غازي أبو عقل: لغة الصحافة

02-03-2010

غازي أبو عقل: لغة الصحافة

الجمل- غازي أبو عقل: نعرف كلنا بعد أن عولَمتنا القنوات المرئية فضائيا, أن من الأفلام ما ينتمي إلى فئة «الحركة» أو «الإثارة»-أكشن-بالعربية الدارجة هذه الأيام. ولما كانت الصحافة الورقية المقروءة قد ولدت قبل تلك المتلفزة. بما لا يحصى من السنين, فإنها عرفت قبلها تأثير ال"أكشن" على أكثرية القراء. ومن اهتم بتاريخ الصحافة لديه من الأمثلة ما يفيض عن حاجته. تتجلى الإثارة في الجرائد المكتوبة, أكثر مما تتجلى في العناوين, سواء وضعت على الصفحة الأولى أم في غيرها من الصفحات, لأنها مصنوعة لاجتذاب القارئ وانتباهه واهتمامه أيضا. لست في صدد الاستفاضة في هذا الشأن فهو معروف لقراء الصحف. أود العودة إلى يوم أمس السادس والعشرين من شباط من السنة العاشرة بعد الألفين, عندما تناوَلَتْ «جريدة لبنان في الوطن العربي» فوجدتُ على الصفحة الأولى هذا العنوان بالخط العريض «السفارة الأميركية تتنصت على كل لبنان»-معلومات خطيرة نضعها أمام رئيس الجمهورية والحكومة والمجلس النيابي- لن تفوتني الإشارة إلى أنه كان ينبغي لمحرر العنوان أن يكتب «على لبنان كله» لا «على كل لبنان» بصفته محررا في جريدة الوطن العربي في لبنان أيضا. ليس هذا التعامل «المثير» مع اللغة العربية مقصدي, بل أريد أن أحكي لمن "يهمه الأمر" في جريدتنا العزيزة هذه الحكاية:
هنالك نائب سويسري يساري اسمه جان زيغلر, برز في العقود الثلاثة المنصرمة من السنين, وكتب عدة كتب اشتُهرت, منها كتاب «سويسرا تغسل أكثر بياضا» مستعيدا جملة إعلانية لمسحوق الغسيل المعروف «أومو» أو «برسيل» ربما لكي يسخر من وقار السويسريين المصطنع واتباعيتهم المحافظة, وانتفاع مصارفهم من أموال الحسابات السرية القادمة في أكثريتها من مصادر مشبوهة, لذلك فهي تحتاج إلى غسيل بمنظف قوي التأثير. على أية حال, فإن من يتابع أسبوعيات الصديق الدكتور غسان الرفاعي في تشرين لا بد له من تكوين فكرة ما عن زيغلر «غير المتزن».
المهم أن زيغلر في كتابه المنوه به, والذي نشر منذ نحو عشرين سنة, أشار إلى محاولات دول كثيرة ووكالات تجسس, الحصول على معلومات عن المودعين وخرق جدار السرية المصرفية.
أسهب زيغلر في وصف الجهود المبذولة من أجل الوصول إلى الهدف, وكان أكثر ما لفت انتباهي في الكتاب وصفه لمنظومة «التنصت والرصد والمتابعة» التي وضعتها الولايات المتحدة في سويسرا من أجل الحصول على المعلومات.
الأنظومة ضخمة ومعقدة ولست في صدد وصف تفاصيلها كما ورد بعضها في الكتاب. إلا أنني أود الاكتفاء بهذه الحكاية التي حكاها زيغلر, رغبة في التخفيف من غلواء عناوين الرصيفة اللبنانية الوقور.
كتب زيغلر شارحا قوة أنظومة تنصت الولايات المتحدة التي أقامتها لا في سويسرا الشرق المتفسخة, بل في سويسرا الغرب المتماسكة, فقال: لو أن المدير العام لاتحاد المصارف السويسرية U.B.S اتصل بنائبه عبر الهاتف الداخلي, واستدعاه إلى مكتبه, وجلس الرجلان وتبادلا حديثا هامسا, ففي وسع الأميركيين سماع ما دار بينهما.
كان هذا في بدايات ثورة وسائل الاتصال, فماذا يظن محرر العناوين المثيرة بما هي عليه الحال في هذه الأيام؟
المدهش أنهم لا يقرؤون في رصيفتنا العزيزة –على ما يبدو-وإلا فأين كانوا منذ سنوات وسنوات يوم امتلأت وسائل الإعلام بأخبار أنظومة التنصت والرصد والاستطلاع التي وضعتها الولايات المتحدة بالاشتراك مع نيوزيلانده وأستراليا وبريطانيا, وأطلقت عليها اسم (ECHELON إيشلون) ومهمتها تغطية الكوكب الأرض بكامله, بما فيه الصين الفسيحة والعشرة آلاف وأربعمائة كيلو متر مربع –وأقل من خمسين كيلومتر ربما- حيث تنبري الرصيفة العزيزة, بعد أكثر من ثلاثة عقود على إذاعة إمكانات إيشلون التي لا حدود لها إلى وضع «معلوماتها الخطيرة» التي انقضت مفاعيلها واندثرت, بتصرف المسئولين في لبنان, الذين يعرفون ولا شك أكثر بكثير من صحافة الإثارة والأكشن.
لماذا لا أُذكِّر رصيفتنا العزيزة بأقمار التجسس الإسرائيلية الخمسة أو الستة-عدت لا أذكر عددها–التي "تتنصت" آناء الليل وأطراف النهار على جيراننا في لبنان. يخيل إلي أن مبرمج هذه الأقمار قد استثنى رصيفتنا العزيزة من فضول أقماره, ورجاها ألا تقترب من مكاتب محرريها المهتمين بالعناوين, لانتفاء الفائدة من معرفة معلومات لا طائل تحتها, إلا إقدام السُذّج مثلي على شراء الصحيفة من أجل حل كلماتها المتقاطعة التي لا تهتم بالتفكير إلا نادرا, بسبب تفضيلها التحزير بالزين, وهو مثل التحذير -بالذال- الذي تطلقه متأخرة جدا, لا يقدم ولا يؤخر..

الجمل

إقرأ أيضاً:

غازي أبو عقل: حول لغة الجرائد وذبابة المواصلات

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...