأن قدم أو أخَّر له أحد ديواناً, هل هو الاخلاص للصداقة أم تحميل منّية لذكرى الراحل ولقرائه, لأنه فتح الجارور وأعاق نشر الديوان ثلاثة أشهر, اذ كان من المنتظر اصداره خلال معرض بيروت للكتاب موعد محمود درويش مع قرائه!! وهل يحتاج الجهد الذي بذله كل هذا التهويل والمبالغة في قصة العثور عليها, واعدادها للنشر؟! وهو جهد لا يفتقد الى الغموض المفتعل والتناقض الملتوي, فتارة يقول إنه لم يفعل شيئاً, وأخرى يتقدم بالشكر لحوالي سبعة أشخاص دخلوا معه البيت وساعدوه في العثور على القصائد, والى شخصين شجعوه وتحملوا معه أعباء المراحل الأولى من قراءة المخطوط, والى ثلة من الأصدقاء قرأ لهم بعض قصائد الديوان طالباً النصح... أي عمل فذ هذا الذي قام به ليكون بمثابة «تحية حب وصداقة», ثم هل تحتاج قصائد درويش الى من يقول إنه يتحمل المسؤولية عنها وعن الأخطاء الواردة فيها؟! مع أنه كان من الممكن الاكتفاء بقراءة نقدية في القصائد تغنينا عن قصة مشوشة تسيء لكاتبها وللشاعر وللصداقة, تنشر بالتزامن مع صدور الديوان. لو أن محمود درويش رحمه الله نجا من العمل الجراحي, لما تحولت هذه المناسبة الحزينة الى فرصة للدعاية والاعلان.
عندما نقرأ ما ورد في الكتيب الصغير الملحق بالديوان يتعمق لدينا الاحساس بالألم على رحيل الأدباء, حين يصبح غيابهم مناسبة لتكريس عادات ثقافية مقيتة, أشبه بمهنة النائحة المنقرضة تعود الينا من باب الثقافة, فكلما توفي أديب أطل عشرات الأدباء من الصفحات الثقافية يندبون العبقرية الفذة للراحل, حتى لو كان معظمهم ليسوا على علاقة به, أو حتى لم يقرؤوا له يوماً... وكأنما الندب من باب أداء واجب العزاء, واذا كان أديباً كبيراً يغدو محاولة لنيل حصة من أرث الأضواء.
لا نتحسر على شيء بقدر ما نتحسر على عدم امكان معرفة آراء الراحلين بما يقال عنهم بعد رحيلهم حين لا رجاء بإنقاذهم من رثاء رث... فيما نسمع سؤال الموتى ينبت من ديوان محمود درويش الأخير: من ينقذ الغد من خلل في الطبائع, أو خطأ في كتاب€الشرائع؟

سعاد جروس

المصدر: الكفاح العربي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...