غسان الرفاعي: شهر الفجور البرجوازي

12-08-2007

غسان الرفاعي: شهر الفجور البرجوازي

ـ 1 ـ لم يكن الشاعر رامبو متجنياً على شهر آب حينما وصفه بأنه «شهر العطالة الذهنية»، ولم يكن مجدفاً حينما طلب من رب السموات والأرض أن يحذف هذا الشهر من تقويمه، ولا كان ديستوفسكي يهذي حينما خصص فصلاً من روايته «بيت الموتى» لشهر آب الموصوف بأنه «شهر الفجور البرجوازي»، وكان الرئيس ميتران يقول: «ينبغي أن يتقن رئيس الجمهورية فن الشعور بالضجر!» ولعل هذا الضجر الذي يتخثر في شهر آب هو الذي دفعه إلى بناء أكبر مكتبة في ضواحي باريس، وإلى إغراق مكتبة في قصر الإليزيه بالكتب، ثم ألم يكتب ألبير كامو في «الطاعون»: هؤلاء الذين يقتنصون الهواء الطازج في أعالي الجبال، أو يتمخطرون شبه عراة على الشواطئ، في شهر آب، خارجون على الشرعية الثقافية ما لم يحملوا معهم كتبهم المنتقاة! لا عجب إذا أصدرت الأدبيات الأوروبية في مطلع هذا الشهر «قوائم» بالكتب الضرورية التي يجب قراءتها هذا الشهر، وفي مقدمة هذه القوائم كتاب: «الإسلام: وجهة نظر».

ـ 2 ـ ‏

قد تبدو المقارنة «مزحة غير مناسبة»، ولكنها مطروحة عند كبار المؤرخين المعاصرين: ما الذي يجمع بين نابليون بونابرت والرئيس جورج بوش؟ ‏

القاسم المشترك بين الاثنين ـ حسب ريتشارد بولير، أستاذ التاريخ في جامعة كولومبيا، ومؤلف كتاب: «الإسلام: وجهة نظر...» ـ هو ليس في الموهبة الاستراتيجية، ولا في الاقتدار على القيادة، وإنما في التجرؤ على ارتكاب الحماقة: لقد شن الاثنان هجوماً على العرب، وحققا في البدء، انتصارات، ثم غاصا في مستنقع «الاحتلال والاستبداد»، وفي حين اكتشف نابليون خطأه بسرعة، فولى أدباره، استمر بوش يعاند ويتحدى، ولو اتصف بذات الحكمة التي اتصف بها نابليون لحمل حقائبه وفضائحه، وفر بجلده من العراق، كما فر بونابرت من مصر، قبل فوات الأوان. ‏

لقد غزا نابليون مصر في تموز 1798، لتحقيق حلم كان يراوده كالكابوس: السيطرة على الأقاليم العربية في الامبراطورية العثمانية، والوصول إلى الهند، لحرمان بريطانيا من «فردوسها المتخم بالخيرات والثروات»، وقام بوش بغزو العراق في آذار 2003 لتحقيق حلم محافظيه الجدد المتحالفين مع إسرائيل بتدمير قوة عربية صاعدة، والاستفراد بموارد النفط، والتحكم بموقع استراتيجي يوفر الهيمنة العالمية. لقد اصطدم نابليون، بعد تدمير جيش مصر المملوكي، بمقاومة شعبية عارمة أفقدت جنرالاته اتزانهم، كما يصطدم اليوم بوش، بعد إلغاء الجيش العراقي وتسريح ضباطه وجنوده، بمقاومة عراقية عنيدة، أفقدت «عصابته من عتاة المحافظين الجدد المتغطرسين» ما عرف عنهم من عناد وثقة وتصميم. ‏

‏ ـ 3 ـ ‏

كان يرافق نابليون عدد كبير من المستشارين والعلماء والمؤرخين والاختصاصيين بالحضارات، وقد نصحه هؤلاء بالتوجه إلى المصريين ـ بصفته الابن البار للثورة الفرنسية ـ ودعوتهم إلى الثورة على المماليك، والتخلص من استبدادهم وجورهم، وقد جاء في البيان الذي وزعه على جماهير الناس: «يا شعب مصر، إذا قالوا لك إنني أتيت إلى مصر للاعتداء على مقدساتك وديانتك، فهذه أكذوبة لا يجوز أن تنطلي عليك، إنما أتيت لانتزاع حقوقك المغتصبة من الطغاة والمعتدين، أنا أنفّذ تعاليم الله، سبحانه وتعالى، وأمتثل لما جاء في القرآن الكريم....!» ولم يكن مستشارو بوش من العنصريين أقل حذاقة من مستشاري نابليون، إذ نصحوه بإمطار العراق بمنشورات خبيثة، جاء فيها: «يا شعب العراق العظيم، أتيناكم لنحرركم من الطغيان والاستبداد، ولنشر الديمقراطية، ولحماية حقوق الإنسان، والحفاظ على المكتسبات الحضارية....!». ‏

طبعاً لم يقتنع المصريون بنزاهة نابليون، ولم يستجيبوا لدعوته إلى التحرر، ولا بانتحاله تعاليم الله، وامتثاله للقرآن الكريم، كما لم يقتنع العراقيون بتهريج بوش، ومزاعمه عن حرصه على تحرير الشعب العراقي من الطغيان والاستبداد، واستنهاضه قادة العراق إلى تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الحداثية، وقد فجع الجميع بالجرائم التي ارتكبها جنود الاحتلال: حرق المكتبات، نهب المتاحف، ممارسة التعذيب في سجن أبو غريب، قتل واغتصاب. ‏

لقد أدرك نابليون، ولو بعد فوات الأوان، أن البقاء في مصر «مغامرة بائسة»، واكتشف أكذوبة رسالته الحضارية بنفسه، قبل غيره، وهذا ما دفعه إلى العودة، بعد أن ملأت أبواقه الدنيا ردحاً وتضليلاً، ولكن بوش الذي يعرف قبل سواه، أن مغامرته في العراق ستقوده إلى الكارثة، ولن تجلب له إلا الخيبة، والهزيمة ما زال يعاند، وإذا ما استمر في شد حبال السلطة «الوطنية» القائمة من وراء الستار، وإرغامها على تنفيذ الإملاءات، لا الاستجابة لتطلعات الشعب، فإنه لن ينجح إلا بإثارة المزيد من النقمة عليه، وعلى سلطة «المنطقة الخضراء» المحاصرة التي تمتثل له. ‏

‏ ـ 4 ـ ‏

الثنائية الفاضحة في القرن الحادي والعشرين هي المواجهة بين «تكاملية» العالم من جهة وانشطاره من جهة أخرى، إذ ما دام من المستطاع قصف أية مدينة في العالم من أية قاعدة عسكرية، وأن أي «ارتجاج» في بورصة لندن أو طوكيو أو نيويورك قد يؤدي إلى إفلاس مؤسسات إقليمية مزدهرة وتسريح عشرات الألوف من العاملين فيها، ومادامت شاشات التلفزيون قادرة على أن تنقل «غثاثات وابتذالات» مافيات الإعلام إلى كل القارات، وما دام يتعذر تسوية أية قضية بشكل منعزل أو مستقل، على صعيد الإقليم، ولا حتى على صعيد القارات، فإنه لا بد من الاعتراف بأن هذه التكاملية أو على الأرجح، هذه العولمة قد استقرت في كل الضمائر كواقع لا يمكن تجاوزه، ولكن هناك انشطار فاقع يقابل هذه العولمة يقوم على الإقرار بأن 20% من سكان الأرض يحتكرون 80% من ثروات العالم، وأن ازدهار قلة متخمة في الغرب يكلف العالم هيروشيما جديدة كل يومين ـ كما يقول روجيه غارودي ـ . ‏

ـ 5 ـ ‏

وينعكس هذا الانشطار على المفردات المتداولة: إننا نسمي «تقدماً» التخريب المنهجي للطبيعة والإنسان، ونسمي «ديمقراطية» القطيعة الكاملة بين من يملكون ومن لا يملكون، ونسمي «حرية» النظام القائم على حرية التبادل أو حرية السوق الذي يسمح للأقوياء أن يفرضوا نهجهم على الضعفاء، ونسمي «العولمة» لا الحركة التي تتخذ من حوار الحضارات مدخلاً إلى تحقيق الوحدة السمفونية للعالم، وإنما على العكس، المؤامرة الخبيثة التي تسعى إلى تقسيم العالم إلى شمال متخم وجنوب مملق، وتقوم على الهيمنة الامبريالية، وعلى تدمير الخصائص والهويات الحضارية المختلفة بهدف فرض سيادة «اللاثقافة»، ونسمي «تنمية» نظاماً في الانتاج والنمو الاقتصادي، يعتمد على إنتاج المفيد، وغير المفيد، والمؤذي بل القاتل، مثل إنتاج الأسلحة الفتاكة، والمخدرات، والمواد الغذائية السامة. ‏

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...