غسان الرفاعي: هل انتهى عصر المثقف الشمولي؟

14-02-2011

غسان الرفاعي: هل انتهى عصر المثقف الشمولي؟

1
أطلق الأستاذ الجامعي «دانيال ليندلبريغ» المعروف بثوريته النزيهة الرصاصة الأولى، وأصدر كتاباً سماه «دعوة إلى الانتظام» اتهم فيه المثقفين الفرنسيين «بالرجعية الفاسقة» بسبب مناهضتهم للثقافة الجماهيرية، ولحقوق الإنسان، وروح ثورة 1968، وقبولهم الضمني للعنصرية، ومعاداة العالم الثالث، من منطلق التعالي المعرفي. ‏

وقد سبق رصاصة دانيال ليندلبريغ توزيع الإعلانات عن موت المثقف والتبرع بتوزيع نعوته مجاناً، بعد أن أكدت مراكز الرصد أن أكثر القامات الثقافية قد استنفذت رصيدها، وأخلدت إلى الصمت، بعد أن داهمتها الأحداث، واستغلق عليها فهمها وتحليلها. ‏

وكانت الأدبيات قد اكتشفت أن المثقف، بالمفهوم الشائع في القرن التاسع عشر، أي المثقف المرشد، الموجه، الذي يقتدى به كنموذج مثالي، قد سحب من التداول، وحل محله الإعلامي أو مقدم البرامج الترفيهية أو الاختصاصي في الإعلان، ويبدو أن المجتمع المعاصر وهو سجين العجالة المفرطة وسرعة القطاف يقاطع كهنة الفكر ويفضل عليهم الإعلاميين بعد أن انقرض دور الموجه الإيديولوجي، وانطفأ الإيمان السياسي الملتزم. ‏

2 ‏
ولكن المفكرين رفضوا هذا الطرح المتشائم، وحاولوا إثبات أن المثقفين مازالوا على قيد الحياة، وأن هناك طلباً جماهيرياً متزايداً للاستماع إليهم، وقراءة ما يصدر عنهم. المشكلة كما يراها أحد المتحذلقين أنه يتعذر على المثقف أن يحتبس في قارورتين: قارورة الرجعية وقارورة التقدمية وأنه قد توجد قواسم مشتركة ينبغي إبرازها، والتمسك بها، ولكن القواسم تبدو مستحيلة، في المناخات السائدة، ولعل ما قاله الكاتب العنصري دانيال هوبيرك مؤلف كتاب المنصة الذي أثار ضجة كبيرة، حين صدوره، بسبب إفراطه بالعنصرية، كاف لزعزعة هذه القواسم، إذ قال بفظاظة في مقال نشر في أسبوعية «لوبروان»: ‏

«حينما أسمع أن هناك حواراً ثقافياً، يطيب لي أن أشارك فيه، ولكنني أشعر بالحاجة إلى التسلح بمسدسي. صدقوني، أنا على استعداد لاستخدام هذه المسدس حين الحاجة..». ‏

3 ‏
مازلت أذكر ندوة دعيت إليها في اليونسكو حول المثقف المعاصر، وما أثير فيها من مناقشات حادة، ومهاترات متوترة، حتى خيل إلي، للوهلة الأولى، أن موضوعاتها لا تنطبق إلا على مجتمعات «التخمة والبطر»، ولكن دراسة متمهلة تكشف أن المجتمعات التي تخوض معارك قاسية من أجل تحررها، وانعتاقها من الأغلال والأصفاد السياسية والاقتصادية، تعاني هي الأخرى، من إرهاقات وتوترات ثقافية، قد تكون مشابهة لما تعانيه المجتمعات المتخمة، وإن اكتسبت المعاناة أبعاداً مختلفة. ‏

أول الموضوعات التي احتدم حولها النقاش هي إصرار معظم المشاركين في الندوة على أن «المثقف الشمولي» الذي كان ينصب نفسه مرشداً وموجهاً للمجتمع قد تغمده الله برحمته، وأن المجتمع لم يعد بحاجة إليه، بعد أن أصبحت الأمور تسير تلقائياً من دون حاجة إلى توجيه، وازدادت الحاجة إلى الاختصاصي، أو التقني. ويقول المفكر «بول تيبو»: الشيء الجديد في مجتمعنا هو الاعتماد على التسيير الذاتي دون الاستعانة بكهنة التوجيه، الإنسان المعاصر يتلقى أغذيته الحضارية من عدة مصادر: المعلوماتية توفر له كل شيء بشكل مدهش، ولم يعد بحاجة إلى «إيميل زولا» أو «تولستوي» ليقتدي بسلوكهما، وإنما هو بحاجة إلى مصلح تلفزيون، أو منظف بلاليع، هذا كلام فظ موجع، ولكنه يصور واقعاً يومياً، وما عاد من الممكن تجاهله، ويضيف «تيبو»: (المفارقة، أن أحداً لا يحاسب منظف البلاليع على موقفه السياسي، ولكن الجميع يحاسبون المثقف، ويحملونه مسؤولية أقواله، فإن كان صريحاً عاقبوه، وإن استخدم التورية اتهم بأنه مراوغ رخيص..). ‏

4 ‏
وثاني الموضوعات أن هناك انسداداً يصطدم به المثقفون في سعيهم إلى امتلاك الحقيقة، وقد يتعذر عليهم، حفاظاً على تماسكهم العقائدي أو الاجتماعي أن يحددوا المخارج المشروعة منه. كانت الحركتان المتخاصمتان قبل الحرب هي الانغلاق القومي والانفتاح الأممي، وقد تسبب ضيق أفق المتحمسين للحركتين بفواجع دويلات، ثم أتت حركتان متخاصمتان مختلفتان بعد الحرب هي الانفلاش الوجودي لسارتر والطغيان الماركسي، أحدثتا انشطاراً في المجتمع، تلاشى تدريجياً بعد أن وجد مفكرو الحركتين فجوات أو مخارج، أنقذت الجميع من كارثة مؤكدة، يتحدث الفيلسوف المارق «فياكر كراوت» عن العنكبوتة التي تنسج شباكها من داخلها، والنملة التي تجمع مؤنتها وتدخرها، إنه يختار أن يكون النملة، قائلاً: «أنا لا أستطيع أن أغتذي من أحشائي، ولابد من قوت خارجي، وهذا يوفره لي الناس، كل الناس..». ‏

5 ‏
وثالث الموضوعات أن المأزق الذي يواجه قوى اليسار في أوروبا لا يلخص في انخفاض عدد الناخبين لممثليه ولكنه عائد إلى تحول جذري في العقلية المعاصرة وتبدل في الرؤية الثقافية. لقد تبنى المجتمع المعاصر قيم الاستهلاك والثروة والارتزاق، وهذا صحيح في الغرب المتخم، كما هو صحيح في العالم الثالث المملق، خاصة في الدول الجديدة الصاعدة مثل الهند والصين، والبرازيل، إذ ما تكاد هذه البلدان تقترب من الحداثة حتى تتهالك على الاستهلاك والرفاه. إن الفقراء أو البروليتاريا في هذه البلدان تطمح إلى الاغتناء السريع وإلى اقتناء المواد الاستهلاكية بغزارة، مثل الأغنياء، وتتخلى عن التضامن الطبقي. ‏

ولكن ما الذي تطرحه المثل التقدمية الاشتراكية؟ إنها ترفض هذا الانبهار بالاستهلاك، وتدعو إلى الزهد، والعودة إلى ما هو ضروري في الحياة، ثم إنها تطالب بالمزيد من التضحيات والتقشف. ولكن لا أحد يريد أن يبذل مثل هذا الجهد. وقد قدمت إيطاليا التي يحكمها برلسكوني النموذج الأمثل، إذ لا يخجل رئيس وزرائها من الدعوة إلى البرجزة، والبذخ، والاستهلاك والتمظهر الجذاب. ‏

6 ‏
ورابع الموضوعات هو الولع الكوميدي بالانتخابات الرئاسية والتشريعية الموسمية، وهنا لابد من القول إن: الانتخابات الديمقراطية قد تكون مثل فزاعة «فرانكشتاين» بالنسبة لبعض قادة الأنظمة ممن تعودوا أن يمارسوا الحكم المطلق، وممن نجحوا في تحويل مواطنيهم إلى رعايا مذعورة، وقد تكون الانتخابات أشبه ما تكون ببابا نويل بالنسبة لجماهير الناس ممن يحلمون بحرية التعبير، وممن يطمحون إلى أن ينتزعوا حقهم للمشاركة والمساءلة، وقد تكون شبيهة بمؤامرة امبريالية تستخدمها مراكز الاستكبار والاستفراد لتبرير التدخل والاحتلال، وتزيين التخلف القومي، ولكن الظاهرة الجديدة التي تحرج هي عزوف الجماهير عن الانتخابات وارتفاع نسبة المستنكفين ما يعد دليلاً على تآكل الحيوية الديمقراطية وانحسار الوعي المدني وتفتت التضامن الاجتماعي. ‏

المتشائمون يرجعون هذا العزوف المحير إلى تفشي الفردية الانتهازية، وشيوع الانحطاط المدني، وتفاقم الهم المعيشي، خصوصاً بعد أن سقطت الفراديس الشمولية، بكل ما كان يثقلها من عنجهية في التنظير الإيديولوجي، وفساد في الممارسات العملية، وبعد أن انفضح أمر الديمقراطيات البرجوازية، وغرقت في لجج الفساد، والعهر الاقتصادي، والاستبداد المالي، ولكن الحكماء يرون في هذا العزوف تطوراً لافتاً لا يخلو من إيجابية، إنه انتقال من الديمقراطية المستقطبة إلى الديمقراطية المتشظية. ‏

يبدو أن المواطنين يرفضون أن يكونوا ذرات في سديم انتخابي إذ قد وجدوا بدائل للتعبير عن رغباتهم، خارج صناديق الاقتراع، مثل التوقيع على العرائض، والانخراط في المسيرات، والتظاهرات، والاعتصام، والعصيان المدني، واللجوء إلى القضاء، وكما قال «بيير روزا تفالون» في كتابه خرافة المواطن السلبي: يسعد المواطن أن يتقاعس، وأن يتخلى عن حقه الانتخابي، لا تهرباً من المسؤولية السياسية، وإنما لأنه يفضل إن يعلن عن خياراته بوسائل أخرى، كم هو جميل أن يوقع على عريضة احتجاج، كم هو مثير أن يهتف في مسيرة حاشدة، ثم إن العصيان المدني، أو الاعتصام في محطة مترو، أو الإضراب الشامل الذي يشل المرافق العامة، نشاطات رومانسية تذكرنا بحيويتنا. ‏

7 ‏
هموم مستوردة، قد تتصف بالبدانة، والترهل، وقد تكون من إفراز التخمة، ولكنها هموم قد تهاجر إلى أماكن أخرى، ومنها شرقنا الأوسط، الذي يعاني من كثرة التصدير، لا عن حاجة، وإنما لأن المستكبرين طامعون به، وقد يكون من الحكمة تفحص البضاعة المصدرة عنوة، فقد ننجح في وقاية أنفسنا منها. ‏

وكما جاء في تحليل حديث لمركز البحوث الاستراتيجي الفرنسي: أن تلاحق خيبات الأمل، وشعور المواطن أن الطبقة السياسية من حاكمة ومعارضة، تخونه، وتستثمره، بقلة أدب، ووقاحة، قد دفعت به إلى أن يكون مواطناً سلبياً يعاني من القرف السياسي، والترفع الإيديولوجي، وعدم الاكتراث الاجتماعي. السؤال المطروح حالياً، هو: هل تفتش جماهير الناس عن الشرعية الديمقراطية خارج الانتخابات، وبمعزل عن أحكام صناديق الاقتراع؟ ‏

8 ‏
قد يتعذر على الإنسان العربي السوري أن يستورد هموماً خارجية، طالما هو غارق حتى أذنيه في همومه الوطنية، إنه يتعاطف مع معاناة المعذبين في كل مكان، ولكن يظل مستنقعاً في واقعه. على أن ارتشاق المثقف العربي في المنفى، طواعية أو قسراً، يولد عنده الرغبة في أن يعد الإشكالات التي تتلاطم في المجتمع المغاير وكأنها صورة طبق الأصل عن إشكالات مجتمعه، من جهة، كما يأمل في أن يتبنى الحلول لهذه الإشكالات دون تعمق أو دراسة متمهلة من جهة أخرى.

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...