عام السينما رغم الأحداث

28-12-2006

عام السينما رغم الأحداث

ينتهي عامٌ، ويبدأ آخر. تستمرّ الحياة اللبنانية في إقامتها الإجبارية في بؤسها والشقاء. تُستنفر عصبيات القبيلة والطائفة. ترتفع جدران العزلة في الشوارع والقلوب. تزداد أحقاد الناس والمجتمعات الضيّقة. ينتظر كثيرون خلاصاً من قدر أو قوة غيبية أو تبدّل في أحوال الدنيا. لكن الغد محفوف بمخاطر لا تقلّ عنفاً وقسوة عمّا يعانيه اللبنانيون اليوم.
توقّفت آلات العرض السينمائي عن العمل أياماً عدّة، كانت عصيبة على الجميع. اندلعت حربٌ لم يرغب فيها لبنانيون عديدون، وتعطّلت لغة الكلام والحوار بين كثيرين. مع هذا، قاومت صالات، وعُرضت أفلامٌ، وتألّق سينمائيون لبنانيون في تحدّياتهم الجميلة ضد الحرب والموت والفراغ والعتمة.
هذه قراءة عامّة تطال المشهد السينمائي اللبناني في خلال عام كان، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والإعلام والأمن، استكمالاً قاهراً ومؤلماً للعام الذي سبقه.
اندلعت حرب تموز، وأتت إسرائيل على بعض ما ومن بقي حيّاً في لبنان، بعد أن «نجح» لبنانيون كثيرون في تخريب ما لديهم. التهمت النار بيوتاً وطرقات وأناساً كثيرين. وقع القهر. تألّم جمعٌ من اللبنانيين المؤمنين بالحياة طريقاً لمقارعة الظلم والجريمة. وجد سينمائيون لبنانيون أن السينما أفضل أداة لمواجهة ثقافة القتل والتدمير. افتُتحت صالة للفن والتجربة (متروبوليس) قبيل بدء الفلتان الهمجي للصراع الدائر في جنوب لبنان. أقيمت مهرجانات محلية في مواعيدها المحدّدة قبل ذاك اليوم المشؤوم. أُنجزت أفلامٌ جديدة، تناول بعضها واقع الحال اللبناني في ظلّ الحرب اللعينة وتداعياتها المختلفة. عُرضت أفلامٌ روائية طويلة في الصالات التجارية. شارك بعضها في مهرجانات سينمائية عربية ودولية، ونالت أكثر من جائزة. توقّف سينمائيون عن العمل لوقت قليل، لكنهم ثابروا على إكمال مشاريعهم. أرادوا إنتاجاً يُعينهم على تنفيذ شيء من أحلامهم الفنية والثقافية. أرادوا لقاء مع مُشاهدين لبنانيين قادرين على التفاعل ومضامين أعمالهم، شرط أن يسود بين الجميع حوارٌ عقلانيّ.
على الرغم من الحرب الإسرائيلية الأخيرة، ومع تنامي التشرذم العنيف بين اللبنانيين منذ مطلع الشهر الجاري، ظلّت السينما ملجأ متواضعاً، وإنجاز الأفلام سمة عيش، ومنح بعض النتاج المحلي فرصة العرض الجماهيري تمرينٌ على تقارب مطلوب بين اللبناني وسينما تعكس واقعه وعالمه وفضاءه الإنساني، وتنير شيئاً من عتمة الطريق، وتحرّض على النقاش والإحساس والتساؤل.
عروضٌ تجاريةٌ
ثلاثة أفلام روائية طويلة عُرضت تجارياً في خلال العام الآيل إلى الأفول والسابق عليه: «يوم آخر» للثنائي جوانا حاجي توما وخليل جريج، «أطلال» لغسان سلهب و«فلافل» لميشال كمّون. تنوّعت المضامين. غاصت الأشكال في تجارب مختلفة. التقط السينمائيون نبض حياة لبنانية مصنوعة في ليل مدينة مشحونة بالقهر والألم والتمزّق. ساهمت الأفلام في تسليط ضوء إنساني ما على واقع لبناني. ساهمت في حثّ مُشاهدين مهتمّين على إعادة طرح أسئلة الفرد والذات والجماعة. لم تنجح الأفلام الثلاثة تجارياً. هناك مشكلة لا تزال قائمة بين اللبناني والسينما المصنوعة في لبنان. أي بين اللبناني وأفلام تتناول حضوره في المجتمع وعلاقاته بذاته والآخر. لم يتجاوز عدد مُشاهدي «يوم آخر» سبعة آلاف (تقريباً). انفضّ المشاهدون اللبنانيون عن «أطلال» (أقلّ من 450 مُشاهداً فقط)، في حين أن «فلافل» مستمرٌ في عروضه المحلية محاولاً استقطاب عدد أكبر من ذاك الذي بلغه في ثلاثة أسابيع (نحو ستة آلاف مُشاهد). تناول الثنائي حاجي توما وجريج سؤال المخطوفين المفقودين، وناقش سلهب التحوّل الخطر الذي تعانيه المدينة وناسها، وذهب كمّون إلى عمق الأحاسيس المتناقضة والقلقة التي يقيم فيها جيل من الشباب اللبنانيين المعلّقين في المسافة المفتوحة على المجهول، بين نهاية مزعومة لحرب ملتبسة ومنقوصة وسلام هشّ ومفكّك. بمعنى آخر، غرفت الأفلام الثلاثة بعضاً من هموم الفرد والجماعة، في لحظات مصيرية لا يزال اللبنانيون يواجهون مآزقها وانكساراتها. غير أن هؤلاء اللبنانيين لم يرغبوا، جميعهم، في مشاهدة صُوَر تعكس تشرذمهم وألمهم وتيهانهم وسط فوضى الآنيّ والتباس المُقبل من الأيام. فضّلوا تمضية وقت ضائع في متابعة تفاصيل رحلة سياحية في لبنان جميل (!) وملوّن (!)، مُستقلّين «بوسطة» فيليب عرقتنجي (نحو 140 ألف مُشاهد)، لأنهم اعتبروا أن لقاءً بصرياً بينهم وبين نجوم أحبّوهم كثيراً (كندين لبكي وندى أبو فرحات ومحمود مبسوط وليليان نمري وآخرين)، من دون أن يُتعبوا أنفسهم بطرح أسئلة أو بإعادة ترميم واقع يعيشون فيه لفهمه أو لمحاولة فهمه، «أهمّ» من الجلوس في عتمة صالة لمُشاهدة أفلام حكموا عليها مسبقاً بأنها «قد» تقودهم إلى مزيد من القلق والألم.
لعلّ أسوأ تبرير يسوقه لبناني في معرض حديثه عن فيلم لبناني، كامن في مقولة مزعجة، مفادها أن «على اللبناني مشاهدة فيلم لبناني لتشجيع الصناعة الوطنية». هذه إساءة للفيلم اللبناني، على الرغم من أن السينما صناعة متكاملة تجمع الفن والإبداع والثقافة والمخيّلة بالصناعة والاقتصاد والتجارة. غير أن المُشاهد اللبناني المذكور لا ينتبه إلى هذه التفاصيل، ولا يكترث بأي جانب من الجوانب المتكاملة في «صناعة» الفيلم البناني. يظنّ، ببساطة، أن مشاهدة فيلم لبناني واجبٌ وطنيٌ وأخلاقيٌ مفروضٌ عليه. لهذا، يُفترض بالجميع تحرير الفيلم اللبناني (والثقافة والفنون أيضاً) من هذا الواجب الوطني القومجي. لا أذهب إلى صالة سينمائية لمُشاهدة فيلم ما، بسبب جنسيته. لا أريد تشجيع الصناعة المحلية بهذه الطريقة المسطّحة والمفرّغة من أي وعي ومعرفة. لعلّ السينمائيين اللبنانيين لا يأبهون كثيراً بوجهة نظري هذه، لأنهم يريدون أكبر عدد ممكن من المشاهدين. لا بأس بهذه اللعبة. لكني لا أقبل هذه «الوطنية» الاستعراضية الباهتة، ولا أرى إلى الفيلم اللبناني من منظار ضيّق كهذا. تماماً كما لا أقبل مقولة أخرى لا تقلّ سذاجة وبهتاناً عنها: إن فوز فيلم لبناني بجائزة ما في مهرجان معيّن، يعني فوزاً للبنان. أية حماقة هذه، تلك التي تُلغي جهداً كبيراً بذله السينمائي لإنجاز فيلمه، في ظلّ لامبالاة فظيعة من القطاعين الخاص والعام، وفي ظلّ غياب جماهيري. لكن، عند حصوله على جائزة، ترتفع أصوات «الوطنية القومجية» تلك، مهلّلة لفوز لا علاقة للبنان الرسمي والخاص به، لا من قريب ولا من بعيد، وينتبه بعض المسؤولين الرسميين إلى ضرورة «تكريم» السينمائي وفيلمه، متناسين التجاهل الذي ساقوه إزاءهما سابقاً.
تنويعات في الشكل والمضمون
لا يقتصر النتاج السينمائي اللبناني الجديد على الروائي الطويل فقط، ولا يُختزل العرض التجاري به. أفلام روائية قصيرة ووثائقية أنجزت، منها «إلى اللقاء» لفؤاد عليوان (كتب الزميل بيار أبي صعب في «الأخبار»، قبل أيام قليلة، أن أحداً من النقّاد لا يهتمّ بهذا الإنجاز السينمائي، مع أن هؤلاء النقّاد القلائل أصلاً في الصحافة اللبنانية لا يتغاضون عن أي نتاج سينمائي، فكيف إذا كان من صنع مخرج كفؤاد عليوان، لا يزال يلعب دوراً ثقافياً وفنياً، إلى جانب إيلي خليفة مثلاً، في تفعيل البُعد الإبداعي والاجتماعي للفيلم اللبناني القصير). غير أن مشكلة هذا الفيلم، والأفلام القصيرة كلّها، كامنة في غياب حيّز جماهيري واضح وثابت لها، أي في غياب علاقتها المباشرة بالمُشاهدين. فالصالات التجارية لا تزال مقفلة أمامه (علماً أن «هوا بيروت»، الفيلم الروائي القصير السابق لعليوان أيضاً، عُرض تجارياً لفترة قصيرة، كانت سابقة ناجحة إلى حدّ ما، من دون أن يجرؤ أي موزّع لبناني على تكرارها للأسف، لغاية اليوم على الأقلّ)، والغالبية الساحقة من المحطّات التلفزيونية اللبنانية والعربية، الفضائية والأرضية، لا تزال منفضّة عنه (هناك تجربة خاضتها، ولعلّها لا تزال تخوضها، محطّة «الشاشة»، بعرضها أفلاماً قصيرة مصرية أولاً وأساساً، وعربية في مرتبة ثانية، وبين حين وآخر). على الرغم من هذا كلّه، فإن تجربة الفيلم الروائي القصير اللبناني تحديداً (والعربي أيضاً) محتاجةٌ إلى مواكبة نقدية أكبر، لما فيها من سمات إبداعية وتفاصيل تجديدية تستحقّ الاهتمامين النقدي والجماهيري.
إن غياب الاهتمام التجاري (والجماهيري) بالفيلم الروائي اللبناني القصير لا يختلف أبداً عن غياب الاهتمام نفسه بالفيلم الوثائقي. الصالات مقفلة أمامه، في حين أن سوقه الأساسية هي المحطّات التلفزيونية. غير أن صالة «متروبوليس» («مسرح المدينة»، سارولا سابقاً)، التي شكّل افتتاحها في الحادي عشر من تموز الفائت تبدّلاً متواضعاً في علاقة السوق التجارية بالأفلام المختلفة، والتي كافحت طويلاً لتأكيد حضورها في المجتمع اللبناني كصالة لعرض التجارب السينمائية المتنوّعة، منحت الفيلم الوثائقي فرصة جدّية لتواصل حقيقي بينه وبين المُشاهدين، باختيار الفيلم الأخير لمي المصري «يوميات بيروت: حقائق وأكاذيب»، المستمرّ في عرضه التجاري حتى يوم غد الجمعة (هناك إمكانية لتمديد عرضه إلى الأسبوع المقبل أيضاً)، لاستقطابه عدداً كبيراً من المُشاهدين المهتمّين بالاطّلاع على الموقف السياسي والسينمائي للمخرجة من واقع لبناني نشأ باغتيال رفيق الحريري في الرابع عشر من شباط .2005 فللأسبوع الثالث على التوالي، يحتشد جمهور كبير في الصالة المذكورة لمُشاهدة الفيلم، ولمناقشته بعد عرضه، في مناخ يستلهم من ذاكرة شارع الحمرا وبيروت معاً بعض عناوينها، حين كانت صالات الشارع تفتح أبوابها أمام أنماط سينمائية مختلفة، تُعرض أمام مشاهدين شغوفين بالمُشاهدة والنقاش.
بعيداً عن التشنّج السياسي الحاصل، والهلع اللبناني من بداية عام آخر يحمل إليهم مزيداً من البؤس والشقاء، هناك من ينتظر تنفيذ مشاريع سينمائية جديدة: من برهان علوية الذي يُتوقّع عرض فيلمه الأخير «خلص» قريباً، وصدور خمسة أفلام قديمة له بنسخ في«ديو ديجيتال»، بفضل جهد حقيقي قام به شباب «نادي لكل الناس»، الذين سخّروا إمكانياتهم المتواضعة لتفعيل التواصل الثقافي والفني بين اللبنانيين والسينمائيين اللبنانيين، إلى ثلاثة مخرجين آخرين يبدأون تصوير أفلامهم الجديدة في الشهر المقبل (رندة الشهّال صبّاغ وهاني طمبا ودانييل عربيد)، في حين أن الربع الأول من العام الآتي يشهد الانتهاء من إنجاز فيلمين روائيين طويلين لإيلي خليفة وشادي زين الدين، علماً أن مشاريع وثائقية مختلفة يُفترض بها أن تُنجز قريباً أيضاً.
- ينتهي عامٌ، ويبدأ آخر. لا أحد قادرٌ على تأكيد ماهية المقبل، لأن هناك صعوبة كبيرة في تحديد حقيقة ما جرى في العام المنصرم. فهم الواقع صعبٌ هو الآخر. التنبؤ مستحيل. مع أن شعوراً عاماً يقضّ مضاجع كثيرين، يفيد أن حرباً ما قد تقع بين اللبنانيين، أو على الأقلّ مزيداً من الغليان والتشنّج والتمزّق والعزلات الطائفية والأحقاد القبائلية مرشّحة كلّها لبلوغ حدّ لا يُطاق.
فهل «تنتصر» السينما على الواقع المزري، أم إنها ستكون إحدى ضحاياه؟

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...