«طقوس الإشارات والتحولات:»فتنة السينوغرافيا تعادل جمال النص

06-04-2009

«طقوس الإشارات والتحولات:»فتنة السينوغرافيا تعادل جمال النص

لا يشير تأجيل النقاش حول واحد من أعمال سعد الله ونوس إلا إلى رغبة في تأجيل مناكفة واحد من الرموز الثقافية، التي قد يرى البعض حرجاً في مجادلتها، مع أن ذلك الجدل ضروري كي يبقى الرمز على قيد الحياة. كان ذلك من سوء حظ المخرج الفرنسي وسام عربش الذي تصدى أخيراً لتقديم «طقوس الإشارات والتحولات» (الطبعة الأولى 1994 ـ دار الآداب) فوقع المنع والرقابة والحذف في رأسه، فبعد عرض في دمشق، واثنين في مدينة حماه، ضاقت مدينة حلب بالعرض التالي المقرر. فبعد أن شاهد الجمهور عرضاً أول في المدينة الأخيرة، توالت بعض الاحتجاجات تطالب بوقف العرض. ثم أسند المنع الى تصريحات رسمية تقول إنه تم الاكتفاء بعرض المسرحية لمرة واحدة في مدينة حلب، لأنها أساءت إلى آل البيت، من خلال الحديث عن نقيب الأشراف وعلاقته بمومس، وأنه تم وقف عرض ثان لها لأنها لم تلتزم بحذف جمل تسيء لآل البيت وشخصية المفتين. مشهد من المسرحية
ورغم أنه ليس من المؤكد أن كل نقيب للأشراف هو حتماً من آل البيت، فإن الأكيد أن تناول حادثة إلقاء القبض على نقيب ما للأشراف يقصف مع غانية لا يسيء إلى منصب ذلك النقيب ولا إلى ما يمثله، والكلام ينطبق أيضاً على شخصية المفتي (وربما كانت قضية المنع كلها هنا). وسعد الله ونوس لا يفوته خطر مثل هذا التأويل، فيقول في تقديم مسرحيته: «إن أبطال هذا العمل هم ذوات فردية تعصف بها الأهواء والنوازع، وترهقها الخيارات. وسيكون سوء فهم كبير إذا لم تقرأ هذه الشخصيات من خلال تفردها وكثافة عوالمها الداخلية، وليس كرموز تبسيطية لمؤسسات تمثلها. إن أبطال هذه المسرحية ليسوا رموزاً ولا يمثلون مؤسسات وظيفية، بل هم أفراد لهم ذواتهم ومعاناتهم المتفردة والشخصية».
مسرحية سعد الله ونوس تستند إلى حكاية في مذكرات فخري البارودي، تصبح نواة لـ«طقوس الإشارات والتحولات»، التي تروي بدورها حكاية القبض على نقيب الأشراف متلبساً مع خليلة له، تلك التي دبّرها مفتي الديار الشامية بالتواطؤ مع الوالي، وحين يكتشف المفتي أن الحادثة تسيء إلى الجميع، يدبّر مخرجاً يقضي بتبديل الخليلة التي تقبع في السجن بزوجة نقيب الأشراف، ليقال إن الرجل لم يكن إلا مع زوجته. الزوجة بدورها تشترط لقبول الدور الذي يقترحه المفتي أن تحظى بالطلاق منه، الذي لم يكن سوى بداية تحوّلها بملء خيارها إلى عاهرة، تطمح، كما تقول، إلى التحرر من الوصايا، كما تشكل رداً على الازدواجية التي تقع فيها أسرتها كما مجتمعها، هي التي شهدت شهوات الأب والأخ التي حوّلت خادمة البيت إلى عاهرة (صارت اليوم معلمتها في المهنة الجديدة). لم يكن تحوّل الزوجة من مؤمنة إلى ألماسة العاهرة تحوّلاً فريداً في العمل، فكل الشخصيات تتحوّل إلى نقيض تخفيه تحت ثيابها، بدءاً من المفتي العاشق الذي يقع في غرام ألماسة، وليس انتهاء بالزوج، نقيب الأشراف الفاسق الذي يتحوّل إلى التصوّف. وبالتوازي مع هذه الحكاية ستمرّ حكاية أخرى، لا ترتبط جوهرياً بحكاية العمل، هي العلاقة المثلية بين شابين أحدهما شقيق مؤمنة، لكن هذه الحكاية الموازية تتركز على شاب، يبدو معادلاً في النص لشخصية مؤمنة فهو الآخر يريد أن يعلن رغبته على الملأ، الأمر الذي يقوده للانتحار، وفي حالة العرض للخروج من اللعبة.
المخرج الفرنسي حذف كثيراً من نص «طقوس الإشارات»، الذي لو قُدم كاملاً لاحتاج إلى ما لا يقل عن خمس ساعات عرض، وأول ما حذف شخصية الوالي، ما اعتُبر حذفاً للجانب السياسي، الأمر الذي أثار اعتراضاً آخر يتهمه بالتجرؤ على بنية العمل. لكن المخرج يفسر الحذف بأنه دراميّ، فكل الشخصيات تمرّ بتحوّل ما إلا شخصية الوالي.
لكن لعبة العرض هي لعبة الديكور الذي قدم معادلاً فاتناً لنص ونوس، فقد بنيت خشبة دائرية فوق الخشبة، تدور على محور، وتعرض لمستويين أو ثلاثة أحياناً من الغرف والبيوت، تعرض مشهداً هنا ومشهداً هناك، غرفا صغيرة، وسرية أحياناً، بالكاد تميز وراءها الشخصيات. ملونة ومزينة باللوحات كما في الغرف التي تمثل بيتاً للدعارة، أو ملونة بالأبيض والأسود في غرف أخرى لتذكر بلعبة السياسة والسلطة، ومعتمة ورمادية في مكان يمثل السجن. يصعب أن نجد حقاً ديكوراً يمكنه أن يستوعب هذا الكم من المشاهد في النص كما فعل هذا الديكور (سينوغرافيا بيير أندريه فيتز). عدا عن فكرة الدوران التي تخدم الحكاية في تحولاتها وخطوط سيرها. كذلك ساعدت في إيقاع رشيق في الانتقال بين المشاهد، وقد حرص المخرج إلى جانب ذلك على تداخل في تركيب الصور أحياناً، فأنت ترى هنا مشهداً في بيت المفتي، وفي الوقت نفسه ترى تذكيراً بما يجري في السجن، أو في بيت للدعارة، أو ما يجري لنقيب الأشراف الذي مضى إلى التصوّف.
ومن الطبيعي أن يختار المخرج أن يخرج بالحادثة التاريخية من زمانها ومكانها ليضعها في مناخ معاصر، فالشخصيات ارتدت ثياباً من زماننا، حتى تلك التي تحمل مناصب دينية ارتدت بدلات رسمية معاصرة، وكان يكتفي بعمامة مثلاً ليشير إلى وظيفتها.
قدم العرض بالتعاون بين وزارة الثقافة ـ مديرية المسرح والموسيقى، والمركز الثقافي الفرنسي في دمشق، ومسرح لوف آديبا في فرنسا. أما الممثلون فهم: سيف أبو أسعد، تيسير إدريس، كفاح الخوص، جمال المنيّر، أسامة حلال، الفرزدق ديوب، حلا عمران، سعد لوستان وناندا محمد.

راشد عيسى

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...