غسان الرفاعي: هؤلاء المهمّشون..!

19-07-2010

غسان الرفاعي: هؤلاء المهمّشون..!

-1-تلقاهم في الحانات والمقاهي والمطاعم والندوات، تجالسهم، تستمع إليهم فيعتصرك الحزن وتكاد الدموع أن تنفر من عينيك.

إنهم (العرب البيض) نسبة إلى –الروس البيض الذين تركوا روسيا بعد ثورة تشرين الأول- هؤلاء هم الذين صنعوا تاريخنا العربي الحديث –كما يزعمون- الذين تحكموا في الأحداث المصيرية –كما يؤكدون- والذين (نجوا بجلودهم) كما يندبون. إنهم (الأباطرة) السابقون: رؤساء وزارات، أعضاء قيادات، عسكريون بارزون، مسؤولون أمنيون، مديرو قطاع عام. تركوا أوطانهم بعد أن التهمتهم الثورات والثورات المضادة. كانوا أصحاب القرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي وها هم اليوم (أشباه صعاليك) يتسكعون على الأرصفة ويتصيدون الخبر المثير وينمون - يالله كم ينمون! ويتحسرون ويتألمون ويحرقهم الحنين. لقد انطفأت الجذوة التي كانت تتقد في عيونهم ودفن الحماس الذي كان يحركهم كاللوالب والأكر، نخرهم الخمول والاستنقاع بعد أن تعبوا من التنظير وضاعت (القضية) التي كانوا يبتزونها وتبتزهم ولم يعد لهم إلا أمل شحيح في العودة ولو إلى السجن أو المقابر، إنهم عراقيون، مصريون، فلسطينيون، سوريون، مغاربة، جزائريون، من كل الملل والنحل، تجمعهم المصيبة ويوحدهم السأم والخوف والحنين، وليس لهم إلا مطلب واحد: أن ينساهم الجميع وأن يكونوا في منأى عن (التحرش الرسمي). ‏

-2- ‏

تراهم وتصغي إليهم فيتنازعك شعوران متناقضان: الشفقة والتعاطف معاً، هؤلاء الملفوظون من أوطانهم طواعية أو بالإكراه، المهمشون في المجتمعات التي انتقلوا إليها زهداً أو قسراً، ما زالوا يتشبثون بذبالة ورأسمال من تميز اجتماعي غابر ودفقات من الحقد والحسد. لقد فقدوا القدرة على التفاخر بما صنعوه للوطن، ولعلهم أقرب إلى انتقاد سلوكهم والتحسر على الفرص التي أضاعوها ويكاد يتولد عندهم اليقين أنه لم يعد هناك ما يستحق أن يضحي الإنسان في سبيله بأي شيء. ولكنهم متوافرون بغزارة في الأسواق العامة بالرغم من كسادهم وشح الطلب عليهم. ‏

أصناف عديدة من النخب العربية التي تصدرت (الشأن العام) في فترات متعاقبة ثم لفظتها طواحين النزاعات والانقلابات وتركتها في العراء بلا ملابس داخلية. وينتظم هذه النخب التي انتهى بها الأمر إلى (سوق الخردة) وهمان كبيران أفسدا عليها الرؤية الواضحة: الأول الزعم بأن (القدر الوطني) هو الذي اختارها لمهمة وطنية استثنائية كبرى وإن قوى (غير وطنية) هي التي حالت بينها وبين تحقيق هذه المهمة، والثاني أن الشعب بحاجة إلى وصايتها بسبب عدم نضجه واكتمال وعيه وإن رفع هذه الوصاية هو الذي أوصل الأمور إلى ما هي عليه اليوم. ‏

-3- ‏

وتختزل الخصال الأساسية (للعربي الأبيض) في المنفى لأوروبي بثلاث خصال: أولهما الشرنقة إذ يبني لنفسه وفي معظم الأحيان لعائلته بيتاً إسمنتياً يقيه الأنواء والعواصف وهو أقرب ما يكون إلى الشرنقة، وثانيها الانشطار إذ يسلك سلوكين متناقضين أحدهما للاستهلاك الخارجي ويتصف بالكياسة واللزوجة والانصياع وثانيهما للاستهلاك الداخلي ويتصف بالشراسة والعدوانية والفظاظة، وثالثها الشعور بالدونية إذ يقلص من إمكانياته وكأنه يعاقب نفسه على إثم لم يقترفه ولكنه يورم هذه الإمكانيات في ظروف أخرى وكأنه يعاقب الآخرين على مواقف لم يتخذوها، حتماً حينما ينتقل العربي الأبيض من صف الجماهير إلى صف النخبة ويخترق المحرمات المتكدسة أمامه وخلفه فإنه يحمل معه هذه الخصال الثلاث كالوشم على الجسم. ‏

حينما عاد الكاتب الروسي (سولجستين) إلى بلاده أوقفته امرأة روسية وقالت له: (أيهما أفضل الكولاك أم الفيلا الأميركية التي كنت تعيش بها..!) وصمت سولجستين وقال: (لا أدري)! ‏

ونظرت إليه المرأة الروسية وقالت: ‏

(إنك تعرف ولكنك تخجل من الاعتراف. الكولاك هو روسي أو وطني في حين أن الفيلا أميركية ومتسخة وغير وطنية، صدقني لا يكون المنفي خارج بلاده حراً إلا إذا كان في تربته وبين شعبه..!). ‏

-4- ‏

يشكو المثقف الأبيض العربي مهما كانت انتماءاته من (داء الحاضر) تماماً كما كانت الشبيبة الرومانسية الأوروبية تشكو من (داء العصر) وفي حين يعيش المثقف العربي الأبيض داءه كغياب حضاري ورغبة مأساوية في الهرب باتجاه الماضي كانت الشبيبة تعيش داءها كرغبة في استشراف المستقبل. إننا نتجه إلى الماضي تفتيشاً عن العقلانية والتقدم والهوية وبهدف التأقلم مع العصر. وإلا ما تفسير هذا الجنون المذهبي الطائفي الذي يمزقنا شر تمزيق ويكاد يهددنا بحروب أهلية دامية على امتداد الوطن العربي. ألم يكن شاعرنا الكبير نزار قباني على صواب حينما شبه هذا الجنون بالصداع والزكام والجذام والجرب! ‏

قالت لي فاطمة المرنيسي الكاتبة المغربية الاستثنائية في فكرها وسلوكها بكل المقاييس، حينما التقيتها في ندوة عن الحداثة والفكر العربي في باريس: ماذا يدور في خلد العربي حينما يبدأ حديثه بـ (نحن العرب المسلمين!) إنه لا يشير إلى اختيار شخصي ولا إلى تضامن اجتماعي، إنه اعتراف بانتماء قسري تعسفي، إنه بطاقة هوية - جواز سفر ممهور بخاتم رسمي، براءة ذمة من السلطان. ولكي ينجو المواطن العربي من هذه (النحن) الرسمية المبتورة يهرب إلى الماضي إلى (نحن) أخرى سردابية ظلامية لا علاقة لها بالعصر وإشكالاته، إلى (نحن) مرممة تعلو فوق ضغوط الحياة اليومية وتحدياتها. ‏

-5- ‏

ساحاتنا الثقافية في الداخل والخارج مغزوة غزواً منظماً من قبل ثلاثة نماذج من الكتاب: كتاب المرآة، وكتاب الدرج، وكتاب الضفادع. وهذه النماذج على الرغم من كل ما جرى ويجري في الساحة العربية، تتكاثر من دون زرع أو تلقيح وتحتشد في الساحات العامة من دون دعوة رسمية. إنها تحمل بضاعتها على ظهرها كتجار (الملبوسات المستعملة) تعرضها على الأرصفة وتنادي عليها بأصوات مبحوحة. ‏

الكاتب- المرآة: يتبرج ويتغندر لفظياً وأيديولوجياً، يتمايس في المحافل أو المجالس، يخشى أن تنزلق عليه ذرة من غبار رأسماله حفنة من الألفاظ المموسقة ودزينة من علامات الاستفهام والتعجب يرشقها كيفما اتفق على الورق لتكون همزات وصل بين الكلمات والتعابير مثله كمثل (خياط النسوان) الذي يملا فمه بالدبابيس يقطب بها الكم إذا زحل والخصر إذا انشمر والتكسيرة إذا انفلشت. إنه ينوس بين اللفظية المترهلة والتفاكر اللقيط فلا هو قادر على ضب ترهله ولا هو راغب في إضفاء الشرعية على تفاكره، أحسن إنقاذ له أن يمعن في عشقه لوسامته كما فعل نرجس فقد يسقط في الساقية التي تزوده بكل بضاعته الثقافية. ‏

الكاتب- الدرج: يقتات من سطور الكتب أو جزازات الصحف أو هوامش الملفات كما يقتات الأرنب من قضبان الجزء فلا هو يبقى على هزاله ولا هو يسمن. عباءته الثقافية مكتظة بالرقع والشقف المتداخلة والتي لا تجلب له الدفء ولا تؤمن له تهوية منعشة، إنه غضاريف هشة دون هيكل عظمي صلب، معاطف وأردية متناثرة تفتش عن مشجب تعلق عليه، ذهنه محشو بالأسماء والاستشهادات من دون ترتيب ولا ذوق، كغرفة طالب فوضوي تجد فيها فرشاة الأسنان داخل حذائه وصحن الطعام فوق الفراش يرتعد من المجاهرة برأي إذا لم ينسبه إلى مصدره ومن الأفضل أن يكون أجنبياً براقاً رصيده الثقافي مخزون في دروجه مفهرساً كيفما اتفق يستنجد به في المناسبات الباذخة والغثة على حد سواء يسلك سلوك المترفعين لا بما كونه من مواقف وآراء وإنما بما جمعه من جزازات وهوامش، لا يطمح بأن يكون أكثر من أرشيف رث تتكدس فيه المعلومات والمعارف كيفما اتفق وليس من المستبعد أن تنسج العناكب حوله وحول ثقافته خيوطها فيستيقظ ذات يوم فإذا به قد أصبح قوتاً لها. ‏ الكاتب – الضفدع: مجدف مجاني لا يملك الأنقه المتواصل أو القدرة على توظيف هذا النص توظيفاً مجزياً. أنه رافض لكل شيء في تصاعد هندسي إلى أن يصل إلى رفض نفسه وقابل لكل شيء في تنازل حسابي إلى أن يصل إلى قبول عبوديته, يخيل إليه أنه في الذرى الشامخة كابولون ولكنه ليس أكثر من قن يترنح على بلاط سجنه, تغلب عليه الرعونة والجلافة حتى إذا ما قشر عنه جلده بدا هلامياً لزجاً كسلطة الفواكه, له ولع في الشكوى الفظة يستخدمها لحماية لزوجته أولاً والتسلق الخفي المستتر ثانياً وكما تعود أن يأكل من موائد الآخرين دون أن يدفع ثمن طعامه فكذلك يتثقف دون أن يدفع ثمن ثقافته, يلصق على وجهه شعاراً, يختبئ داخله كالقنفذ وفي ذهنه أن الشعار يلخص له الأغذية الحضارية كلها في قرص سحري يلتهمه على عجل ليرتاح وقد يريح...! ‏

-6- ‏

النموذج الذي نفتقد إليه هو الكاتب الأرض, الكاتب الإنسان, إنه السنديانة التي تمد جذورها في باطن الأرض – أرضنا, القيثارة التي تغني همومنا وأفراحنا, الصدر الذي نبكي عليه و تغرز أظفارنا فيه, الطلقة التي تصوب إلى تفاهاتنا وتقاعسنا وصمتنا وعبوديتنا, الحب العميق الذي يورق أغصاننا, ويفجر طاقاتنا. إنه حريتنا وعذاباتنا وهواجسنا ومطامحنا. ‏

هذا الكاتب سأركع أمامه وسأقبل يديه وقدميه. ‏

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...