غسان الرفاعي: المتصوف الراحل والنطاسي الشجاع

11-04-2011

غسان الرفاعي: المتصوف الراحل والنطاسي الشجاع

-1-
ما أحوجنا في هذه المناخات المدلهمة السوداء إلى صوت عاقل متزن كصوت المستشرق الفرنسي النزيه (جاك بيرك) ليذكرنا بأن الحضارة العربية قد حملت إلى العالم الكثير من الدسم والثراء، وأن التنكر لها هو (عقوق مجرم) لا يجوز التستر عليه. لقد مرت ذكرى هذا المفكر النزيه بصمت، ولكن بعض أصدقائه أفردوا له أمسية، أشعرتنا بأن الوفاء مازال قيمة إنسانية سامية. ‏

لقد اختفى كشمعة ذابلة من دون أن يخلف وريثاً، قضى «كشجرة سنديان بلا أغصان في العراء» وقبل رحيله بيومين، قال بلغة عربية متألقة: «عشرون عاماً وأنا أحاول أن أنقل سحر القرآن إلى الفرنسية، تعثرت وتخبطت، ولكنني أنجزت الوعد، وأنا على مشارف المغيب، وها أنا استكين راضياً مرضياً». ‏

أكان (جاك بيرك) آخر عمالقة الاستشراق النزيه، على علم بدنو أجله، حينما أفضى باعترافه هذا. هل كان يكتب وصيته حين أعلن: «نعم، أنا معجب حتى الذهول، بهذه الحضارة الإسلامية العربية التي قد لا تروقكم، نعم، أنا مسكون حتى الفجيعة بهذا الشعب العربي الكبير، الذي يحاصر، ويهان، ويسحب من التاريخ، على أقساط!». ‏

-2- ‏
قرية سان جوليان في منطقة اللاند ‏

كان (جاك بيرك) جالساً وراء مكتبه المتواضع، ملتفاً بعباءته الشرقية المذهبة، وراءه وحوله تلال من الكتب القديمة والحديثة، وعلى الجدران لوحات فنية شرقية، يغلب عليها الطابع العربي، وفي كل مكان أوان نحاسية مزركشة بخطوط عربية كوفية، وأرائك صغيرة مصنوعة من وبر الإبل. ‏

قال لي وهو لا يخفي مرارته وغضبه: ‏

«أنا أعيش ازدواجية تسلمني إلى ما يشبه انشطار الشخصية: حينما أبقى حبيس مكتبي، ومع دواوين شعركم، ومؤلفات حكمائكم وفلاسفتكم، أرقى إلى أعلى درجات التصوف، والعشق الإلهي، وحينما أزور عواصمكم، وأتحدث إلى زعمائكم، أهبط إلى أدنى درجات الإسفاف والفجاجة، ويخيل إلي أنه لا يوجد إلا تفسيران لفهم هذا التباين الصارخ: إما أنكم لا تستحقون الرسالة الإلهية التي هبطت عليكم، وإما أن الرسالة ليست للبشر وإنما للملائكة، السؤال الكبير الذي يؤرقني: هل إنكم مطاردون بلعنة إبليس، أم أنكم حمقى تفرطون بكل شيء بكل مخزونكم الروحي والثقافي. ‏

وقلت له، وقد أثارتني نظريته عن الازدواجية – العبثية: «الفجيعة أن رسالتنا كانت دوماً محاصرة، مطوقة، وقد يكون الاتساخ في مجتمعنا المدني هو نتيجة «لرفض الآخر»، أو على الأصح لإصرار الآخر، وهو دوماً أنتم في الغرب، على تصفيتنا كهوية أو رسالة!». ‏

وقاطعني، وقد ظهرت عليه إمارات الرضى: ‏

«نعم، الرغبة في التصفية عندنا فيزيولجية إلى حد ما: الحروب الصليبية مع ما تحمله من كراهية وأحقاد، الفتوح الاستعمارية مع مارافقها من عنجهية ومصالح، واليوم هذا السعير ضد الأصولية في محاولة لتعبئة الرأي العام ضد «خطر أخضر» مزعوم بعد زوال «الخطر الأحمر». ‏

صمت، ثم فاجأني بهذا الاعتراف المذهل: ‏

هل تدري أن الفضل في إنجاز الترجمة الفرنسية للقرآن يعود إلى أديبكم الكبير الدكتور «عبد السلام العجيلي» لقد كشف أن سحر القرآن اللغوي لا يظهر إلا حين الاستماع إليه مرتّلاً. أهداني تسجيلات كاملة للقرآن الكريم بصوت المقرئ «عبد الباسط عبد الصمد» كنا نجلس معاً ساعات طويلة نستمع معاً إلى ترتيل القرآن، وهو يشرح لي بإيجاز وذكاء نادر أين يكمن الإعجاز اللغوي. لقد اتيح لي أن أقرأ الترجمات الفرنسية التسع للقرآن، ولكنني لم أعثر على سر البلاغة والإعجاز وأزعم اليوم أنني توصلت إلى اكتشاف هذا السر، في ترجمتي التي يتداولها القراء اليوم، ولولا مساعدة الدكتور «عبد السلام العجيلي» لتعذر عليَّ تحقيق هذا الإنجاز. ‏

-3- ‏
باريس – شارع بونيتو- الدائرة الثامنة ‏

كان «جاك بيرك» حريصاً على أن يساهم في تحرير مجلة (نور – سود) التي كنت أصدرها في باريس باللغة الفرنسية لتكون منبراً للحوار بين الشرق والغرب، بين الشمال والجنوب، وواحة اللقاءات بين مثقفي ضفتي المتوسط. ‏

كان يأتي إلى مكتبي في شارع بونيتو، حاملاً مقالاته بنفسه، وكان يحلو له أن يطرح بعض خواطره الطازجة قبل تسليم المقال، بتواضع وسخرية معاً. أذكر أنه حدثني مطولاً عن الدكتور «عبد السلام العجيلي» رحمة الله عليه – بعد أن قرأ مقابلة معه أجرتها السيدة «ذاكري»، المحررة في المجلة، في بلدته في الرقة، فقال: ‏

«حينما كانت حرب الجزائر على أشدها تدفق عدد كبير من الجزائريين إلى فرنسا ليستوطنوا فيها، وخاصة في ضواحي باريس، كنت أناضل، كتابة وخطابة، دفاعاً عن حق الجزائري في أن يكون «مختلفاً» عن الأوروبي، بسبب انتمائه إلى حضارة وتقاليد اجتماعية، ورؤيا كونية مختلفة. وقد نبهني الدكتور «عبد السلام العجيلي» إلى ضرورة إسقاط هذا الاختلاف، لأن الغرب عامة، وفرنسا خاصة، قد استغلت هذا الاختلاف لخلق «غيتو» إسلامي داخل المدن، بهدف عزل المسلمين الجزائريين وعدم إدماجهم في الحياة العامة، وممارسة التمييز العنصري ضدهم، وقد اقتنعت بوجهة نظره، إذ كان عليَّ أن اختار بين الاندماج الحضاري مع المحافظة على الهوية الخصوصية، وبين «الغيتو العنصري» فأنا لا أتردد: أختار الاندماج والتواصل، وهذه مأثرة من مآثر الدكتور (العجيلي). ‏

-4- ‏
باريس مطعم «شي ليب» في حي سان جرمان دوبري ‏

كان الدكتور «العجيلي» يزور باريس كل عام تقريباً، حاملاً معه كالعادة حكاياه المنتقاة عن ظرفاء دمشق، وأقاصيصه المختارة من التراث العربي، وذكرياته الطازجة المستوحاة من حياته الروتينية في مدينة الرقة، وغزواته الثقافية في البلدان العربية، ولقاءاته مع الشخصيات النافذة، ومحفوظاته المذهلة للشعر القديم والحديث: المعلقات، المتنبي، أبو العلاء المعري، بدوي الجبل، ‏

عمر أبو ريشة، نزار قباني، رامبو، بودلير، وكانت له طقوس لا يبدلها: وجباته يتناولها في مطعم «شي ليب» ملتقى رجال الفكر والفن والمسرح، ويشرب قهوته في مقهى «الفلور»، المكان المفضل للفيلسوف «جان بول سارتر» وشلته من الوجوديين، ومكتبته المفضلة مكتبة غاليمار، أعرق مكتبات باريس وأكثرها ثراء وتنوعاً وكان لا يبارح الحي اللاتيني، وكان يهاتفني ساعة وصوله إلى باريس فنتواعد، ونجتمع ونهيم على وجهنا، ونتبارى على «النم»: هو يحدثني عن الأصدقاء «المستنقعين في الوطن»، وانا أحدثه عن «المغتربين، الفارين من الوطن» كان سلس الحديث، حاضر البديهة، مفعماً بروح السخرية والدعابة، فيه الكثير من نقاء البدو، ودهاء سكان المدن، وكان يقول دوماً: أهلي في الرقة يقولون أنني قد اقتبست من «الشوام» الكثير من الخصال المتبرجزة، وأصدقائي في دمشق يقولون لي انني مازلت بدوياً «متخلفاً». ‏

-5- ‏
كان يحلو للدكتور (العجيلي) – رحمة الله عليه- أن يجلس في ركن قصي من تراس «الفلور» يستعرض طوابير المارة، الذين لا يتوقفون عن الحركة العبثية، وكنت ألتقط ملاحظاته اللاذعة بكثير من الانتباه: «أرأيت إلى هذه الفتاة الممشوقة، إنها أشبه ما تكون بالناقة، وعجزيتها؟ إنها كطنجرة بخارية قديمة! وهذا الأصلع ذو الأنف الطويل كمنقار غراب، والفم المشقوق وكأنه ثقب مفتاح، تمعن في صدر هذه البارجة القادمة، إنها ليست بحاجة إلى طاولة لتناول طعامها، يمكن أن تستخدم صدرها، فهو يتسع لعدة صحون..» وكان يعجن هذه الملاحظات العابرة بذكرياته عن مقهى البرازيل في دمشق كان يردد: رحمك الله، يا مقهى البرازيل، كل زبائنه رحلوا، ودورنا آت، «سعيد الجزائري» الملقب بورشة متحركة لصنع الأدباء الشباب، «صلاح المحايري» الذي يتأبط كتابين كل يوم، أحدهما بالانكليزية، والآخر بالألمانية، لا يعرف أحد لا عنوانهما ولا اسمي مؤلفهما، ثم ان الشاعر الكبير الصافي النجفي «صديق الجواهري» والقمل عماً، كان دائماً يخرج من مخزونه الشعري عدة أبيات من الشعر الجيد وينشدها بأناقة وإعجاب، وفجأة يروي لك ما حدث له حينما كان وزيراً للخارجية، ثم وزيراً للاعلام والثقافة ويعود إلى استشهادات من كتاب البخلاء للـ«الجاحظ» مصحوبة بنقد لاذع لأوضاعنا المتردية في العالم العربي من محيطه حتى خليجه.... ‏

-6- ‏
باريس – قاعة المحاضرات في معهد العالم العربي ‏

حشد كبير من رجال السياسة والثقافة والفن، وصورة كبيرة مجللة بالسواد لـ«جاك بيرك» في صدر القاعة، وفوقها «بيرك، العاشق المتصوف»، ومنبر يتعاقب عليه أساتذة جامعيون وسياسيون وكتاب. ‏

المناسبة هي: تأبين «جاك بيرك» في ذكراه الأولى. ‏

وقال عريف الاحتفال، وهو يقدم الدكتور «عبد السلام العجيلي»، رحمه الله: كان (بيرك) يسميه صديقه الوحيد، كان يعترف بفضله، وغزارة معلوماته، كتب عنه في مقدمة ترجمته الفرنسية للقرآن الكريم، كان (العجيلي) ربان السفينة التي ركبتها لأشق طريقي في أوقانيوس اللغة العربية الغنية السخية، وكم أنقذني من الغرق، كان يجالسني، ونقرأ معاً شعر المعلقات، والمتنبي، وأبي العلاء المعري، وكنا نستمع، في خشوع إلى ترتيل آيات القرآن الكريم بصوت مقرئ كبير، وكان رائعاً في تفسيراته وشروحه، هذا الطبيب البدوي، السياسي الحاذق، الأديب اللامع، الشاعر الموهوب، أدخلني إلى جوف حضارة ساحرة، وأسكنني بساتين معطرة مازلت استنشق رائحتها الزكية. ‏

وتقدم الدكتور (العجيلي) من المنبر بهدوء، وارتجل كلمة بلغة فرنسية، تغلب عليها اللكنة البدوية، وفتح امامنا أضمومة ذكرياته مع (بيرك) في الرقة، ودمشق، وباريس، والقاهرة. وروى لنا، بأسلوبه الممتع الفريد، نثاراً من المفارقات التي كان يعيشها مع «بيرك» وكان مما قاله: صدقوني «بيرك» هو بدوي من العصر الجاهلي، أشبه ما يكون بـ«طرفة بن العبد»، لم يكن يشعر بالامان إلا إذا ذاع في الصحراء العربية، ولم يكن يطرب إلا بالاستماع إلى الشعر العربي، وكم تغنى معي بشعر «بدوي الجبل» و«عمر أبو ريشة» و«نزار قباني». ‏

-7- ‏
كان الاستشراق ذات يوم في خدمة الفتوح الاستعمارية كما أثبت لنا (إدوارد سعيد) في كتابه الموسوعي عن الاستشراق، وهو اليوم مرشح لخدمة النظام العالمي الجديد، والهيمنة التكنولوجية الغربية، وقد يمر وقت طويل قبل أن يظهر مستشرق نزيه فاضل مثل (جاك بيرك)، يناضل بوفاء لإقامة تكاملية بين ضفتي المتوسط، وحوار غني صادق بين الشرق والغرب. ‏

لقد تجرأ عدد من الأصدقاء الفرنسيين والأوروبيين في نهاية الأسبوع المنصرم، على الاحتفال بذكرى غياب جاك بيرك، والتحدث بشفافية عن آثاره وكتبه، وكثافة حضوره في الساحة الفرنسية، وشعر الجميع كم كان غيابه عنا فاجعة، في وقت يتلاطم فيه «صراع الحضارات» - كما يزعم – وتشتد حملات التشويه والابتزاز ضد العرب. ‏

ورحم الله أديبنا الكبير الدكتور (عبد السلام العجيلي) الذي أثبت عبر صداقته بـ(جاك بيرك)، أصالته العربية، وسمو ثقافته الرصينة، وعلو مكانته الإبداعية، إننا نفتقد الرجلين، اليوم، أكثر من أي وقت مضى، ونشعر بحاجتنا الماسة إليهما، ونحن نخوض معارك الكراهية، والافتراء والترويع الحضاري. ‏

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...