كاسترو يتنحى ولا يركع

20-02-2008

كاسترو يتنحى ولا يركع

يبدو أنّ الزمن هو العدو الوحيد الذي لم يستطع فيدل كاسترو مقاومته. فبعد أكثر من نصف قرن جسّد فيه الـ«كوماندانتي» الحلم الثوري لشعبه وملايين اليساريين حول العالم، معاكساً التاريخ بصموده أمام «الإمبريالية» المتربصة له على بعد كيلومترات من هافانا، ومواجهته زلزال انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية، قرّر الرئيس الكوبي التنحي نهائياً من دون أن يقول وداعاً.
وبما أنّ «الثوار لا يتقاعدون أبداً»، كما يقول، فإنّ كاسترو سيستمر في النضال «حتى النفس الأخير»، في ميدان «معركة الأفكار»، لكنّ «تأملاته» في صحيفة «غرانما» لن تظهر بعد اليوم تحت عنوان «تأملات القائد العام» إنما «تأملات الرفيق فيدل».
وجاءت رسالة التنحي، التي استفاق عليها الكوبيون، أمس، هادئة ومتزنة، خلافاً للصخب والحماس اللذين رافقا مسيرة الثورة الكوبية، لتطوي الفصل الأخير من عملية الانتقال السلمي للسلطة في هافانا.
وكان كاسترو هيأ لهذا اليوم المفصلي، بإعلانه في 31 تموز 2006 تنحيه «المؤقت» عن السلطة لمصلحة شقيقه راوول، وفيما كانت الأشهر الـ19 كافية لامتصاص الصدمة، أتت نتائج الانتخابات البرلمانية في الشهر الماضي لتعزز احتمالات التنحي النهائي، بعدما تفوّق راوول على شقيقه في نتائج التصويت.
وفيما يتوزّع جيلان ممن عاصروا فيدل كاسترو بين مناصرين ومعجبين ومنتقدين وأعداء، فإنّ للـ«كوماندانتي» معياره الخاص للحكم على مسيرته النضالية، ردّدها بعد فشل المحاولة الأولى لإسقاط نظام الدكتاتور فولخانسيو باتيسيتا في 26 تموز 1953: «لا يهمني أن تدينوني... فالتاريخ سينصفني».
ولا عجب في أن يختار كاسترو التاريخ حكماً، فقد ساهم في صنع أحد فصوله، منذ أن انتصرت «زمرة» من الثوار بقيادته على أقوى حلفاء «الامبريالية» في أميركا اللاتينية في بداية العام ,1959 وفشل عشرة من رؤساء الأميركيين «اليانكي» في إسقاط النظام الشيوعي في الجزيرة، سواء عسكرياً بدعمهم المنشقين في هجومهم الفاشل على خليج الخنازير (1961)، أو أمنياً عبر تخطيط أجهزة الاستخبارات الأميركية لـ638 محاولة لاغتياله، أو اقتصادياً بعد عقود من حصار لم يركع الكوبيين.
وخارج حدود الجزيرة المحاصرة، جعل كاسترو العالم كله يحبس أنفاسه على مدى أسبوعين بين 22 و28 تشرين الأول ,1962 بعدما كادت أزمة الصواريخ الكوبية تتسبب في حرب عالمية ثالثة، فيما جاءت سنوات السبعينيات والثمانينات لتكرّس «أممية الثورة» عندما نقل الصراع ضد «الامبريالية» إلى انغولا وأثيوبيا، لتصبح كوبا أوّل بلد في أميركا اللاتينية يخوض حرباً خارج القارة التي بات العديد من أبناء كاسترو الأيديولوجيين رؤساء لها.
أمّا داخلياً، فقد جاءت الثورة بنتائج مذهلة أخرجت الشعب الكوبي من الجوع والأمية والمرض، فقد تحولت البلاد إلى «جامعة ضخمة» صدرت الأطباء والأساتذة إلى الخارج، أمّا الديموقراطية فظلت ناقصة في ظل نظام الحزب الواحد والتضييق على حرية العمل السياسي، الأمر الذي برّره الـ«كوماندانتي» دائماً بضرورة حماية الثورة.
وفيما تتجه الأنظار إلى الجلسة التاريخية التي ستعقدها «الجمعية الوطنية للسلطات الشعبية»، الأحد المقبل، لانتخاب الرئيس الجديد، فإنّ راوول يبدو الأوفر حظاً لخلافة شقيقه، من دون استبعاد احتمال أن تحمل مفاجأة باختيار رئيس البرلمان ريكاردو الاركون أو وزير الخارجية فيليبي بيريز روكي أو سكرتير مجلسي الدولة كارلوس لاخي لقيادة البلاد.
وتعليقاً على الحدث الكوبي قال الأكاديمي الأميركي سول لانداو أنّ «كاسترو يستحق لقب الجدارة لتنظيمه الجزيرة سياسياً وإدارياً، بحيث أنها لم تتهاوَ بمرضه، إذ أنّ شيئاً لم يتغير في حياة الكوبيين اليومية عندما ادخل إلى المستشفى منذ سنة ونصف السنة»، مذكراً بأنّ «كاسترو لم يمت بعد، وبالتالي فإنه سيصبح رمزاً مهماً على المستوى الفكري» بعد تقاعده.
وأضــاف «من المؤكد أنّه ما دام كاســترو على قــيد الحــياة، فإنّه ســيواصل، حـتى في سريره، تقديم الاقتراحات بشأن عملية الإصلاح لتطوير آخر تجربة اشتراكية في الــعالم»، لكنــه يؤكد أنّ «خلفاءه لن يستطيعوا ملء الفراغ، رغم أن اختيارهم سيــكون من بين رجال كوبا ونســائها الأكثر كفاءة»، موضحاً أن «راوول بدوره لن يبقى كثــيراً في الحكم، وبالتــالي إذا نظرنا إلى كارلوس لاخي وأبناء جيله، فإننا سنتوقع قادة وحكومة تقوم على أساس عمل اللجان أكثر من الارتكاز على شخص واحد».
من جهته، قال منسق برنامج أميركا اللاتينية في مركز «كاتو» للدراسات خوان كارلوس هيدالغو، إن تنحي كاسترو أظهر أنه «أصبح مريضاً جداً ما يعيق إعادة انتخابه»، مشيراً إلى أنّه من «المبكر جداً إعطاء إجابة واضحة حول الشخص الذي سيخلفه».
وأضاف «من الواضح أنّ راوول، الذي يصــغر أخاه بخمس ســنوات، يمــثل الجناح المعتدل في الحكومة، لكنّ هناك آخرين، بينهم فيليبي روكي، وهو أصــغر سناً، ينــتمون إلى الجــناح المتشدد»، وهذا ما يزيد من صعوبة التكهّن حول مســتقبل كوبا، لافتاً إلى أنه «ما دام فيــدل على قــيد الحــياة فمن المستبعد أن ننتظر انتقالاً دراماتيكياً باتجاه الديموقراطية والتسامح على المستوى الســياسي، خلافاً لما أوحت به بعض المؤشرات الباهتة خلال الأشهر الماضـية»، ليخــلص إلى القــول إنه «بالرغم من تنحــي فيدل، فإنّ حضوره سيتواصل من خلف الكواليس، وبالتالي فإنّ ظله سيظل مهيمناً على خليفته».
أمّا الباحثة في «مركز السياسة الدولية» في واشنطن جنيفر شويت فأوضحت أنّ إعلان كاسترو «تضمن إشارة إلى أنّ جيلاً جديداً سيتسلم السلطة، وقد يكون ذلك تلميحاً إلى فيليبي روكي». مضيفة أنّ «راوول والاركون يملكان الخبرة، ولكنهما ينتميان إلى الجيل القديم»، لكنها رأت أنّ «كارلوس لاخي يمثل حالياً الخيار الشعبي».
ولفتت شويت «دور فيدل في الحكومة الجديدة يتوقف بشكل كبير على وضعه الصحي»، متوقعة أن يكون تأثيره محدوداً، رغم احتمال بقائه كمستشار ورمز للثورة بعيداً عن مركز القرار. وختمت «اليوم انتهت حقبة فيدل كاسترو... وبدأ فصل جديد في الثورة الكوبية».

وسام متى

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...