فضيحة أثرية في مدينة جبلة

30-08-2007

فضيحة أثرية في مدينة جبلة

الآثار أينما وجدت هي انعكاس حضاري للشعوب التي تعاقبت على المنطقة، وبالتالي هي ملك للشعب وثروة وطنية لايحق لأي كائن من كان وأي مؤسسة كانت ان تتصرف بها أو تسيء لها بأي شكل من الاشكال.

وتعتبر منظمة اليونسكو الاثار ملكاً للإنسانية اجمع لذلك تحاول الدفاع عنها وبكل شراسة اينما وجدت، كذلك قانون الاثار في سورية، فأحكامه قاسية في الحالات التي تتعرض فيها الآثار للإساءة والتشويه لما لهذه الثروة من اهمية في تاريخ المنطقة والشعوب. ولكن رغم ذلك تتعرض الاثار احيانا للتخريب بأشكال مختلفة، ومن بين تلك المناطق مدينة جبلة، فبالامس أزيل وبكل دم بارد خان بيت شعيب الاثري من جذوره وأمام أعين الجهات المعنية وكأن شيئاً لم يكن مع العلم أن مبنى البلدية لايبعد عن الخان أكثر من 25 متراً، وكذلك لم يسلم ميناء جبلة الفينيقي من التشويه، وكم من الاماكن والمعالم الاثرية التي ظهرت في أماكن عديدة من المدينة جرى طمسها وصبها بالاسمنت تحت جنح الظلام قبل ان تدري الجهات المعنية أو.. ‏

واليوم يستمر مسلسل التشويه بسبب الحفر العشوائي لآليات مجلس مدينة جبلة لاقامة مشروع برج تجاري وسط المدينة في موقع مدرسة عز الدين القسام على بعد عشرات الامتار من مدرج جبلة الاثري والذي أزيلت منه بعض الطبقات الاثرية وظهر خلال ذلك بعض اللقى والمعالم الاثرية، واليكم القصة بالتفصيل: ‏

والتي بدأت فصولها منذ تقديم السيد وزير الادارة المحلية كتاباً للسيد رئيس مجلس الوزراء يشرح فيه حاجة مدينة جبلة لمشروع استثماري يلبي حاجتها وفق واقعها ببناء فندق مع مستلزماته بما يحقق ريعية استثمارية واقتصادية، والمشروع مستوف للشروط القانونية والفنية إلا أن وجود مدرسة ابتدائية آيلة للسقوط مبنية منذ خمسين عاماً ضمن أملاك مجلس المدينة تشكل عائقاً، ويطلب فيه اخلاء المدرسة وتسليم الموقع لمجلس المدينة لتشييد المشروع ومنح إعانة 80 مليوناً ولقد وافق السيد رئيس مجلس الوزراء على ماجاء في الكتاب ووجه لطلب قرض من صندوق البلديات لتمويل المشروع وهنا لابد من التعليق بأن المشروع ومنذ ولادته كفكرة لم يكن شرعياً و هومخالف للقانون وليس كما جاء في كتاب السيد وزير الادارة المحلية بأن المشروع مستوف للشروط القانونية حيث يقول قانون الآثار في المادة العاشرة انه« لايجوز للبلديات ان تمنح رخص البناء والترميم في الاماكن القريبة من المواقع الاثرية والأبنية التاريخية إلا بعد موافقة السلطات الاثرية لتضمن اقامة المباني الحديثة على النسق الذي تراه ملائماً للطابع الاثري..»، ولكن هذا لم يحدث ثم يعود مجلس المدينة ليطرح في اجتماع لجنة حماية المدينة القديمة بتاريخ 14/3/ 2007 إنشاء فندق ومجمع تجاري من تسعة طوابق جنوب مدرج جبلة الاثري في مكان مدرسة عز الدين القسام والذي لاقى مباركة من السيد محافظ اللاذقية ومن جميع الاطراف الاخرى بينما تحفظت مديرية الاثار في جبلة على المشروع، ما جعل وزير الثقافة ومدير الآثار يوجهان كتاباً برقم 2678 ص/5 تاريخ 18/5/ 2006 الى وزير الادارة المحلية يؤكد بأن هذا المشروع يشكل في حال تنفيذه ضمن منطقة مركزية تتوسط المدينة القديمة والمدرج الاثري وجامع السلطان اساءة بالغة لهذه المعالم وتشويهاً بصرياً بالغاً للمشهد العام والتي يجب ان ترتبط معاً بمساحات ومسطحات خضراء وعدم تشويه هذه المسطحات بأبنية حديثة لاتتلاءم مع هذه المنطقة ولاتخدم المعالم التراثية والاثرية والواقعة ضمنها لامن حيث الشكل ولامن حيث الارتفاعات والطابع العمراني الموجود في المنطقة نفسها، ووجه الكتاب لمحافظة اللاذقية ومجلس مدينة جبلة لضرورة الغاء فكرة المشروع ودراسة هذه المنطقة كحديقة ومسطحات خضراء واستراحات بسيطة كي تكون متنفساً لأهالي مدينة جبلة والسياح مع امكانية تنفيذ سوق تقليدية على جزء من المنطقة وبارتفاع طابق واحد ووفق دراسة معمارية تراعي النظام العمراني التقليدي المميز لمدينة جبلة القديمة لتقديم وبيع المنتجات التقليدية المصنعة في هذه المدينة لاعطاء فكرة عن تراث المدينة التاريخية، مع العلم ان المشروع المطروح لم يعرض على اللجنة الاقليمية في المحافظة وبالتالي غير معتمد حتى الآن وهذا ماتم تأكيده بكتاب مديرية الخدمات الفنية الموجه لدائرة اثار جبلة برقم 4351/ص بتاريخ 27/4/ 2006 وختم الكتاب بالتوجيه لدائرة آثار اللاذقية تقديم اعتراض خطي في حال عرض المخطط على اللجنة الاقليمية. ‏

وهنا بدأ الاخذ والرد بين مجلس المدينة ومديرية الاثار وراح كل طرف يشد الحبل الى جهته ماخلق حالة من التشنج والتوتر. وكانت نتيجته متابعة المجلس بإجراءات المشروع حيث قام في 13/3/2007 بتنفيذ أسبار لفحص ميكانيك التربة ورافق ذلك فك أبواب ونوافذ المدرسة تمهيداً لهدمها، وكانت نتيجة السبر في منتصف الموقع ظهور بعض الاحجار الكبيرة عند ئذ باشرت دائرة آثار جبلة بأعمال الكشف والتنقيب الاثرية والتي كشفت جزءاً من أرضية فسيفساء مرتبطة مع جدران وقناة حجرية تعود لحمام يرجع للعصر الروماني، مادعا وزير الثقافة ومدير الاثار بسام جاموس لارسال كتابين برقم 2528ص/ 5بتاريخ 16/3/ 2007 و2098 ص/ 5 تاريخ 29 /3/ 2007 للسيد المحافظ يؤكدان فيهما بأن الحفريات الاولية التي تمت في ساحة المدرسة قد أظهرت وجود بعض المعالم الاثرية والتي ربما تكون امتدادا لاجزاء من مسرح جبلة الاثري والذي يبعد حوالي أربعين متراً عن المدرج، يرجى الايعاز لمجلس مدينة جبلة لايقاف أعمال الهدم فوراً وعدم الاستمرار في ذلك للحفاظ على مبنى المدرسة وعدم بناء البرج الذي يشوه المنظر العام الذي يمتد من جامع السلطان وحتى المدرج والسرايا والمدينة القديمة. ‏

ورغم ذلك لم تلق تلك المناشدات والطلبات آذاناً صاغية فيتابع مجلس المدينة بهدم المدرسة حتى سويت بالأرض..وفي 15/7/ 2007 وجه مجلس المدينة كتاباً عن طريق السيد المحافظ جاء فيه: نظراً لانتهائنا من إبرام عقد تشييد البرج التجاري لمركز المدينة مع مؤسسة الانشاءات العسكرية، يرجى توجيه دائرة الاثار لضرورة الانتهاء من أعمال التنقيب في موقع البرج وساحاته خلال مدة اسبوع لتتمكن مؤسسة الانشاءات من تجهيز الموقع للمباشرة بأعمال المشروع، والغريب أن هذا الكتاب يعطي مهلة أسبوع من تاريخه بينما لم يصل لدائرة الآثار حتى 30/7/ والأغرب هو الطلب انهاء أعمال التنقيب خلال أسبوع وهذا ضرب من الخيال لأنه ليس بهذه السهولة يتم التعامل مع الاثار وكأنها صفقة بندورة. ‏

وكانت المفاجأة في 13/8/­ ورغم كل ماسبق­ ببدء آليات مجلس المدينة بحفر الموقع من الجهة الجنوبية وعلى عمق أربعة أمتار وبشكل عشوائي بعرض 5م وطول حوالي 20م ليجرف دون رحمة كل مايأتي بطريقه لايفرق بين آثار وغيرها وكانت النتيجة تخريب بعض الطبقات الاثرية والوصول الى الصخر الطبيعي، ظهر خلال ذلك بعض الحجارة تم توضيحها فتبين وجود قناة تصريف حجرية باتجاه شمال جنوب مغطاة ببلاطات حجرية كبيرة الحجم... وأثناء تنظيف المقطع الجنوبي للحفرية، تبين وجود أساسات جدران من الحجر...، وتعد القناة والاساسات استمراراً للحمام الذي تم الكشف عنه سابقاً، كما تم العثور على بعض القطع الاثرية مثل عروة جرة فخارية عليها ختم وضمنه كتابة يونانية تعود للقرن الثاني قبل الميلاد بالاضافة لبعض المشابك العظمية وصحن فخاري يرجع للفترة الرومانية، ويمكن اعتبار هذا الكشف مهماً لوجود الحمام الروماني، وهذا ماجعل دائرة الاثار في جبلة تضع الوزارة بصورة المستجدات الاخيرة وكانت النتيجة تشكيل لجنة من قبل وزير الثقافة لدراسة الموضوع والاطلاع على الموقع وتقرير مصير المشروع من خلال الوقائع التي تظهر بالكشف الميداني، واللجنة مشكلة من ميشيل مقدسي مدير التنقيب في سورية وجمال حيدر مدير آثار اللاذقية وخزامى البهلول مديرة التنقيب في موقع أوغاريت ومسعود بدوي رئيس شعبة التنقيب في جبلة واثناء معاينة اللجنة لموقع الحفر قال الدكتور مقدسي رئيس اللجنة :إن هذا العمل فضيحة وكارثة أثرية مع سابق اصرار وتصميم لانهم يعرفون ان هنالك معالم اثرية ورغم ذلك تابعوا الحفر ولم يسألوا عن احد، وفي هذه الاثناء كانت عمليات الحفر مستمرة.. بعد اجتماع اللجنة وانتظار دام اكثر من اربع ساعات حاولنا الحصول من اللجنة على التقرير وعلى قرارات اللجنة لكن لم نستطع وكانت التعليمات من وزارة الثقافة للجنة قد سبقتنا بعدم تسريب أي معلومات للصحافة وفي هذه الاثناء لاحظنا توقف الآليات عن الحفر في الموقع. ‏

ولتبيان رأي مجلس مدينة جبلة التقينا المهندس فايز الزيات رئيس المجلس الذي قال : ان المشروع المزمع اقامته هو عبارة عن برج تجاري مؤلف من تسعة طوابق بشكل جانبي يسمح بإظهار الاوابد الاثرية في مركز المدينة من خلال تشييد ساحات وحدائق وممرات مشاة، وهذا البرج لايهدف الى الربح المادي لمجلس المدينة وانما لازالة كل الاكشاك المتوضعة في مركز المدينة والواقعة على العقارين666 و665 الصليب، والفكرة الاساسية التي يجب عدم اغفالها هو الجانب الانساني لاصحاب المحلات والبالغ عددهم اكثر من 120 محلاً يعيش منها حوالي 300 عائلة، هؤلاء سيتم تعويضهم بالطابق الارضي والاول بمحلات بديلة، وهذا المشروع تمت دراسته عبر الاقنية الطبيعية بعد دراسة الجدوى الاقتصادية والبعد الانساني له، والذي تبلغ تكلفته حسب الجدوى 80 مليون ل.س، وتم رصد 45 مليوناً من رئاسة مجلس الوزراء لتشييد البناء..وأما عائدات الطوابق الاخرى والمؤلفة من مكاتب وفندق ومطعم وكافيتريتين فستوظف لاظهار المعلم الحضاري( المدرج) بالمظهر اللائق من خلال استكمال الحدائق والساحات وممرات المشاة. ‏

ويضيف بأن المحلات الموجودة في مركز المدينة مؤجرة منذ زمن طويل من قبل مجلس المدينة ولايمكن التعويض بمبالغ مناسبة للتخلص من التشويه الذي تسببه لوسط المدينة، لان ذلك سيكلف حوالي مليار و300 مليون ل. س وهذا صعب جداً ومالنا قدرة عليه وكان الحل بتعويضهم بمحلات بالبرج. ‏

وذكر: خاطبنا آثار جبلة من الشهر الثالث بأنه تمت الموافقة على المشروع ورصد التمويل اللازم وأرسلنا لهم كتاباً في 13/3/2007، بأننا نقوم بتنفيذ ميكانيك التربة وأعطينا مهلة حتى الشهر الثامن لاجراء الاسبار التي يريدونها وقلنا في حال ثبت ان الموقع له قيمة اثرية نحن مستعدون لازاحة المشروع، ونفاجأ في 13­14 عندما قمنا بالحفر باتهامنا بأننا نقوم بتخريب الموقع وأن هنالك لقى أثرية تم اكتشافها بالموقع رغم اننا نتحفظ على هذا الكلام لانه خلال فترة التنقيب لم يظهر أي اكتشاف، وبالتالي الادعاء بأننا نقوم بالتخريب مرفوض، ونحن نسعى جاهدين لابراز المعالم الاثرية من خلال المشاريع التي نقوم بها في المدينة القديمة.. ‏

وكأعضاء في لجنة حماية المدينة القديمة نحن طرف في الحفاظ على الآثار لاهدمها وينهي كلامه بأن المبالغ المرصودة للمشروع هي تمويل نهائي إن لم يتم صرفها خلال العام ستلغى وستكون جبلة فقدت فرصة كبيرة. ‏

وذكرت بعض المصادر بأنه بعد المراسلات بين السلطات الثقافية والادارة المحلية وتشكيل لجنة من المحافظة تم إيقاف المشروع، وبالتالي خسرت المدينة إمكانية بناء البرج ،هذا المشروع الحضاري والذي هي بأمس الحاجة له، فحتى الآن ورغم أهمية جبلة تاريخياً واثريا وسياحياً مازالت تفتقر لوجود فندق لاستقبال السياح والزوار، وهنا تجدر الاشارة أن الى غياب التنسيق بين مجلس المدينة ومديرية الآثار والدراسة الناقصة للمشروع والجهات التي قامت بها هي التي تتحمل مسؤولية الغائه لأنها لم تأخذ بعين الاعتبار لاقانون الآثار ولا امكانية ظهور آثار او معالم اثرية ولاسيما أن المنطقة تتوسط معالم اثرية عديدة، وبالتالي لايجوز بأي حال من الاحوال زرع برج تجاري في وسطها يخرب النسيج والتناسق العمراني ويشوه المشهد النظري لمركز المدينة ويفقده هويته التاريخية. ‏

ويقول البعض: اذا كان العذر لبناء البرج ازالة المحلات والاشغالات والاكشاك التي تشوه المركز فمجلس المدينة هو الذي سمح لها سابقاً ولايحق له الآن ان يصحح الخطأ بخطأ اكبر وعلى حساب تاريخ وآثار وهوية المدينة، والامر الاخر الذي يجب التركيز عليه لماذا البلدية لم تحاول طرح البدائل بحيث يضمن عدم ضياع اعانة رئاسة مجلس الوزراء وكان من الممكن ان يكون البديل مكان سوق العربات المكشوف او في أماكن اخرى عديدة، ويتساءل الكثيرون من ابناء المدينة: هل من المعقول وفي وقتنا هذا و بعد كل التطور الذي وصلنا له بناء سوق للعربات والبسطات ومسقوف بألواح من التوتياء؟!! إنه تشويه للمدينة وقصور نظر استثماري حيث تمت اضاعة مساحة ضخمة كان بالامكان ان يقام عليها مجمع ضخم كمشروع استثماري يدر عشرات الملايين من جهة ويستوعب كل المخالفات الموجودة في المدينة من جهة أخرى ومن بينها المحلات في مركز المدينة وبالتالي نتخلص من تشويه المدينة الناتج عن المخالفات. ‏

كما لابد من التركيز على نقطة مهمة جدا بأن استثمار المعالم الاثرية المذكورة سابقاً في مدينة جبلة مازال شبه معدوم، ولو كتب لتلك المعالم التوظيف المناسب فإنها ستكون الدجاجة التي تبيض ذهباً وسيعم الخير على كل أبناء المدينة وخلق فرص عمل عديدة لم تكن بالحسبان فهنالك الكثير من المناطق في العالم تعيش على السياحة فقط. ‏

وأخيراً وبعد إلغاء المشروع يجب على وزارة الثقافة ومديرية الاثار والمتاحف رصد الاموال الكافية وتجنيد كل الطاقات من اجل التنقيب وكشف الموقع خلال اقصر مدة ممكنة فليس من المنطقي ان يظل مركز المدينة بهذا الشكل المشوه عشرات السنين ونعلق السبب على شماعة الاثار، ولهذا لابد من التعاون والتنسيق بين مجلس المدينة ومديرية الاثار للتوصل لحلول مناسبة تضمن اخراج أصحاب الاكشاك والمحلات الى مكان آخر ومن ثم كشف وإظهار وسط المدينة من خلال ربط المعالم الاثرية بممرات وساحات وحدائق جميلة تصبح متنفساً لاهالي مدينة جبلة ومقصداً للزوار والسياح لتشكل نقطة التقاء وحالة حوار بين جميع اطياف المدينة، ومركز اشعاع لاطرافها. ‏

عاطف عفيف

 المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...