الفنان السوري بين مطرقة القائمة السوداء وسندان الإعلام الرسمي وشبه الرسمي

02-05-2011

الفنان السوري بين مطرقة القائمة السوداء وسندان الإعلام الرسمي وشبه الرسمي

علمتمونا أن نكسر حاجز الصمت، أغرقتم فضاءات فكرنا بقضية الحُور العين المحاصرات في أقبية علي بابا والأربعين انتحاري، ولكنكم للأسف لازلتم تعتبرون بعد كل هذه المشاهد الدامية أن مطالبتنا إياكم بتسجيل موقف خط أحمر.
فلماذا كل هذا الصمت؟ هل حسبتم أن رسالة الفن تشمل وحسب التحذير من الإصابة بالإيدز، أو الانزلاق إلى تيارات المذهبية الضحلة، أو تجارة الرقيق الأبيض كشكل من أشكال المجتمع المتمدن؟
أم كنتم ممن قض مضجعهم الكابوس من فوضى القوائم، أحد أهم مفرزات الثورة في مصر، أو الخُواف من الببغائية الشعبية ومفرداتها المندرجة تحت قائمة أعراض الهذاء السياسي الجماعي، مثل أبواق السلطة، وممثلي قائمة العار، والقائمة الحمراء للحياديين، وما شابه.. لا أعتقد ذلك.
ربما إذاً لازلتم تُصدقون أن اللُحمة الوطنية في هذه المرحلة الحرجة تقتضي إقصاء ذواتكم عن مسرح الواقع، هل خوفكم من أن تُتهموا بالشخصنة وبالمناطقية، وهو ما جعلكم تختارون الصمت سيناريو موحداً، اعلموا أن الحياد في هذه الأوقات لن ينأى بكم عن اتهام البعض لكم أنكم مذهبيون، ولربما سيذهب البعض منهم إلى اتهامكم بالممثلين وليس بالفنانين.. شتان بين الممثل الذي حبس أفكاره تحت حفنة من قصاصات الورق، وبين آخر اعتلى المنابر ليأخذ بيد ذلك الشباب، ليُطلعه على ما يجري في كواليس النصوص الدرامية، ولماذا كانت تلك النصوص ضرورية خلال السنوات الأخيرة في سورية؟
 لم يعد يهمنا الآن إن كانت الحوريات بانتظارهم فعلاً، فهمنا جيداً أن عددهن ليس كافياً، ولكن يا حبذا لو تشرحوا لهم أيضاً أن الحوريات يكرهون لون دم الأبرياء، ولن يُقبّلوا نواصيهم وإن كانت تستحق التقبيل بنظرنا، فكلهم أولادنا، وأنَا لازلنا أمهات، وكلنا آباء، ولازالت غُددنا الدمعية حية، لم ُتشوه بماكينة التسييس المناطقي الحاقد، فهم في المجموع وإن اختلفت توجهاتهم يحلمون قبل قانون موحد للأحزاب، أن يعيشوا أطياف الحب، هم شباب سورية، هم أملها، لا تسمحوا لمنابر العابثين الطائفيين أن تُلقن أدمغتهم سموم عشقها للدم، دمهم فحسب.
لقد تعلمنا منذ الصغر أن الفن رسالة، لقد حملتم بكل شرف طيلة السنوات الأخيرة تلك الرسالة حتى أصابنا الغرور، غرورنا بأنكم فنانون حقيقيون وبجدارة. أنا لا أجرُدكم من وطنيتكم، وليس من حق أحد على الإطلاق أن يُنكر فينا عشق سورية، كما أنني بالمقابل لا أحترم القوائم السوداء ولا الخضراء ولا حتى البيضاء، ولا أشُد على أيدي من نال شرف تصميمها كدروع ثورية، ولكنني أؤمن بدور الفن في إصلاح المجتمع. لقد شقَ علي أن أتحمل صمتكم، شاطرني في رأيي هذا مجموعة كبيرة من زملائي.
 لقد أحببناكم وتمثلنا بكم لقد تعملنا منكم، لم نطالبكم بيوم من الأيام التبرك بأحد، لم تعد تجدي للأسف اليوم الأغاني، لا ولن تقبل الأمهات في سورية الرقص أمام قبور أكبادهن، أعلم جيداً أن لدينا كلمات مؤثرة وأن العلاج بالموسيقى قد حقق نجاحاً منقطع النظير، لكن أحدا ما لا يصدق أن الثكلى تقوى على ترديد أغنية «يا يمة لا تهتمي»، إن الرقص فوق أنهار الدماء في سوريا ما من شأنه إلا إحياء شعائر الجاهلية، كما أن البكاء في دار أوبرا أم الدنيا سيصيبنا بالخذلان، نعلم جيدا أنكم ربما غنيتم بالأمس لأشياء لا تؤمنون بها، لكن هل يعقل أن تبكون هناك، وتصمتون هنا؟
ها هنا نار، هاهنا قلب أمّ يحترق، وعقل أُقصي عن التفكير حيال كل تلك السيناريوهات المضطربة، ما انتظرناه منكم في هذه الأيام الهستيرية ألا تجعلوا نصوصكم أسرى في ممرات ضيقة، ألا تتنكروا لأغنياتكم محاولين إقناعنا أنكم كنتم مضطهدين، فأي رسالة تحملون إذاً؟
إذا كانت أفكاركم ومبادئكم لا تتناسب وأذواق الجمهور، فهو أمر عادي، ولكن اعلموا أن لكم تأثيراً وحتى في هذه اللحظات المتأخرة للغاية قبل حلول جمعة دامية جديدة، لازالت حتى الساعة بدون اسم، ساعدونا في وأدها، خذوا بأيديهم علها تكون صلاة جمعة حقيقية بلا حقد ولا تكفير، فتبارك سورية السماء.
إن خيار الصمت لن نفهمه بعد اليوم إلا أنانية، وهذا يتنافى مع تقديرنا لكم كنجوم سطعت في سماء سورية.. لن نسمح لأحد بالتأكيد أن ينكر أثركم الكبير، ولكن يحق لنا أن نتساءل أين أنتم؟
لقد جعلتم لأنفسكم حارة وأغلقتم الباب وتركتمونا نعيش على أطلال أمجاد صورتموها لنا أنها صنيع الشعب بكل شرائحه، بكل أطيافه، فكيف تريدون أن نفهم اليوم لغة الصمت، وقد التهبت كل الحارات وصارت تقترب من حمى الثأر العشائرية، كيف لنا بعد اليوم أن نميز بين الفانتازيا التاريخية، وبين رواية حكواتي الثورة، كما رواها بالأمس على مرأى ومسمع الملايين غير آبه، إذاً لتعلموا أن صمتكم يعني أن سلسلة النضال الدمشقي الجيودرامي لن تصلح أكثر من حكايات للأجيال القادمة للاستشهاد بمحدودية منطقنا.
لا نريد سوى أن نشعر بكم بيننا، وراءنا، أمامنا سيان، فرصاصة القناصة تعلم جيداً أين الهدف ولم تخطئه يوماً.
لقد ظننا أنكم ستنهون كتابة سيناريو مسلسل اللحمة الوطنية بشكل أبكر، لتخرجوا وتملؤوا فراتنا بالشموع، لتصلوا معنا لراحة نفس شهدائنا، لتجففوا دموع الثكالى، لتقولوا لهم كما قلتم لهم بالأمس: «أمي رضاكي أنا رايح حارب الفرنساوي ويجوز ما أرجع، أمي لا تبكي، أي لا تبكي....»، وبينما أمهاتهم يبكون اليوم، علمنا فيما بعد أنكم تُصورون مشهد عودة ذلك البطل من المعركة مع عشرات البنادق والأسرى الفرنسيين.
لقد بدأنا نشعر وكأننا في عالم منفصل، وأن الفن ليس كما علمتمونا رسالة ومسؤولية، إنما طقوس من الحياة الأفلاطونية.
لقد اخترتم آلهة الصمت لترعى رفضكم وتأييدكم لقد نطقت آلهة الصمت اليوم، فأوصلت لنا اعتذاركم، شكراً فهذا يبدو جيداً أنه «ما ملكت أيمانكم».
تلك الوصايا الدرامية الرائعة لطالما عشقناها، وصليناها حكايات نوم لأولادنا.. لشبابنا.. لبناتنا.. فكنا الجدات في زمن سيادة آلهة الدم وحربهم على سوريا الصامدة، لكن لا رابح اليوم في ساحة صراع الحريات، وحمى الثورة.
صحيح أن التقديس والتلميع، أمر يدعو اليوم إلى توتير الجو العام، ولكن الصمت هو الآخر لم يعد كالسابق مسكن آلام لطالبي كل شيء، لربما كأس من الشاي الأخضر قد يجدي اليوم أكثر من تعويذة آلهة الصمت.
طفل صغير جعلني في حالة من الحيرة عندما قال بالأمس نحن كلنا سوريون، ولن يستطيع أحد أن يزرع فينا بذور الطائفية.
إذاً لن ننكر أبداً دوركم، لكن إلى من قال منكم إننا سبق وقد أظهرنا مواقفنا عندما جسدناها شخوصاً، وأخرجناها من مغلفاتها الكرتونية، وحولناها إلى بيوت متحركة، نقول لكم: نعم، ولكن للأسف لن يكون هذا كافياً بعد اليوم.
لا أريد أن أزاود على وطنية أحد، فوطنيتنا لن تُقاس وفق أهوائنا، تعلمتُ أن وطنية كل إنسان، هي صلاته وعبادته ولقد تعلمنا احترام كل الأديان، وإنه عار أن نضعها في ميزان، لأن غاية الصلاة ستبقى أبداً بسلامها لا بالاعتياد على ممارستها.

هنادي الشوا ـ فرنسا

المصدر: جريدة قاسيون

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...