كيف يفكّر جمهور "حزب الله"؟ وما هو سر حسن نصرالله (2-3)

30-08-2006

كيف يفكّر جمهور "حزب الله"؟ وما هو سر حسن نصرالله (2-3)

حفل تاريخ الجنوبيين في لبنان بالمعاناة: هجّروا مرارا، ضربتهم إسرائيل وهمّشوا سياسيا واجتماعيا لفترة طويلة. لذا يشعر هؤلاء بأن الدمار المادي لا يساوي شيئا، لأن الأخطر في نظرهم يكمن في هدم كيانهم وواقعهم السياسي، والإجتماعي ومن هنا ولاؤهم لـ"حزب الله".
تتحدّر الدكتورة أنيسة الأمين، المتخصصة في علم النفس الاجتماعي والعيادي والأستاذة في الجامعة اللبنانية منذ 25 عاما، من بلدة شقرا في قضاء بنت جبيل. عام 1982 أنجزت الأمين أطروحة دكتوراه بعنوان "المرأة الشيعية الجنوبية: صعوبات مرجعية ومأزق وجودي". في ذلك العام تطرّقت الأمين إلى الأزمة المرجعية في حداثة المرأة الشيعية، ومن يومها تعرّفت الى التاريخ الشيعي الجنوبي. ولمّا كان العمل البحثي لم يشف غليلها في هذا الموضوع توجّهت منذ 5 أعوام إلى التحليل النفسي "حيث معاشرة اللاوعي" على حدّ قولها. موضحة أن "المعرفة المتأتية من اللاوعي هي الأهم إذ تذهب إلى عمق التاريخ".
هكذا توغّلت الأمين إذن في اللاوعي الشيعي لجمهور "حزب الله"، وقد لاحظت هذه السيدة اليسارية الهوى أن "المرأة الشيعية في الثمانينات حملت تطلعات تشبه المرأة الغربية ولم تكن تتمسك بالحجاب، وجمهور "حزب الله" الحالي كان في السبعينات والثمانينات جمهور اليسار"، أما السبب في تحوّله الى "حزب الله" فكان "نتيجة بحثه عن مرجعية وعن هوية".
في السبعينات شكّل المدّ البعثي اليساري هذه المرجعية، وفي الثمانينات والتسعينات صار "حزب الله" هو المرجع والفارق شاسع بين الإثنين رغم ضيق الفترة الزمنية الفاصلة.
في لحظة من الزّمن تتحدث الأمين المثقفة التي شاركت في تحضير أول ملحق ثقافي في "النهار" عام 1964 على غرار جمهور "حزب الله". تسرد ما خسرته عائلة الأمين من منازل في تاريخها في الجنوب: "دمّر منزل اهلي مرارا وتشتتت عائلتي بسبب ذلك فهجرت لبنان الى اصقاع الأرض. أنا أدرك ماذا تعني إسرائيل إنها مرادف للإستباحة الكاملة: إستباحت عائلتي وأهلي وعمري وعمر زوجي وعمر إبني، نحن بسببها مشتتون في أصقاع الدنيا".
نستخلص من ذلك أن ثمة مكوّنات أساسية ومشتركة في الجمهور الشيعي ومنه جمهور "حزب الله"، وخصوصا الجنوبي منه، الذي عانى سياسة الأرض المحروقة التي عاقبتهم بها إسرائيل مرارا وتكرارا، من هنا يكتسب شعور الكرامة والصمود بعده السياسي.

تتوقف الأمين مطولا عند منعطفين يستند إليهما هذا الشعور الذي زرعه الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله في نفوس الجنوبيين. يتمثل المنعطف الأول في تاريخ الإقصاء الطويل عند الشيعة، "فهم تعرضوا للاقصاء من الخلافة الإسلامية من مواقع السلطة والقرار في الدولة اللبنانية المعاصرة، خصوصا بعد الحرب العالمية الثانية ونكبة فلسطين حيث تركوا في الجنوب فريسة سهلة للذئب الإسرائيلي، فيما اهتمت الطوائف الأخرى بوجودها متناسية ومهمّشة هؤلاء الناس الذين بقوا مرميين في أحضان الذل ومكشوفين على الإستباحة والإغتصاب لحيّزهم الحياتي".
وتستطرد الأمين:"للمرّة الأولى في تاريخهم يأتي رجل منهم، يشبههم ببساطته وبنيته وسلوكه ويدعم ثباتهم في الأرض وحقهم فيها وحقهم في الوقت عينه بأن يكونوا على قدم المساواة مع أي إنسان لبناني آخر. من هنا ندرك بأن الكرامة الإنسانية هي مطلب أيّ كائن قبل أيّ ملك مادي".
المنعطف الثاني بحسب الأمين يوغل أكثر في العمق النفسي لدى الشيعة،" هؤلاء في التاريخ هم "التوّابون"، أي الذين يريدون تعويض تركهم الحسين بعد موقعة كربلاء عندما امتنعوا عن الذهاب الى نجدته فأصابهم ذلك بإثم عظيم حملوه معهم، وبالتالي لن يترك الشيعة اليوم سيّدهم أو "حسينهم" الجديد الذي يرون شبيها له بالسيد نصر الله"، وتستدرك الأمين: "تقع هذه النقطة في مستوى أعمق من الظاهر، إنها المحرّك الفعلي لمقاومة الشيعي المدنية والثقافية والعسكرية، لذا انشغل مثقفو الشيعة دائما في البحث عن المعنى والكينونة والوجود".

تغيّر جمهور "حزب الله" بين مرحلة وأخرى. بدأت المرحلة الأولى مع انطلاقة الحزب كحركة مقاومة ضدّ الإحتلال عام 1982. في تلك المرحلة كان جمهوره محصورا ويتشكل من قيادات ومجموعات من حركة "أمل" الى مجموعات أخرى من "حزب الدعوة الإسلامي" ومجموعات إسلامية مختلفة. كان الجمهور العام في هذه المرحلة من المنتسبين الى الحزب الذي لم يكن تحوّل بعد ظاهرة جماهيرية. هذه المرحلة امتدّت بين عامي 1982 و1986، وفيها مارس "حزب الله" العمل السري وكانت حركة "أمل" أقوى وأوسع انتشارا على المستوى الشعبي.
شكّل عام 1986 بداية تحرير القسم الأول من الجنوب، وأصبحت المقاومة هي الطرف الوحيد المقاوم للإحتلال وبدأ نجم "حزب الله" يسطع. بدأ يصبح الوحيد الذي يقاتل إسرائيل ويحقّق انتصارات. وبدأ يبرز كقوّة متميزة في مواجهة الإحتلال وتصوير العمليات وإثبات البطولات في شكل حقيقي وبدأت رحلة الصعود. في هذه الفترة ترافق الصعود العسكري والنوعي مع عمل إجتماعي في مختلف المناطق الشيعية من البقاع الى الجنوب: أسس المستشفيات، المؤسسات التعليمية والمؤسسات الإجتماعية، قدّم الخدمات الزراعية وأنشأ مؤسسات لأهالي الشهداء والجرحى. "خلق "حزب الله" نوعا من مؤسسات احتضان للشيعة في الوقت الذي كانوا يعيشون فيه تهميشا من جانب الدولة، فيما كانت مناطقهم تعيش حالة من انعدام الإنماء.
كان لهذا العامل دوره في الشعور بالإنتماء الى هذا الحزب الذي يقدّم الخدمات من دون مقابل"، يقول الدكتور طلال العتريسي أستاذ في علم الإجتماع في الجامعة اللبنانية منذ عام 1980 وله مؤلفات في القضايا السياسية الى مجموعة مقالات عن "حزب الله" وكتب عدة منها: "إيران الجمهورية الصعبة" وصاحب كتاب "الإصلاح في الشرق الأوسط"، ويضيف:" إن انتصار الثورة في إيران وصعود نجم الشيعة وفكر الإمام الخميني إنعكسا على الشيعة اللبنانيين على مستوى الحيوية العقائدية والسياسية أيضا، وكان "حزب الله" هو نتيجة هذه الحيوية".
شعر الشيعة في لبنان عموما بأنّهم في وضع جديد يحتوي عناصر قوّة لم تكن موجودة في السابق، وربما لم يسبق لها مثيل إلا في حركة الإمام موسى الصدر في سبعينات القرن الماضي.
في موازاة الخدمات الإجتماعية عمل "حزب الله" على الجانب العقائدي فنظّم أنشطة واسعة من دورات تثقيف ومعاهد إعداد في مناطق الثقل الشيعي في بعلبك والضاحية الجنوبية والجنوب بهدف البناء العقائدي، الثقافي الإيماني للشباب المؤيدين وللمنتمين الى صفوفه. لكنّ شعورا عميقا بالتهميش والعزل ظل يراود هذا الجمهور.
"عند حصول أي إعتداء إسرائيلي يعود الشيعة بالذاكرة الى كلّ الإعتداءات السابقة والتي كانوا فيها من دون حماية منذ العام 1948 مرورا باجتياحات 1978 و 1982 و1993 و1996 ، وحتى في العام 1969 أيام وجود المقاومة الفلسطينية في الجنوب. يشعر الشيعة عند اي اعتداء بأن ثمة مشروعا جديا للقضاء عليهم، وخصوصا أن الواقع السياسي الداخلي والخارجي كان يوحي ذلك" يقول الدكتور العتريسي.
تعرّض الشيعة في لبنان للتهجير مرارا، هجّرهم المماليك من كسروان وجبيل بسبب الإضطهاد الديني، كذلك نزحوا الى البقاع والى الجنوب، وفي الحرب الأهلية التي اندلعت عام 1975 نزحوا من المناطق الشرقية الى الضاحية الجنوبية من النبعة وتل الزعتر والدكوانة.

نقطة أخرى في تاريخ الشيعة اللبنانيين يلتقي فيها عالم الإجتماع الدكتور العتريسي بالمحللة النفسانية الدكتورة الأمين، والإثنان جنوبيان: "في بداية الحرب الأهلية كان تاريخ الشيعة محط استضعاف وتهميش، وكانوا في أسفل السلّم الإجتماعي، هذا الوضع تغير تدريجا مع الإمام موسى الصدر وصولا الى ما يعتبره الشيعة أفضل وأقوى على المستويات كلها. في الحرب الأخيرة ساد شعور بوجود مشروع لضرب هذا الوضع الشيعي وإعادته الى مرحلة التهميش والإستضعاف ". يقول الدكتور العتريسي موضحا تعلّق الجمهور الشيعي الأكبر بالحزب بأمينه العام خصوصا:" ولهذا السبب ساد شعور عام عند معظم الشيعة بأنّ "حزب الله" وقائده تحديدا هو الذي حمى الشيعة ومنع تنفيذ هذا المشروع وهذا يفسّر لماذا يشعر الشيعة بأن كل هذا التدمير لا يساوي شيئا في مقابل ولائهم للسيد نصر الله، لأن ما هو أخطر من التدمير بنظرهم هو تدمير كل واقعهم السياسي والإجتماعي. والخطورة في هذا الأمر أن حرب إسرائيل إستهدفت في شكل اساسي البنية التحتية في لبنان. وهذا اختبار جديد لـ"حزب الله" يجب أن ينجح فيه.

كان للسيّد حسن نصر الله وشخصيته وخطابه وسلوكه الدور الأكبر في تبديد الشعور بالإضطهاد والخوف من التهميش مجددا لدى هذا الجمهور، والأمين العام الحالي يدرك هذه المعاناة الجماهيرية التاريخية والواقع السوسيولوجي والنفسي والسياسي لطائفته، من هنا قدرته على مسّ قلوبهم وإقناع عقولهم.
"خاطب السيد حسن نصر الله في كلمة له أثناء الحرب الأخيرة المجاهدين بقوله: أقبّل أقدامكم، وبهذا اعاد السيد نصر الله للمقاومين إنسانيتهم وكينونتهم وحقّهم في هذا الوطن. هذه نقطة ينبغي التوقف عندها مطوّلا ليس، لتكريس الذهاب الى الطوائف والمذاهب إنما لنعرف أن لكل إنسان كرامته كما في بقية دول العالم" تقول الدكتورة الأمين التي تركّز على شخصية السيّد فتصفه كالآتي:" السيد نصر الله هو شخصية معاصرة بمعنى استعمالها المنطق والعقل والجدل، وهو شخصيّة دينية بمعنى الإيمان الصادق الذي هو سلوك أخلاقي قبل ايّ شيء: الصدق والوفاء والتواضع والصبر والهدوء. هذا الإيمان وذلك العلم جرى توظيفهما في عقيدة قائمة على مجابهة عدّو له تاريخ طويل في الاعتداءات. السيد رجل لا يشبه الطراز التقليدي للرجال: فهو ليس ضخما بل يحمل وجه طفل وتعابير إنسانية بسيطة، إنه يشبه أي واحد منّا. كما أن السيد ردّ للكلمة قيمتها بحيث صارت اللغة تعني مفرداتها". التوقف أمام خطاب السيد الذي وعد فيه بإعادة إعمار ما تهدم جزء اساسي من تركيبة الحزب "إنها سابقة في تاريخ الحروب و التهجير. يدفعنا هذا الأمر الى طرح اسئلة منها: كيف يذهب الحزب الى إعادة البناء وكأن الدولة غير موجودة؟ هنا ندخل فعليا الى صميم مشكلتنا كلبنانيين، كمثقفة وكمحللة أرى أننا يجب التفكير بهدوء في كيفية الإلتقاء على مفهوم المواطنية".

الإبتعاد من الفساد والسرية التامة والإنضباط ميزات رئيسية تضاف الى شخصية السيد نصر الله وتشكل تفسيرا لتعلّق جمهور كبير بـ"حزب الله" .
"قدّم الحزب نموذجا حقيقيا في حماية الناس في مواجهة الإحتلال وقدّم تضحيات جلّى من دون مكاسب لعناصره لا ماديا ولا سياسيا أو وظيفيا"، يقول الدّكتور العتريسي.
سلوك شباب "حزب الله" المنضبط شكل سببا آخر للثقة بالحزب "لم تنقل شكاوى في حق هؤلاء من قبيل التعرض بالأذى لأحد من السكان في مناطق الجنوب كلها".
وتبقى للسرية التي أحاط بها الحزب هوية هؤلاء وسلوكهم هالتها "لا يعرف أحد بانتماء هؤلاء الشباب الى المقاومة، حتى عائلاتهم تكتشف انتظامهم في صفوفها بعد استشهادهم. يخبر الشاب أهله أنه سيغيب مع رفاق له ليومين في رحلة كشفية ويذهب للقيام بعملية أو للتدرب".
هذه السمة عامة منذ تأسيس "حزب الله" وهي بحسب الدكتور العتريسي "تعلّم التضحية من دون التحدث عنها، تلقّن السيطرة على الغرور وهذا خلق نوعا من الخيال الأسطوري حول هؤلاء المقاومين ترافق مع نقل العمليات عبر تلفزيون "المنار" مما خلق جوا عاما من الإعجاب والتماهي مع هذا الحزب وبطولاته أبعد من دائرة المنتمين".

لا يمكن تجاهل روح الإنفتاح التي نفحها السيد حسن نصر الله في الحزب عبر تشجيعه الطاقات الكامنة بين عناصره "إنه يؤمن بأن لكل شخص قدرة ينبغي الإفادة منها، يبذل بلا تردد من أجل تطوير طاقات الكوادر، يشجع على مواكبة التكنولوجيا الحديثة ويقيم علاقات أخوية مع الجميع" تقول المهندسة ريما فخري، إبنة الزرارية (قضاء صيدا) وهي المرأة الوحيدة في المجلس الأعلى لـ"حزب الله". ريما شارفت الأربعين عاما أمضت نصفها في "حزب الله" وتعتبر من مؤسسيه.
عام 2004 قرر الأمين العام للحزب تعيينها في هذا المنصب، "منذ تأسيس الحزب والمرأة موجودة وفاعلة في كوادره سواء في السياسة أو الإعمار أو التعليم والأعمال الإجتماعية، واليوم تتعاون الأخوات المهندسات مع المهندسين لإعادة الإعمار".
تنقّلت "الحاجّة ريما" –كما يناديها الرفاق_ في مراكز قيادية عدة منها "التعبئة التربوية"، "المركز الإستشاري للبحوث والتوثيق" وترأست الهيئات النسائية للحزب في بيروت الى مناصب أخرى.
" كنت على تماس مع سماحته في هذه المناصب، وكانت تجربتي مراقبة وإمكاناتي مرصودة، لذا جاء تعييني منذ عامين".
ريما، خريجة الجامعة الأميركية في بيروت، قسم الهندسة الزراعية
متزوجة رجل اعمال "غير منتم لحزب الله" وام لاربعة اولاد، تعمل في المكتب السياسي، اعلى هيئات الحزب، الى جانب 17 رجلا وتسهم في تحديد السياسة العامة لهذا الحزب ذي الامتداد الشعبي الكبير.
تذهب الدكتورة أنيسة الأمين بعيدا في تحليل الثورة التي ارساها السيد نصر الله وحثّه على محاربة العدّو الإسرائيلي تقول: "منذ نكبة فلسطين والهزائم المتتالية نشأت مشكلة في ذكورة الرجال في عالمنا العربي، من هنا يمكننا أن نفهم هذا الاستنفار الهائل فيه لمسألة المقاومة التي أعادت الإعتبار للرجولة الموجودة لدى المحارب والمناضل" وتتساءل الأمين: من قال أن الرجال لا يفتشون عن شخص يتماهون به ويحميهم؟ السيد نصر الله يتميز بصدقه، وكما يقال "الرجل عند كلمته" وهو كذلك، وهذه أقصى معاني الرجولة. السيد يعني ما يقول ومن هنا "خربط رؤوس العالم".
فمن هو هذا السيد الذي أضرم في النفوس شعلة النضال في سبيل قضيّة منذ آخر الحروب العربية ضدّ إسرائيل عام 1973؟

مارلين خليفة

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...