غسان الرفاعي: حينما لا تستطيع أن تسكت ولا أن تستقيل

29-08-2011

غسان الرفاعي: حينما لا تستطيع أن تسكت ولا أن تستقيل

-1-
يدهمنا الخواء النفسي حيناً، فتفقد الأشياء مضامينها الحقيقية، وتصبح كالهياكل العظمية، ويتفشى فينا، حيناً آخر، الملل الكثيف، فيتركنا فريسة عطالة ذهنية، تفصلنا عن أنفسنا والعالم الخارجي معاً. وقد تزحف علينا اللامبالاة، فتتساوى أمامنا قيم الخير والشر، وينهدم الجدار بين الحق والباطل. ‏

يحضرني هذا المشهد من رواية هنري ميللر (الربيع الأسود) كلما استبدت بي حالات الخواء النفسي، أو اللامبالاة: ‏

حينما دخلت على مدير مكتب البريد، كنت واثقاً من أنني سأرتكب حماقة قد أندم عليها كل حياتي. لقد بقيت، مسهد الجفن، طوال الليل، بسبب صرصار لم ينقطع عن الضجيج، وكنت متضايقاً وخائفاً وغاضباً. ‏

قلت لمدير المكتب: ‏

- هذه فرصتي السانحة. ‏

ونظر إلي بدهشة وقال: ‏

- فرصتك السانحة؟ ‏

سمرت عيني في عينيه وصرخت به: ‏

- نعم فرصتي السانحة لكي أهجم عليك، وأشبعك ضرباً. ‏

أتدري ما الذي يزعجني فيك؟ أنك وراء مكتبك دوماً، وأنك تعمل بنشاط دوماً، وأنك تتجاهلني دوماً. ‏

ما يثير في هذا المشهد هو عبثيته: ها هو رجل رزين في الأربعين من عمره، يقدم على التحرش بمدير البريد، القريب من منزله دون سبب، لقد حرمه صرصار من النوم، فتضايق وخاف ولم يجد مخرجاً للتخلص من توتره النفسي إلا باقتراف عدوان على رجل (روتيني) يمارس عمله بإخلاص ونشاط. ‏

وقد تلاحقت الكوارث على بطل رواية (الربيع الأسود) بعد حادثة التحرش إلى أن ينتهي به الأمر إلى الانتحار وقبل موته يترك ما يشبه الوصية: ‏

(منذ أن تفتحت على الدنيا، والصراصير تمنعني من النوم، صراصير من كل الأنواع والمقاسات والحجوم. كان لابد من التحرش بإنسان ما للتحرر منها، والتنعم بقسط وافر من النوم. الصراصير هي الحزن في عيون الأطفال، الخناجر في أيدي الجلادين، المال المتراكم في البنوك، اللصوص الذين يختبئون في دوائر الدولة، مستنقعات الدم الممزوجة بالوحل، ناطحات السحاب التي ستتساقط على رؤوس ساكنيها، ولا سبيل إلى التخلص من هذه الصراصير إلا بثقب الروتين الطاغي، إلا بالتحرش بإنسان يجسد هذا الروتين..). ‏

-2- ‏
وقد يدهمنا الامتلاء النفسي، فتنقلب أصغر الأشياء في نظرنا إلى كائنات حية، تؤثر وتضغط وتجرح، أو قد يستبد بنا (الحضور الكثيف) فتتوهج أدمغتنا توهجاً غير مألوف، فإذا بها تضيء عالمنا الداخلي وعالمنا الخارجي معاً. وفي مثل هذه الحالات ينشطر العالم إلى أسود وأبيض، إلى مقبول ومفروض، بلا مهادنة، ولا تسوية، وهنا يحلو لنا أن نعمل، وأن نتحرك، وأن نتخذ مواقف مبدئية واضحة، هنا نستعذب النضال والشهادة، ونرفض المصالحة أو التسوية. ‏

المشهد الآخر من رواية (فيفا زاباتا) للكاتب الأميركي جون شتيانبك التي كتبها يوم كانت ألفاظه سياطاً تجلد الظالمين والفاسقين. تحضرني دوماً، وأنا في حالات الامتلاء: ‏

(يدخل زبانية ديكتاتور مغتصب قرية هادئة مسالمة، ويبدؤون بتفتيش البيوت وسرقة الغلال وإطلاق الرصاص إرهاباً، وفجأة يسقط طفل على الأرض مضرجاً بدمائه، نتيجة إصابته برصاصة طائشة، فيتخبط بعض الوقت، وكأنه دجاجة مذبوحة، ثم ينقلب على قفاه، ويتجمد ولما تزل ابتسامته على شفتيه). ‏

ويتجمع عدد هائل من السكان حول جثة الطفل، والغضب ينفر من وجوههم، والدهشة تعقد ألسنتهم، يريدون أن يفعلوا شيئاً، أي شيء، ولكنهم لا يعرفون. ‏

فجأة يبرز شيخ بين الصفوف، ويرفع قبضته ويقول: ‏

(كان ينبغي أن نعرف أنكم قتلة. كان ينبغي أن نعرف أننا جميعاً مرشحون لأن نكون من ضحاياكم، كان ينبغي أن نكون ضدكم، وأن نقاتلكم، لا أن نبقى متفرجين، مشاهدين..). ‏

وتنطلق رصاصة من مكان ما، ويسقط الشيخ مضرجاً بالدماء، وتبدأ المجزرة بكل بربريتها وهمجيتها، بين جناة أعماهم الحقد الأهوج وسكان قرية أصبحت لهم (قضية كبيرة). ‏

-3- ‏
في نهاية الحرب العالمية الثانية أقدم مدير أحد الفنادق من الدرجة الثالثة في باريس واسمه (مارسيل دوهاميل) على إغلاق فندقه بعد اقترابه من الإفلاس، وانقلب إلى ناشر فجأة. كان متأثراً بنمط الحياة الأميركية، بالغزو الثقافي الأميركي، وتولد عنده اليقين بأن العالم الجديد بعد الحرب سيكون نسخة طبق الأصل عن (أسلوب الحياة الأميركية) أصدر سلسلة كتب سماها (السلسلة السوداء) واستهل إصداره الأول بهذه المقدمة: (سأقدم إلى القراء، في هذه السلسلة، قصصاً جديدة، فيها حب حيواني، وكراهية دون رحمة، وجشع للمال، وسعي محموم للسلطة، وتلذذ بالقسوة، وتفنن في القتل، ومطاردات ومشاحنات. أليس هذا ما يحلم به المواطنون، فلماذا الخوف من المجاهرة به؟). ‏

وكتب على الجانب الآخر من الغلاف: (أظهرت الحضارة الأميركية سطوة الفساد في الحياة العامة من جهة، وإغراء الجريمة من جهة ثانية. لقد أسقطت آخر المحرمات وقضت على الشعور بالخجل، ومن هنا أهمية الكتب التي سأنشرها: إنها ستحرر الإنسان من عقده، وستميط اللثام عن نوازعه الدفينة من دون خجل..). ‏

واستمرت دار غاليمار الرصينة تنشر الروايات السوداء، بمعدل خمس روايات كل شهر، منذ ما يقارب الـ 50 عاماً، وهي اليوم تحتفل بعطائها، وبنجاحها، وإقبال الناس عليها. ‏

ويقول مدير الدار: (لولا الروايات السوداء لأعلنت إفلاسي. إنني أستخدم الأرباح التي أجنيها من نشر الروايات السوداء، لتغطية نفقات الكتب الرصينة الجادة..). ‏

-4- ‏
البارحة كنت أتجول في معرض متواضع للكتب، فلفت نظري جمهور غفير احتشد أمام جناح متواضع، وكان رجل لا يخلو من وسامة ووجاهة يتحدث، وهو يحرك يديه بعصبية زائدة، وأثناء ذلك، كان يوقع على كتاب غلافه أسود وبعنوان أصفر يقول: (لن تهرب مني، سأحز رقبتك بشفرة حلاقة..). ‏

وكان عدد من المعجبين يصفق له بين الحين والآخر. كان يقول: (مسرح روايتي الجديدة العواصم العربية، إنها اليوم المكان المفضل للروايات البوليسية السوداء: هناك أثرياء متخمون، ومتآمرون، ونساء شهوانيات متعطشات للمغامرة، وتجارة أسلحة، وعصابات قتل، وسرقة، ورشوة، ومطاردات في الشوارع الضيقة، وطائرات تحطّ في مطارات صحراوية ومخدرات، إلخ..). ‏

وقال لي الطاهر بن جلون وكان يرافقني في زيارة المعرض: ‏

(لماذا التفجع؟ لقد سقط جدار برلين وساد اقتصاد السوق وانتصرت الديمقراطية الأميركية، والتطبيع على الأبواب، والانفتاح يرغمنا على خلع ملابسنا الداخلية، وأين أدباؤنا الكبار ليقدموا لنا الرواية العربية السوداء؟). ‏

-5- ‏
يتخذ الواحد منا قراره بالانسحاب، إما بدافع التقدم في السن، أو بعد اقتناعه باللاجدوى، أو بسبب التعب والإرهاق، ويضع خطة لبرمجة الانسحاب، واختيار مكان للاستجمام يتوافر فيه شرطا الهدوء والنظافة. وفجأة يسرقه عنوان مثير من صحيفة أو مشهد داعر على شاشة التلفزيون، أو مشاجرة فكرية في مركز ثقافي، فتتجمد الخطة، ويسحب (الانسحاب) وإذا به يشعر من جديد بأنه مناضل مراهق وأن خندق المقاومة في انتظاره. يرفع قبضته، ويبصق على الأرض، ويشتم الزمان والأوغاد ويهتف حانقاً: (ولو بقي في حياتي شهر أو حتى أسبوع، فلن أسكت، ولن أبتعد..!). ‏

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...