الكيمياء على المسرح

01-03-2014

الكيمياء على المسرح

سنوات طويلة مضت على الظهور الأول لدريد لحام، وقتذاك كان الشاب يعمل مع الفرقة المسرحية لجامعة دمشق، فيقدم ما يشبه «اسكتشات» ساخرة كان معظمها ينحصر في مجال الطرفة الشعبية السوداء، فبعد تخرجه من كلية الكيمياء زمن دولة الوحدة 1958، فكر الرجل أين يمضي بمعادلاته عن الكيمياء العضوية، لعله توقف كثيراً عند كتاب جابر بن حيان «تكوين إنسان بصناعة الكيمياء - كتاب التجميع» ولعل «كارلوس» - اسم الشخصية التي ظهر بها لأول مرة - لمعت في باله تلك الفكرة الجهنمية، كيف لا ودريد لحام بالأصل خيميائي، لطالما خبِرَ عن قرب تلك الرهافة التي تُمكّن الإنسان من بلوغ معرفة كلية بصوغ المادة وتحولاتها، بلوغها في الطاقة وتحققها فيسنوات طويلة مضت على الظهور الأول لدريد لحام، وقتذاك كان الشاب يعمل مع الفرقة المسرحية لجامعة دمشق، فيقدم ما يشبه «اسكتشات» ساخرة كان معظمها ينحصر في مجال الطرفة الشعبية السوداء، فبعد تخرجه من كلية الكيمياء زمن دولة الوحدة 1958، فكر الرجل أين يمضي بمعادلاته عن الكيمياء العضوية، لعله توقف كثيراً عند كتاب جابر بن حيان «تكوين إنسان بصناعة الكيمياء - كتاب التجميع» ولعل «كارلوس» - اسم الشخصية التي ظهر بها لأول مرة - لمعت في باله تلك الفكرة الجهنمية، كيف لا ودريد لحام بالأصل خيميائي، لطالما خبِرَ عن قرب تلك الرهافة التي تُمكّن الإنسان من بلوغ معرفة كلية بصوغ المادة وتحولاتها، بلوغها في الطاقة وتحققها في الأجساد الحية على هيئة ملامح ورغبات وعواطف. هذه المعرفة الأولية بمنهجية فن الكيمياء جعلت الرجل ذا دربة كبيرة في علومه الصنعوية، فكيمياء شخصية مثل «غوار الطوشي» تحتاج فعلاً إلى هذا النوع من المعرفة الدقيقة بثنائية المادة والصورة، بل وربما تحتاج أكثر إلى ذلك العقل العلمي الممزوج بالنزعة الروحانية التي دفعت ابن حيان إلى تأليف كتابه المعجزة آنف الذكر، وهو - أي دريد - إن كان ليس امتداداً لتراثٍ سحريٍ غنوصي كما سلفه، فإنه بطريقةٍ أو بأخرى امتداد أصلي للطرافة الدمشقية الممزوجة بسلسلة من الرموز والأحاجي وقراءة الكف والفناجين والسخرية اللاذعة، وقل الموهبة الفطرية في تقليد البشر ومحاكاتهم. من هنا استمد دريد لحام تلك الملكة العجيبة في تقمص البشر وشرق أرواحهم ومن ثم إعادة تشكيلهم في أجسامٍ محايدة، من هنا أيضاً كان «لحام» مندمجاً بقوة مع بيئته الشامية ذات النكهة الممزوجة بالسحر والتعاويذ وطاسات الرعب، الفكاهة المشغولة على نول الذاكرة الشعبية وخيم الكراكوزاتية وصناديق الفرجة. هكذا لم يطل الرجل على جمهوره انتظار معجزته الكيميائية، التي بدلاً من أن يستخدم فيها خبرته في تخليص الرصاص من النحاس وإحالة الحجر إلى ذهب، استخدم نفسه وصورته وجسده وصوته وشرايينه لخياطة ملامحها، ورسم تكويناتها النفسية والمادية، فكان «غوار الطوشة» بشحمه ولحمه، بفراسته البلدية ولكنةِ لسانه، بهيبته ونزعته الوجودية وغرامه بالحرية في زنزانة «أبو كلبشة».. كان «غوار» خلاصة المكر الشامي والدهاء المتوارث، المحتال الذي تمتن لاحتياله عليك، اللص الظريف الذي يقفز من أوتيل «صح النوم» إلى «حمّام الهنا» برشاقة كائنِ يمشي بقبقابه كأنما يصفق لنفسه، الحاوي ومطرب السجون، العاشق والشغيل المغلوب على أمره، المناضل الثوري في «كاسك يا وطن» و«الآغا» الذي يطعم الدستور للحمار، ويمنع العلم في ضيعة «غربة»، المنبوذ والتائه بين حدود «شرق ستان»، و«غرب ستان» في «الحدود». شخصية استثنائية لا يصعب عليها شيء، فهذا «الغوار» قادر على تقمص الصحافي والمهرّب والإقطاعي وابن الحرام اللذيذ؛ بل كيمياؤه تسمح له في أن يلبس كل ما يلحظه بشطارة لا تُجارى، كيف لا وقد أنتجت دراسة الكيمياء شخصيةً لوّعت قلوب الملايين، وخلبت عقلها، لدرجة أمسى فيها الفصل بين «غوار» و«دريد» ضرباً من ضروب المستحيل؛ إذ حمل هذا الكاركتر قدرة فائقة على نقل توريات النص الماغوطي المكتوب للمسرح والسينما بقدرة عالية على فضح أجهزة المخابرات وهتك ذهنية السلطة العربية، وتشريح مرارة البروليتاريا وخيباتها المتلاحقة جراء العسف الواقع عليها حتى منها، قبل أن يكون من قِبل دراكولات النفوذ وغيلان المال والسطوة؟ صحيح أن شخصية «غوار» استُهلكت في أفلام القطاع الخاص، لا سيما في تجربة دريد لحام مع المخرج نبيل المالح في فيلم «غوار جيمس بوند 1974».  السينما   إلا أن السينما أعادت لهذا الفنان اعتباره في فيلمي «الحدود» و«التقرير» لكن هذه المرة دون شرواله الأسود وطربوشه العثماني، بل بجاكيت الخاكي وتسريحة شعر سبعينية، ليظهر «غوار» كرجلٍ مطرود من رحمة الأبيض والأسود بعد شهرته التي طارت في جهات الأرض الأربع مع نهاد قلعي في ثلاثية المقالب المشهورة، فهو في «الحدود» شذرة إنسانية مقهورة، مجرد مستحاثة عن وطنِ لا يعترف إلا بجواز السفر، إنه هنا مجرد خردة متروكة في براري الاغتراب الأبدي؛ فبعد صولات وجولات مع معلمته «فطوم» المرأة الشامية المغرمة بنزيل فندقها الصحافي «حسني البورظان» ها هي الشخصية تهتدي أخيراً إلى خشبة مسرح العمال بدمشق، وها هو المسرح الذي أفاد فيه «لحام» من تجربة الرحابنة الغنائية ونصوص الماغوط الصادمة تكيل الصاع تلو الصاع لما سُمي في سوريا وقتذاك بـ«المسرح التجريبي» أو «المسرح الجاد»، التجربة التي قادها كل من سعد الله ونوس وفواز الساجر لتطبيق نظريات برتولد بريخت على الجمهور السوري سبعينيات القرن الفائت، وأدت في ما بعد إلى تطفيش هذا الجمهور من مسرح ذهني أراد كسر «الجدار الرابع» فكسر معه أضلاع الفرجة وحميميتها، إلا أن مسرح الماغوط ولحام لم يتأخر، هذا المسرح الطازج الذي اتهمه البعض بمسرح الهتاف السياسي ما زال قادراً حتى اليوم على أن يجلب إليه جمهوراً عريضاً من شرق العالم العربي إلى غربه؛ حتى على شاشات التلفزيون التي تحتفظ بشرائط مسرحيات «كاسك يا وطن، غربة، ضيعة تشرين، شقائق النعمان» وقبله اسكتشات «مسرح الشوك» الذي عمل فيه «لحام» مع كل من عمر حجو ورفيق سبيعي وآخرين على مجابهة مسرح النظرية.  الجمهور   أدرك «غوار» أن الجمهور الهارب من صالات المسرح التجريبي متعطش بقوة لما يعنيه ويخصه، وليس لتجريب نظريات ونصوص أنطونان آرتو وستانسلافسكي وبيترفايس به؛ فالجمهور كائن تاريخي وجغرافي، الجمهور الذي كان يتدافع لحضور «كاسك يا وطن» على مسرح نقابات العمال كان شغوفاً أيما شغف برؤية من يشبهه على الخشبة، ومن غير «غوار الطوشة» الذي مزق الشاشة وأتى إلى المسرح كان قادراً على إعادة الجمهور إلى صالات العرض؟ من كان يجرؤ أصلاً على معارضة «الأكاديميين» بمسرحيات شعبية ذات نبرة شعرية كالتي كتبها الماغوط وأخرجها ولعب بطولتها دريد لحام، مستثمراً أيما استثمار شعبية شخصيته الساحرة «ابن مشعل الطوشة» كيف لا وهذا هذا الطيش من هذه «الطوشة»؟.. طيش أنقذ الجمهور التائه بين مسرحين: سبعينيات القرن الفائت، مسرح تجاري هزلي سطحي، ومسرح متعال متفاصح ويجرب بمتفرجيه عبر مآس إغريقية وشكسبيرية وكوميديا موليير المترجمة ترجمة سيئة، فلأول مرة شاهد الجمهور هنا هواجسه، حرمانه المزمن، قهره العميق من بطش السلطة وجبروتها، مفارقاته المريرة التي جسدها «الطوشة» على المسرح، مثلما برع في أدائها على شاشة السينما والتلفزيون، فها هو «غوار» يمثل مجدداً بين أيدي «الكلبشة» في «كاسك يا وطن» لكن هذه المرة بدلاً من «الفلق» يقعدونه على كرسي الكهرباء في مشهد يجسد مفارقة المفارقات عندما يسأله المحقق عن سبب انتعاشه وعدم تأثره بقوة التيار الكهربائي الموصول إلى جسده فيقول «أضحك يا سيدي لأن الكهرباء وصلت إلى مؤخرتي قبل أن تصل إلى ضيعتنا»! هو «غوار» على المسرح ولا شريك له في نقده الماغوطي اللاذع عندما في غير مشهدٍ من المسرحية ذاتها يبيع أولاده ويشتري بثمنهم «بطحة عرق» ليكلم أباه الشهيد الذي يهاتفه الآن من الجنة، سائلاً إياه عن العرب وفلسطين و«اليهود المساكين» خاتماً كلامه بصرخة «مو ناقصنا غير شوية كرامي».. فأيُّ مسرحٍ سيصمد بعد في وجه هذا المسرح. «الطوشة» هذا المسرح الذي أزعج السلطة، بينما كان «المسرح الجاد» يتابع كوارثه الملحمية عن «أوديب» و«كاليغولا» و«سكان الكهف» مُغرقاً في تعمية الجمهور وخداعه؟ وأيُّ «أوديب» هذا القادر على ملامسة جراح البسطاء والفعيلة في ليل المدينة العربية؟ ومثلما كان المسرح الرسمي غارقاً في نظريات بريخت ونصوص جان جينيه ولوركا دون إعدادها كما يجب ونقلها من بيئتها الأصلية إلى بيئة العرض المحلية، كانت السينما السورية عبر متخرّجيها القادمين للتو من موسكو يجربون بالجمهور على طريقة تاركوفسكي وأيزانشتين حالمين بإبداع «قربان» آخر و«مدرعة بوتيمكين» أخرى؛ إلى أن جاء فيلم «الحدود» الذي اتكأ على حبكة الماغوط وقصته القوية، ناقلاً عبر «غوار - عبد الودود» فداحة الواقع السياسي العربي المتهرئ إبان الاستقلال، شريط صادم أخرجه «لحام» للسينما بعيداً عن كل نظريات التجريب بالجمهور، ناقلاً بحساسيته الخيميائية صورة المواطن العربي النكرة، المواطن المجرّم بهويته وشخصيته وانتمائه وأحلامه الصغيرة، فكان الرد أيضاً ساطعاً على «السينما الجادة» التي دخلت سراديب التجريب بالجمهور الذي انفض عنها أيضاً، هاجراً صالات العرض إلى غير رجعة، فالسينما أيضاً تحتاج إلى قصة واضحة وإلى نجم شباك تذاكر من قامة دريد لحام ومن معه من نجوم «حارة كل مين إيدو إلو»، سينما قادرة على التخلص من ظاهرة «سينما المؤلف» وتبعاتها؛ نحو سيرة الناس وهموم مجتمعاتهم، لا أفلام المهرجانات المشغولة وفق مزاج لجان تحكيمها التي تشجع - بالطبع - مريدي ومعتنقي أساليبها، فلقد كان كافياً إلى حدٍ بعيد أن يكون اسم دريد لحام على أفيش فيلم أو مسرحية أو إعلان لمسلسل تلفزيوني حتى ينجح الفيلم وتزدهر المسرحية، وهذا ما يفسر لنا إخفاق نبيل المالح في تجربته مع «لحام» في فيله «غوار جيمس بوند» حيث ظن المالح أن «غوار» يمكن أن يتماهى مع موجة «جيمس بوند» في السينما العالمية؛ وذلك وفق تأطير تجاري بحت لم يفهم عمق الشخصية الشعبية التي كان «لحام» خيميائيها الأفضل. الأجساد الحية على هيئة ملامح ورغبات وعواطف. هذه المعرفة الأولية بمنهجية فن الكيمياء جعلت الرجل ذا دربة كبيرة في علومه الصنعوية، فكيمياء شخصية مثل «غوار الطوشي» تحتاج فعلاً إلى هذا النوع من المعرفة الدقيقة بثنائية المادة والصورة، بل وربما تحتاج أكثر إلى ذلك العقل العلمي الممزوج بالنزعة الروحانية التي دفعت ابن حيان إلى تأليف كتابه المعجزة آنف الذكر، وهو - أي دريد - إن كان ليس امتداداً لتراثٍ سحريٍ غنوصي كما سلفه، فإنه بطريقةٍ أو بأخرى امتداد أصلي للطرافة الدمشقية الممزوجة بسلسلة من الرموز والأحاجي وقراءة الكف والفناجين والسخرية اللاذعة، وقل الموهبة الفطرية في تقليد البشر ومحاكاتهم. من هنا استمد دريد لحام تلك الملكة العجيبة في تقمص البشر وشرق أرواحهم ومن ثم إعادة تشكيلهم في أجسامٍ محايدة، من هنا أيضاً كان «لحام» مندمجاً بقوة مع بيئته الشامية ذات النكهة الممزوجة بالسحر والتعاويذ وطاسات الرعب، الفكاهة المشغولة على نول الذاكرة الشعبية وخيم الكراكوزاتية وصناديق الفرجة. هكذا لم يطل الرجل على جمهوره انتظار معجزته الكيميائية، التي بدلاً من أن يستخدم فيها خبرته في تخليص الرصاص من النحاس وإحالة الحجر إلى ذهب، استخدم نفسه وصورته وجسده وصوته وشرايينه لخياطة ملامحها، ورسم تكويناتها النفسية والمادية، فكان «غوار الطوشة» بشحمه ولحمه، بفراسته البلدية ولكنةِ لسانه، بهيبته ونزعته الوجودية وغرامه بالحرية في زنزانة «أبو كلبشة».. كان «غوار» خلاصة المكر الشامي والدهاء المتوارث، المحتال الذي تمتن لاحتياله عليك، اللص الظريف الذي يقفز من أوتيل «صح النوم» إلى «حمّام الهنا» برشاقة كائنِ يمشي بقبقابه كأنما يصفق لنفسه، الحاوي ومطرب السجون، العاشق والشغيل المغلوب على أمره، المناضل الثوري في «كاسك يا وطن» و«الآغا» الذي يطعم الدستور للحمار، ويمنع العلم في ضيعة «غربة»، المنبوذ والتائه بين حدود «شرق ستان»، و«غرب ستان» في «الحدود». شخصية استثنائية لا يصعب عليها شيء، فهذا «الغوار» قادر على تقمص الصحافي والمهرّب والإقطاعي وابن الحرام اللذيذ؛ بل كيمياؤه تسمح له في أن يلبس كل ما يلحظه بشطارة لا تُجارى، كيف لا وقد أنتجت دراسة الكيمياء شخصيةً لوّعت قلوب الملايين، وخلبت عقلها، لدرجة أمسى فيها الفصل بين «غوار» و«دريد» ضرباً من ضروب المستحيل؛ إذ حمل هذا الكاركتر قدرة فائقة على نقل توريات النص الماغوطي المكتوب للمسرح والسينما بقدرة عالية على فضح أجهزة المخابرات وهتك ذهنية السلطة العربية، وتشريح مرارة البروليتاريا وخيباتها المتلاحقة جراء العسف الواقع عليها حتى منها، قبل أن يكون من قِبل دراكولات النفوذ وغيلان المال والسطوة؟ صحيح أن شخصية «غوار» استُهلكت في أفلام القطاع الخاص، لا سيما في تجربة دريد لحام مع المخرج نبيل المالح في فيلم «غوار جيمس بوند 1974».

السينما

 إلا أن السينما أعادت لهذا الفنان اعتباره في فيلمي «الحدود» و«التقرير» لكن هذه المرة دون شرواله الأسود وطربوشه العثماني، بل بجاكيت الخاكي وتسريحة شعر سبعينية، ليظهر «غوار» كرجلٍ مطرود من رحمة الأبيض والأسود بعد شهرته التي طارت في جهات الأرض الأربع مع نهاد قلعي في ثلاثية المقالب المشهورة، فهو في «الحدود» شذرة إنسانية مقهورة، مجرد مستحاثة عن وطنِ لا يعترف إلا بجواز السفر، إنه هنا مجرد خردة متروكة في براري الاغتراب الأبدي؛ فبعد صولات وجولات مع معلمته «فطوم» المرأة الشامية المغرمة بنزيل فندقها الصحافي «حسني البورظان» ها هي الشخصية تهتدي أخيراً إلى خشبة مسرح العمال بدمشق، وها هو المسرح الذي أفاد فيه «لحام» من تجربة الرحابنة الغنائية ونصوص الماغوط الصادمة تكيل الصاع تلو الصاع لما سُمي في سوريا وقتذاك بـ«المسرح التجريبي» أو «المسرح الجاد»، التجربة التي قادها كل من سعد الله ونوس وفواز الساجر لتطبيق نظريات برتولد بريخت على الجمهور السوري سبعينيات القرن الفائت، وأدت في ما بعد إلى تطفيش هذا الجمهور من مسرح ذهني أراد كسر «الجدار الرابع» فكسر معه أضلاع الفرجة وحميميتها، إلا أن مسرح الماغوط ولحام لم يتأخر، هذا المسرح الطازج الذي اتهمه البعض بمسرح الهتاف السياسي ما زال قادراً حتى اليوم على أن يجلب إليه جمهوراً عريضاً من شرق العالم العربي إلى غربه؛ حتى على شاشات التلفزيون التي تحتفظ بشرائط مسرحيات «كاسك يا وطن، غربة، ضيعة تشرين، شقائق النعمان» وقبله اسكتشات «مسرح الشوك» الذي عمل فيه «لحام» مع كل من عمر حجو ورفيق سبيعي وآخرين على مجابهة مسرح النظرية.

الجمهور

 أدرك «غوار» أن الجمهور الهارب من صالات المسرح التجريبي متعطش بقوة لما يعنيه ويخصه، وليس لتجريب نظريات ونصوص أنطونان آرتو وستانسلافسكي وبيترفايس به؛ فالجمهور كائن تاريخي وجغرافي، الجمهور الذي كان يتدافع لحضور «كاسك يا وطن» على مسرح نقابات العمال كان شغوفاً أيما شغف برؤية من يشبهه على الخشبة، ومن غير «غوار الطوشة» الذي مزق الشاشة وأتى إلى المسرح كان قادراً على إعادة الجمهور إلى صالات العرض؟ من كان يجرؤ أصلاً على معارضة «الأكاديميين» بمسرحيات شعبية ذات نبرة شعرية كالتي كتبها الماغوط وأخرجها ولعب بطولتها دريد لحام، مستثمراً أيما استثمار شعبية شخصيته الساحرة «ابن مشعل الطوشة» كيف لا وهذا هذا الطيش من هذه «الطوشة»؟.. طيش أنقذ الجمهور التائه بين مسرحين: سبعينيات القرن الفائت، مسرح تجاري هزلي سطحي، ومسرح متعال متفاصح ويجرب بمتفرجيه عبر مآس إغريقية وشكسبيرية وكوميديا موليير المترجمة ترجمة سيئة، فلأول مرة شاهد الجمهور هنا هواجسه، حرمانه المزمن، قهره العميق من بطش السلطة وجبروتها، مفارقاته المريرة التي جسدها «الطوشة» على المسرح، مثلما برع في أدائها على شاشة السينما والتلفزيون، فها هو «غوار» يمثل مجدداً بين أيدي «الكلبشة» في «كاسك يا وطن» لكن هذه المرة بدلاً من «الفلق» يقعدونه على كرسي الكهرباء في مشهد يجسد مفارقة المفارقات عندما يسأله المحقق عن سبب انتعاشه وعدم تأثره بقوة التيار الكهربائي الموصول إلى جسده فيقول «أضحك يا سيدي لأن الكهرباء وصلت إلى مؤخرتي قبل أن تصل إلى ضيعتنا»! هو «غوار» على المسرح ولا شريك له في نقده الماغوطي اللاذع عندما في غير مشهدٍ من المسرحية ذاتها يبيع أولاده ويشتري بثمنهم «بطحة عرق» ليكلم أباه الشهيد الذي يهاتفه الآن من الجنة، سائلاً إياه عن العرب وفلسطين و«اليهود المساكين» خاتماً كلامه بصرخة «مو ناقصنا غير شوية كرامي».. فأيُّ مسرحٍ سيصمد بعد في وجه هذا المسرح.
«الطوشة» هذا المسرح الذي أزعج السلطة، بينما كان «المسرح الجاد» يتابع كوارثه الملحمية عن «أوديب» و«كاليغولا» و«سكان الكهف» مُغرقاً في تعمية الجمهور وخداعه؟ وأيُّ «أوديب» هذا القادر على ملامسة جراح البسطاء والفعيلة في ليل المدينة العربية؟ ومثلما كان المسرح الرسمي غارقاً في نظريات بريخت ونصوص جان جينيه ولوركا دون إعدادها كما يجب ونقلها من بيئتها الأصلية إلى بيئة العرض المحلية، كانت السينما السورية عبر متخرّجيها القادمين للتو من موسكو يجربون بالجمهور على طريقة تاركوفسكي وأيزانشتين حالمين بإبداع «قربان» آخر و«مدرعة بوتيمكين» أخرى؛ إلى أن جاء فيلم «الحدود» الذي اتكأ على حبكة الماغوط وقصته القوية، ناقلاً عبر «غوار - عبد الودود» فداحة الواقع السياسي العربي المتهرئ إبان الاستقلال، شريط صادم أخرجه «لحام» للسينما بعيداً عن كل نظريات التجريب بالجمهور، ناقلاً بحساسيته الخيميائية صورة المواطن العربي النكرة، المواطن المجرّم بهويته وشخصيته وانتمائه وأحلامه الصغيرة، فكان الرد أيضاً ساطعاً على «السينما الجادة» التي دخلت سراديب التجريب بالجمهور الذي انفض عنها أيضاً، هاجراً صالات العرض إلى غير رجعة، فالسينما أيضاً تحتاج إلى قصة واضحة وإلى نجم شباك تذاكر من قامة دريد لحام ومن معه من نجوم «حارة كل مين إيدو إلو»، سينما قادرة على التخلص من ظاهرة «سينما المؤلف» وتبعاتها؛ نحو سيرة الناس وهموم مجتمعاتهم، لا أفلام المهرجانات المشغولة وفق مزاج لجان تحكيمها التي تشجع - بالطبع - مريدي ومعتنقي أساليبها، فلقد كان كافياً إلى حدٍ بعيد أن يكون اسم دريد لحام على أفيش فيلم أو مسرحية أو إعلان لمسلسل تلفزيوني حتى ينجح الفيلم وتزدهر المسرحية، وهذا ما يفسر لنا إخفاق نبيل المالح في تجربته مع «لحام» في فيله «غوار جيمس بوند» حيث ظن المالح أن «غوار» يمكن أن يتماهى مع موجة «جيمس بوند» في السينما العالمية؛ وذلك وفق تأطير تجاري بحت لم يفهم عمق الشخصية الشعبية التي كان «لحام» خيميائيها الأفضل.

سامر محمد اسماعيل

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...