هناك من يقطع لنا تذاكر إلى جهنم.. ألا يحقّ لنا أن ننام في الديموقراطية؟

02-05-2013

هناك من يقطع لنا تذاكر إلى جهنم.. ألا يحقّ لنا أن ننام في الديموقراطية؟

لو كانت الخراف تصلّي، هل كان ذلك ليشكّل سبباً مقنعاً للبشر للامتناع عن ذبحها؟ سيقال إن افتراضاً من هذا النوع سيؤدي بنا الى ارتياد فضاء مثالي، الشعر مادته. غير أن الفكر الديني لا ينفي كون الكائنات كلها بما فيها الجماد إنما تسبّح بإسم الله. هناك إذاً دائماً مجموعة من الحيوات المجاورة للحياة التي نعيشها ونعتبرها أساس التشريع وقاعدة البناء الحضاري ومقياس التطور.

تلك الحيوات مثل حياتنا تماماً، لها قواعدها التي تحافظ من خلالها على بقاء النوع وتيسّر له سبل تفادي أسباب الانقراض في مواجهة "الحق" البشري في الابادة. وهو حق لا يستثني أحداً أو شيئاً من شروره، في ظل مكر وخبث استثنائيين تفتقر إليهما الكائنات الأخرى في تبرير وحشيتها. الإنسان هو الكائن الوحيد الذي لا يستند إلى قوانين الطبيعة المثالية في تفسير ما يفعل. كل الأديان حرصت على أن تضع القتل في قائمة المحرمات. "لا تقتل"، جملة كانت دائماً مطلقة. مثلها مثل "لا تسرق" أو "لا تزن". قتل الإنسان لأخيه الإنسان محظور بشكل مطلق بغض النظر عن الأسباب. غير أن الحكاية الدينية كانت قد بدأت بذلك القتل. لقد قتل قابيل أخاه هابيل، لأسباب اختلفت الروايات في شأنها، غير أنها في مجملها تفيد بما يشير إلى شعور الإنسان العبثي بضيق المكان المتخيل: إما أنت وإما أنا. تستعرض الأسطورة الغباء والطيش والحماقة وفقر الخيال البشري بطريقة تفخيمية. فدم الحيوان سبق دم الإنسان. البشرية هنا انحدرت من قاتلٍ قتل من جهته قاتلاً سبقه إلى القتل. فالحكاية تتعلق بشاة (افتراض شخصي) ذبحها هابيل قرباناً تقبله الله، أما قابيل وهو مزارع، فقد قدّم قرباناً نباتياً لم يتقبله منه الله.

لماذا فضّل الله الذبيحة على قبضة قمح؟ ذلك من أسرار الغيب. ما يهمّ هنا أن تلك الواقعة الأسطورية إنما تؤكد أن ظهور الإنسان بدأ بحفلة قتل. سيكون اتباع الاديان (السماوية) وحدهم معنيين بتلك الحفلة. أخبار الإبادة التي مارسها الإنسان في حق الإنسان لم تنقطع في التاريخ (تاريخ المنطقة العربية هي موقع تلك الأديان). لم تكن الحضارة (حضارتنا) إلا زقاقاً مضيئاً في مدينة، كلّ أزقتها معتمة. مع الأديان السماوية حدث تحوّل خطير أعاد مفهوم القربان إلى عصور الفراعنة. لم ينحصر الذبح بالأبقار والجمال والخراف كونها مواد جاهزة للقرابين، بل انضمّ الإنسان إليها، باعتباره المنجز الفخري الذي صار المتدينون يتبارون في قطفه تقرّباً من الله. صارت العدالة تعبّر عن نفسها من طريق القتل. لذلك نرى أن الدول الإسلامية مثلاً هي الأكثر تردداً، بل وامتناعاً من بين دول العالم حين يتعلق الأمر بإلغاء عقوبة الإعدام في عالمنا المعاصر. ألا يشكّل الذبح الاسلامي (الحلال) وقد انتقل من الحيوان إلى الإنسان تعبيراً يومياً معاصراً عن هذا المنهج؟ في سنتي الحرب الأهلية في العراق (2006 ــ 2007) ظهرت وظيفة "الذباح" وهو الشخص المتخصص بذبح الرهائن والمخطوفين من الطرف الطائفي الآخر. كان الرئيس الاميركي جورج بوش الابن قد تحدث أثناء ترويجه لغزو العراق (2003) عن عزمه الذهاب إلى قتال يأجوج ومأجوج (يقصد بابل) وهو في ذلك إنما يستند إلى تفسير ديني لجريمته التي اتضح أنها لا تستند إلاّ إلى مجموعة متداعية من الأكاذيب. هل كان بوش وهو يكذب، متديناً؟ لقد أحلّ الرجل القتل والكذب معا لأسباب دينية، في لحظة وفاء تاريخية لمصالح الشركات التي كانت تدعم حرب الإبادة تلك. لم كن تلك التقنية بعيدة عن لغة القرابين القديمة. كان هناك من زعماء منطقتنا مَن تحدث عن استعداده لتقديم ربع شعبه أو أكثر من الربع قرباناً من أجل أن تظل المبادئ التي يرفعها ذلك الزعيم مصونة.

كنا خرافاً، صار ذبحنا حلالاً، تمارسه جهات عديدة باسم الدين. هل كان الدين بريئاً فعلاً؟ أشكّ في ذلك.

لو عدنا إلى أصول العقائد المرتبطة بالأديان السماوية الثلاثة، لوجدنا أن كل دين لاحق كان يعبّر دائماً عن امتنانه للدين الذي سبقه. تعترف المسيحية باليهودية، والإسلام يعترف بالديانتين اللتين سبقتاه، ويشيد بصلاح أتباعهما. غير أن ذلك الاعتراف بقي في إطار حدوده النظرية قياساً لما شهده الواقع من تضليل وتجهيل وتعصب. بل وحتى على مستوى الدين الواحد، فقد ظهر الإنسان في أسوأ صوره وهو يدافع عن واحدة من أكثر حقوقه نبلاً: الحق في الاختلاف. كانت نزعة الاختلاف مدعاة للتمترس وراء جحيم الطوائف، فكان أن استلهمت كل طائفة حقها في إبادة الطوائف الأخرى من ذلك الحق القديم في تقديم القرابين. لم يعد مفهوم الفرقة الناجية حكراً على الآخرة، بل شمل الدنيا بفقر خياله وتوحشه وسوادوية نظرة الإنسان إلى الآخرين.

كانت محاكم التفتيش في أوروبا الجنوبية قد نشرت الذعر بين صفوف الفقراء الذين أخذتهم الحملات الصليبية إلى بلاد كانت هي الأخرى مأخوذة بذعر حروب طائفية، فقهاؤها يغلّبون إبادة القريب على مقاتلة الغريب. حين حاصر المغول بغداد، كانت حاضرة العباسيين غارقة في وحل حرب طائفية، شبيهة بتلك الحرب التي كان اللبنانيون يخترعون صورها حين اجتاحت اسرائيل بلادهم وحاصرت عاصمتها.

انسحب الاسرائيليون من بيروت مثلما رحل المغول من بغداد، فهل اندسّ شيء من الدرس التاريخي المرير بين ثنيات خبرة حرّاس الطوائف؟

بعد المغول عاد العراقيون إلى سابق عهدهم، وهذا ما فعله اللبنانيون بعد رحيل الإسرائيليين. صورة الكبش الإلهي ظلّت وحدها شاخصة. أحبابنا يا عيني هم أعداؤنا المثاليون. لا يزال إبن تيمية يحصي حبّات مسبحته الناقصة. كان على حق دائماً. هكذا يظن. أتباعه يظنّون ذلك أيضاً. بندوله لا يخطئ. اليوم، إذ يحاصرنا أحفاده من كل الجهات، هم أيضاً على حق، بالرغم من أنهم كانوا ولا يزالون جاهزين لكي يقتل بعضهم البعض الآخر. لن يقول أحدهم للآخر: لن أمدّ إليك يداً، أو هاك خدي الآخر. الحق الإلهي لا يقبل التجزئة. في الطريق التي نمرّ بها اليوم، هناك من يقطع لنا تذاكر إلى جهنم. لقد أعادتنا الديموقراطية إلى عصور الغزوات والغنائم. صارت مصر غنيمة. هناك من يبحث عن الدروب التي تقود ثانيةً إلى الفسطاط. مسيحيو العراق وسوريا هم اليوم منفيّو الأرض المقدسة. "حزب الله" يدرك أن الله وحيد وما من ناصر له في الأرض إلا فقراء، صارت ثقافة الحسينيات بالنسبة إليهم سلالم إلى إسراء ومعراج منتظرين. عدنا إلى زمن الفرقة الناجية. هل كنا قد غادرنا ذلك الزمن أصلاً؟ صارت الفوضى الدينية تنتج حكّاماً، هم في حقيقتهم زبائن مناقصات وروّاد مزادات. "أهبك صوتي لتكون قاتلي".

نقود الديموقراطية إلى المعبد لتصلّي قبل أن نذبحها. يقول المسلم في لحظة تسامح حضارية: يا أخي المسيحي. فيجيبه المسيحي: يا أخي المسلم. يبكي الحضور وهم لا يدركون أن دموعهم إنما تذهب مباشرةً إلى نهر اللغة الطائفية. فلو كان الممثلان أخوين حقاً، لما احتاجا إلى أن يعرّف أحدهما الآخر بالمسيحي أو المسلم. الأشقاء يعرف بعضهم البعض الآخر باسمه لا بدينه ولا بطائفته. أما وقد صرنا نقيم خلف سواتر العمى الطائفي، فلم يبق لنا سوى أن نستجير بحرفة الأهل. وهي حرفة تكذب الحواس المباشرة، تسخر من التاريخ، تقشر البصلة كما لو أنها برتقالة. سنعود بعدها إلى الأرض الضيقة. إما أنت وإما أنا. قابيل وهابيل ثانية. لن نتعلم من الغراب شيئاً. سيكون الغراب ديموقراطيا أكثر منا. لقد كاد ابرهيم أن يذبح ابنه لولا ظهور جبرائيل المفاجئ الذي وهبه الشاة بديلاً. ألم ير ابرهيم دموع الشاة؟

نحن نبكي مثل تلك الشاة. نبكي مثل الديموقراطية. نبكي مثل الخوارج. يكذب الجميع، حين يقتل بعضهم البعض الآخر وهم يصرخون أن الله واحد. فإذا كان بعضنا يقتل البعض الآخر، ليؤكد إخلاصه إلى الله الخاص به، فلماذا نصرّ على التشبث بفكرة التوحيد؟ اليوم وحدهم الموحّدون يمارسون القتل في حق الموحّدين من أمثالهم. ألا يحق لنا أن ننام في الديموقراطية ولو للحظة، لنتخيّل شكل الله الواحد؟

فاروق يوسف

المصدر: ملحق النهار الثقافي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...