فواز حداد :الرواية السورية الشابة المحرومة من الواجهة مذهلة بتنوعها

31-01-2007

فواز حداد :الرواية السورية الشابة المحرومة من الواجهة مذهلة بتنوعها

ما زالت الرواية تشكل هماً إبداعياً ما فتئ يشغل الكثيرين من الأوساط المثقفة والمتنورة. هذا ما يستشف من الحديث مع الكاتب والروائي فواز حداد. ومن خلال جديته المترافقة مع دماثة في الطبع، ولطف في اللكنة، لتعبر عن توخي العمل الروائي هدف التوازي. بحيث يجعل من فن الرواية خطاً متوازياً مع غيره من الخطوط الأخرى. كما يستنتج من رؤياه أنه لا يفصل الأدب عن التاريخ والنقد وقضايا المجتمع. فكلها فنون وصنوف تمارس خطاباً ينشد الرقي بالإنسان العربي ليقف سوية مع الآخر في حضارة هي للجميع .... فكان لنا معه الحوار التالي :‏
ـ  العودة إلى التاريخ أو الاتكاء عليه بما فيه من أحداث وجوانب وقضايا، ثم العمل على ربطها بالعمل الروائي كما في رواية "تياترو 1949"موزاييك" و"الضغينة والهوى" ... ما هي الغاية أو القصد، هل هي الأمانة التاريخية، أم محاولة تقديم عمل روائي تاريخي!؟؟‏
** لا يخلو عمل روائي من التاريخ، لكن يتمظهر بنسب متفاوتة. بالنسبة لأعمالنا الفواحة بزخم الماضي، فأنا على قناعة بأنه لايمكن لأي حدث ولو كان شخصياً وذاتياً تبين وجوهه الخفية إلا من خلال وضعه ضمن شرطه التاريخي. هذا من جانب، ومن جانب آخر، إدراك العلاقة بين الراهن وما جرى من قبل وإن كان منذ قرون، هذا على السطح المرئي والمقروء، أما تحته فالتأمل في دراما التاريخ؛ الإنسان وسيرورة الزمن، مصائر البشر، الثابت الإنساني رغم ما طرأ على الناس من تحولات وتقدم وتراجع. وما يثار أيضاً من أسئلة إضافية: هل للتاريخ معنى، أم نحن من يسبغ عليه المعنى؟ هل التاريخ يعيد نفسه ولا جديد تحت الشمس؟! هل يمنحنا القدرة على رؤية المستقبل، أم أن الوقت الحاضر هو الوقت الذي ينتهي فيه التاريخ؟‏ وبصرف النظر عن هذه الأسئلة، من العسير الإحاطة بمدى ما يقدمه لنا، الأهم أنه يساعدنا على فهمنا لأنفسنا وللحياة. وهو الرواية الوحيدة التي لا تنتهي مهما أوحى تكرار بعض تفاصيلها وتشابه فصولها بذلك، يكتبها أجيال البشر، نحن أبطالها، وعلى التأكيد نحن من يتوارث انتصاراتها وخيباتها، وعلى كل جيل أن يبتدع مآثره، أو أن يعيد ارتكاب حماقات من سبقه.‏ بالنسبة إلى الأمانة التاريخية، ليست مقصودة لذاتها، وإن كانت تقع في صميم الشغل الروائي، وهي أمانة تعنى بالمنعطفات الكبرى والدقائق الصغرى وتتجاوزها إلى ما تحاول بلوغه والتعبير عنه واكتشافه ومواجهته. وفي هذه المناسبة لا أدري لماذا يثير البعض موضوع التاريخ ببلادة وبقصر نظر ويحاولون النيل منه، وكأن في الكتابة عن زمن مضى عودة غير مشروعة إلى ماض ينبغي التنصل منه!! على كل حال، لايمكن إعطاء وصفة جاهزة أو أمينة للجواب على: لماذا التاريخ؟! ثمة حاجة ماسة إليه، وإلا كنا أشبه بإنسان فقد ذاكرته.‏
ـ التعبير الانطباعي والمتسم بطابع بلاغي، عادة ما تستبق به الحدث، وتنقل أو تصور الموقف للقارئ بلغة شاعرية وحساسة. فتدغم الحدث مع ما يدور في الطبيعة: (...وغاب صوته بين جدران توارت عنها الشمس...غيوم داكنة هاجمة...مطر يهمي خيوطاً رفيعة...رذاذ يترسل على الجدران...عندئذ دخلتْ...).‏
أهي التقنية أم الموهبة التي يمتلكها الروائي؟ أم المعيار أو القيمة الفنية للرواية والمنشودة من هكذا أسلوب؟‏
** هذا يحيلنا إلى اللغة، تقنية اللغة، وأزعم أن لكل رواية تقنيتها، وعلى الرغم مما يجمع بين روايات الكاتب الواحد من قواسم مشتركة، تبقى لكل رواية خصوصيتها اللغوية كأداة للتعبير تفرض نفسها على الكاتب والكتاب معاً. لكن يجب أن نحب اللغة أولاً، ونؤمن بها، وإلا كنا عاجزين عن استغلال قدراتها.‏ أي روائي يضع في حسبانه أداة الوشائج للربط بين الفصول واعتماد التداعي والأحلام والحوارات الداخلية، بناء الشخصيات ومتابعة تطورها، كيفية التعامل مع الأحداث وما يتشعب عنها... وأخيراً اختيار خاتمة ملائمة. الوشائج لديك تتبدى من خلال تقنية عجيبة ومدهشة.‏
ـ هل تأتى ذلك نتيجة عناء وبحث وتمحيص وحذف وإعادة كتابة... أم هي أيضاً موهبة الكاتب، جعلت تلك الوشائج تعبر عن ذاتها بشكل آلي أو عفوي؟!‏
** الموهبة مثل العبقرية تعبير غامض، ربما بسبب ما أصاب هذه الصفات المثيرة التي توزع كيفما اتفق، من تضخيم ومبالغات، الأفضل الإشارة إلى الموهبة كشيء معقد يلعب فيه التصميم والجهد دوراً رئيساً، يتبدى في عناء الكتابة والتمحيص وسعة الثقافة والتأني وإعادة الكتابة والتأمل العميق. بعدها تأتي الموهبة كي تطلق هذا كله في خلطة موفقة.‏ اعتقد أن ثمة نصيباً كبيراً لما ينبغي أن يرضيني قبل أن يرضي القارئ، على الفكرة أن تأسرني وعلى الأحداث أن تدهشني، أنا أيضاً أقع تحت تأثير الصدمة، هناك ما يفاجئني دون أن أعمل حساباً له، وعليَّ أن أعثر على طريقة ما، أي أن أجد حلاً لما يواجهني، لا أن أتحايل عليه أو أتجنبه. عندما تكتب تواجه عالماً لا تستطيع الزعم بأنك تملكه، وإلا كنت تجهل الكتابة. في الرواية تذهب إلى عالم، لا تظنه غير حقيقي، إذا فعلت ذلك فأنت تستخف به، لن تفهمه ولن تكون مقنعاً، عليك أن تدرك بأن هذا العالم ليس طوع أمرك رغم أنك تصنعه.‏ يلعب الروائي دوراً داخل روايته، أحياناً يكون هذا الدور أشبه بعمل شرطي المرور، مجرد أنه ينظم حركة السير أي الاعتناء والتحكم بتدفق الأحداث. في هذه الحالة يكون محظوظاً. في حالات أخرى قد يستدعي ذلك منه تغيير حركة السير بأكملها. أو تفجير قنبلة داخله، أو اختلاق سيارات وشاحنات واصطدامات. كذلك المشهد في الرواية معرض لحوادث صغيرة، فقد تضطر لإيقاف حركة السير كي يمر طفل صغير أو رجل أعمى. هذا ضروري، إنه يذكرنا بأن هذا العالم المضطرب والمجنون يُعد لهم مكاناً بائساً، هذا إذا لم يدسهم.‏
ـ عندما شرعت في إعداد حوارنا هذا، عادت بي الذاكرة إلى إحدى المقالات النقدية لأحد الزملاء يتوقف من خلاله عما تمخضت عنه التجربة الإبداعية في دنيا الرواية، ويعرج على ذكر عدد من الروائيين السوريين، فيذهب إلى اعتبار إبداعهم قد حمل في ثناياه فكراً وفناً وجمالاً، وأدبهم قد عالج قضايا اجتماعية وإنسانية على جانب من الأهمية. وكان اسم فواز حداد من جملتهم. ما هو تعليقك على ذلك؟‏
** لم يفتقد أدب الرواد إلى الفكر والفن والجمال، وعالجوا في رواياتهم قضايا اجتماعية سياسية وإنسانية، كانت مهمة في حينها وما زالت. نحن لم نضف إليهم شيئاً كثيراً، لا نستطيع الزعم بأننا أجرينا تحولاً لافتاً. عموماً في العالم كله، الإضافات بين الأجيال ضئيلة مهما حاول المتأخرون النفخ فيها. ما يلفت النظر في جيلنا، هو أننا استطعنا مواكبة الرواية العالمية في تطوراتها وتحولاتها، واختراقها بحداثة لم تكن تقليداً لها، وإنما تعبيراً عن ذواتنا ومجتمعاتنا وظرفنا التاريخي. نحن لا نعيش منعزلين في العالم، وبوسعنا الاندماج فيه دون التفريط بأنفسنا، ولا التحول إلى تابعين. ما يجمعنا مع العالم كثير، علينا أن نستفيد منهم، بل ونتعلم، ريثما نسهم بنصيبنا في حضارة هي للجميع، ولا يمكن أن يستأثر بها طرف أو أطراف تحت دعاوى عنصرية وإن كانت تبدو حضارية.‏
بالنسبة للأدب اختار جيلنا الطريق الصعب وليس السهل، جئنا إلى الرواية من مسالكها المعقدة وطروحاتها المتشعبة وإشكالاتها الغنية، ولم نهتم كثيراً بجذب أنظار القراء إلينا بأعمال سطحية وسهلة على شاكلة ما يجري تصنيفه بالأكثر مبيعاً، أو بالأعمال السهلة التي تصدر ضجيجاً، وترضي غرور كتابها، لاسيما بعد تخصصهم بما يدعى المسكوت عنه والفضائح والمحرمات والبوح الذاتي، وكأن الأدب الحقيقي لم يعمل على الممنوع والفضيحة والذات..‏
ـ المستقرئ لرواياتك يستشف منها واقعية واضحة وصريحة. فغالباً ما تلجأ في عمليتك السردية إلى الواقع لتستلهم أحداثه وتستنطق شخصياته. أيدلل ذلك على نزوع تجريبي يتماشى مع تيار الوعي ومتجاوز بدوره أسلوب الحبكة التقليدية؟‏
** الرواية محكومة بأمور تضع قيداً على الروائي لا يستطيع القفز عنه، وتحدد قدراته وامكاناته. ولا يسعفه تنبؤ أو تخيل. نحن أسرى واقع، نحس بوطأته، رغم تخايل احتمالات كثيرة، في حياتنا القصيرة هذه، لا أفق، دون أن يعني الانسداد المطلق. لا يذهب الروائي إلى المستقبل هرباً من الماضي ولا من الحاضر، المستقبل يقع في مكان لا ندركه، ولا جدوى في ظل هكذا أوضاع أن نأمل كثيراً، إذا لم نشأ الكذب على أنفسنا.‏ نعم لدي نزوع تجريبي لا يتقيد بمفهوم جاهز. الرواية تساوي الحياة وعلى تضاد معها، لذلك تبدو الرواية عسيرة مثلما العيش عسيراً، يجمع بينهما العبث والضلال.‏
ـ في روايتك تياترو 1949 والتي تعزف على أكثر من وتر (سياسة وحرب وفن ومسرح، طموحات آمال اخفاقات انكسارات...) بحيث لم تعتمد على مفهوم النوع الأدبي، أي أنك لم تتخذ بطلاً واحداً بل عدة أبطال، ولا موضوعاً معيناً تعالجه الرواية وإنما موضوعات كثيرة، ولا حدثاً رئيسياً أو أكثر تتمحور حوله الشخصيات بل حزمة من الأحداث.. ماهو مرد ذلك؟‏
** إذا شئنا أن نعتمد بطلاً في هذه الرواية، فهو انقلاب عام 1949. بانوراما عريضة ليس بالوسع فصل أجزائها عن بعضها، أو إهمال تفاصيلها ولا تداعياتها التي تأخذنا إلى مناظر صغيرة، سريعة وخاطفة، أو طويلة وشائكة، وما أحاط بها من ملابسات مختلفة ليست سياسية أو عسكرية فقط، وإنما اجتماعية وأخلاقية وفنية.‏ لا يمكن فصل العامل السياسي عن الفن والمسرح والغناء والحرب، ولا شخصية الصحافي عن الضابط والمخرج والدهان وعاملة صالة النيشان والمهاجر الشامي، هؤلاء جميعاً وغيرهم يضمهم مقطع واحد بالسياسيين الكبار من وزراء ونواب وحزبيين ومعهم الانقلابي حسني الزعيم. كل هذا في مدينة ذات تاريخ طويل وعريق، وتاريخ كان قد بدأ لتوه بالتعثر بعد الاستقلال، وحفل بإشكالات كثيرة وحزمة من الأحداث.‏ ليست الرواية قصة قصيرة، ولا قصة ممطوطة، ولا لقطات صغيرة، إنها بالدرجة الأولى عالم فسيح ذو أوجه متعددة، تدخله كي ينقلك إلى مكان يخبرك فيه شيئاً عن الحياة والتاريخ وانكساراته، والراهن وطموحاته، قد لا تخلو من جماليات إنسانية، وربما تحمل نزراً من الحقيقة من خلال مشاهد بإمكانك أن تغوص فيها عميقاً، لاحتوائها على طبقات عدة.‏
ـ الفكر المسرحي الذي يعتمل في ذهن المخرج حسن فكرت الشخصية الميلودرامية، وكذلك الصحفي والكاتب صبحي الشخصية الدرامية. وهما أبطال رواية "تياترو"، تبرع في تقديمه وشرح آليته الإبداعية... ولعل المتتبع لأعمالك يتساءل لماذا لم تجرب الكتابة المسرحية؟‏
** في الستينات من القرن الماضي، واكب الغليان القومي العربي، نهضة مسرحية شملت المنطقة العربية، كانت القاهرة في زمن عبد الناصر بؤرتها وبداياتها، ترجمت خلالها وبعدها المئات من النصوص المسرحية العالمية، وشهدت العواصم العربية عروضاً مسرحية محلية على مستوى فني جاد ورفيع. أفسحت المجال لظهور أهم المسرحيين العرب، الفريد فرج، محمود دياب، نعمان عاشور، سعد الدين وهبة، سعد الله ونوس وميخائيل رومان، وغيرهم. منذ ذلك الوقت تعلقتُ بالمسرح، كنت طالباً في المدرسة، كتبت خلال عدة سنوات حوالي خمس مسرحيات طويلة، وكاد أن يكون المسرح قدري. لكنني مع انتهاء دراستي الجامعية وأدائي لخدمة العلم، كان اهتمامي قد انتقل إلى السينما. إلى أن اخترت أخيراً الرواية، وكانت من أوائل اهتماماتي الأدبية عندما كتبت عدة قصص قصيرة، وقبل أن أنهي دراستي الثانوية كتبت رواية، وتنشط اتجاهي هذا بعد تراجع الحركة المسرحية وعقبات السينما. عموماً بعد هذا الزمن، لن ترى مسرحياتي النور، لقد تخليت عنها تماماً، التزمت بالرواية، لكن تبقى قراءة المسرحيات من أمتع القراءات لدي. لاسيما وقد ترك لدي المسرح رؤية لا تفارقني، عن عرض تقودنا فصوله ومشاهده إلى عالم آخر، تجري أحداثه على مرمى البصر، ونحن مواجهته على الطرف الآخر متفرجون، وفي الوقت نفسه حائرون نتلمس مصائرنا وأقدارنا تدور على الخشبة أمامنا.‏
ـ يجد بعض النقاد العرب في الرواية العربية عدم رقيها إلى مستوى الرواية الأوربية والعالمية. فهل أصاب النقد أم أخطأ؟!‏
** إذا كانت الرواية العربية لم ترق إلى مستوى الرواية الأوربية، فالنقد أيضاً لم يرق إلى مستوى النقد الأوربي، وبقي عالة عليه، دونما استيعاب دقيق ولا فهم عميق. الأحكام السالفة حول الرواية تبقى سطحية، ولا يمكن الوثوق بها، النقاد وبصراحة لا يتابعون ما يكتب من أدب، ولا غرابة في القول بأن بعضهم لا يعرفون كيف يتعاملون مع الرواية، فما بالنا عندما يتنطح لهذه المهمة صحافيون لديهم ميول أدبية، ولا تنقصهم المنابر، فيحكمون ويتحكمون دونما ثقافة تفي بأقل من المطلوب، وفي حقيقتهم عاجزون حتى عن عرض كتاب، فكيف بنقده؟! لاسيما إذا كانوا في غيبة النقد يريدون احتلال الساحة الأدبية، فيصطنعون ممن سبقهم عقبة، لابد من إزاحتهم، تحت زعم أنهم جيل بلا أساتذة ولا أباء، مما أعاد فكرة قتل الأب إلى الحياة للاستهلاك الصحفي، فوجدوا فيها فكرة صالحة للاستغلال، وكانت بمنتهى العبث.‏ حتى الآن لم تخرج الرواية العربية من شرنقتها المحلية، أقصد لم تترجم بوفرة، كما حدث مع رواية أمريكا اللاتينية. نجيب محفوظ ليس الرواية العربية كلها، إنه واحد من أهم المؤسسين لها، ولا يمكن الحكم عليها من خلاله فقط. لم يحز محفوظ على الاعتراف به سيداً للرواية في منطقتنا إلا بعد جائزة نوبل، وهذا من قصر نظر النقاد، وكأن سند أحكامهم يجب أن يأتي من الخارج. لهذا يتهافت الكتاب على ترجمة أعمالهم، ونجح بعضهم بفضل علاقاتهم، وأخضع الآخرون إلى معايير غريبة، منها أن تكون الرواية صغيرة الحجم لا تتجاوز المائتي صفحة، لغتها سهلة وبسيطة، والأفضل أن تكون صحفية، تهتم بالمرأة والجنس.‏ كذلك المشكلة في أحد وجوهها، هي في النقد غير القادر على التحرر من الشللية والانتهازية. وبذلك نفهم شيئاً ما عن ذلك العجز الثقافي الذي نلغو به دائماً.‏
ـ ماذا تقول عن المساهمات الروائية الشابة؟‏
** الأمر المستغرب أن المساهمات الأدبية الشابة الجيدة لم تجد لها مكاناً حتى الآن، وكأن المحلات محجوزة، رغم القلة في تعداد الروائيين. في حين من طرف آخر، نفاجئ بأن الساحة تغص بأعمال تدعي أنها شابة وحداثية ولها نجومها ومريدوها، هكذا بقوة الدعاية والإعلان!! وهي التي تظفر بالمطالعات والمراجعات والترحيب والتقريظ، نتيجه الجهد العضلي الذي يبذله مؤلفوها المقتدرون بالترويج لها هنا وهناك. خلف هذه الشاشة المخادعة، هناك عالم متوار من الرواية، مذهل بتنوعه، وثمة روائيون رجال وشبان وشابات وصغار يكتبون أعمالاً مهمة فعلاً، يجري التعتيم عليها، وكأن لا وجود لها، أو عبارة عن فقاعة أثارت شيئاً ما، وذهبت في سبيلها إلى مقبرة الروايات الميتة.‏ ولقد كان لي أن أطلع على بعض الكتابات المحرومة من الواجهة، وهي دونما ادعاء، تشكل جهداً بارزاً، يرفد الرواية السورية بأعمال جادة تُظهر روحاً بالغة التجريبية، ومغامرة جريئة من حيث الشكل والأسلوب، وحساسية نوعية، ورحابة طليقة، وجدة لا تخفي نفسها.. ولئلا يظن البعض بأنني أتكلم في الهواء، تكفي مثلاً الإشارة إلى الروائي عمر قدور الذي كتب "حواف خشنة" وهي رواية مثيرة بتقنيتها وموضوعاتها، حظيت بتعتيم ظالم ومشبوه. كذلك الحائزات على جائزة حنا مينة سواء عبير أسبر بروايتها "لولو" اللافتة جداً والمشغولة بحرافة عالية، وبسلاسة ممتازة؛ عوملت بتجاهل مؤسف. أو رواية "أبنوس" لروزا ياسين بعالمها الروائي المركب، المبهر والآسر بشجنه الجميل، ووحشيته الحزينة، عوملت بفظاظة على أنها مجرد فضيحة أدبية، وكانت تستحق مراجعات أدبية جادة وحقيقية!! اللافت في هذه الأعمال هو الأسلوبية المتخففة من ايديولوجيات التصلب، ولغة استعادت حيويتها. لكننا في زمن يقاس فيه العمل الروائي بما يثيره من فضائح، لا بما يقدمه للحياة والأدب. وهناك أسماء كثيرة أخرى مثل محمد ابراهيم الحاج صالح في روايته "أحداق الجنادب"، ونجاح ابراهيم في روايتها "عطش الاسفيدار" وتركي محمد رمضان في روايته "برج لينا" وغيرهم كثير، ممن لم ينعم عليهم أصحاب الشأن الثقافي بالتفاتة جديرة بأعمال أقل ما يقال عنها، بأنها لا تقل عما يكتب اليوم. هؤلاء ليسوا روائيي المستقبل فحسب، وإنما روائيو الآن والمستقبل، لا ينبغي تجاهلهم وكأنما المقصود إحباطهم وتيئيسهم. وإنما الاحتفاء بهم، ذنبهم الوحيد هو ترفعهم عن التزلف واستجداء المديح والدخول في كواليس الاتحاد وزواريب الصفحات الثقافية.‏

 

حوار : عبد الستار اسماعيل
المصدر : ملحق الثورة  ثقافي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...