سعاد جروس تكتب حول منقل الحبابة خاتون

17-11-2007

سعاد جروس تكتب حول منقل الحبابة خاتون

الجمل- سعاد جروس:  يا أم الخديد الوردتين اللا اللا يا ذهب يا مشغول ما بك لولا قلتلها روح وياك؟ قالت لا...لا نفسك دنية وزاد طبعي أقشر. كلمات دندنتها الحبابة €خاتون€ ونحن في ضيافتها نحتسي قهوة تعدها وفق طريقتها الخاصة. إحساسها العميق بالكلمات وحنين صوتها انساب كحفيف أوراق الشجر على ضفاف الفرات, ليذوب سكراً داخل نفوسنا, ويشغلنا للحظات عن محاولة فهم ما يجود به لسان عاشق يتغزل بصاحبة خدين ورديين يشبهان الذهب المشغول بحرفة عالية خالية من العيب, يطلب منها الذهاب معه, فترفض لأنها لا تأمن جانبه, ولا تثق بقدرتها على قمع أهوائها.
وعلى الرغم من أهمية فهم المعنى لاستكمال جمال الإحساس بالصورة الشعرية الآسرة... إلا أن سحر اللحظات النادرة يغري بالصمت والإصغاء لصوت €الحبابة€ ­ الجدة باللهجة المحلية لأهل الرقة ­ خاتون جدة آل العجيلي, وقد دعانا الطبيب حازم نجل الأديب الكبير عبد السلام العجيلي لاحتساء قهوتها المميزة, وأخذ قسط من الراحة في رحاب مضافتها الصغيرة بمساحتها والواسعة برحابة وبشاشة وجوه سكانها, جلسنا حولها فيما تربعت كملكة خلف منقل نحاسي عمره 200 عام, تتوسطه دلال قهوة تغلي على جمر بزر الزيتون, وفيما تغرق في تأملها تبادرنا بالترحاب, وتروي حكايا عشق بدوي تنثر البهجة في الأجواء.
قلنا لها نحن ضيوف على مهرجان عبد السلام العجيلي الثالث للرواية, ردت بصوت يمتزج فيه الحزن بالفخر: عبد السلام لم تنجب النساء مثله. من يزور الرقة خلال أيام المهرجان, سيتأكد من أن الحبابة المتقشفة بالكلام لم تبالغ, فبعد مضي نحو عامين على رحيل الدكتور العجيلي, ما يزال حاضراً كحالة استثنائية, فعدا ذكره الدائم في أحاديث الناس العاديين, يدهشنا ما يبنيه مثقفو المدينة على ما أسس له منفرداً طوال ثمانية عقود.
ويمكن اعتبار مدير الثقافة حمود الموسى ومجموعة من الأصدقاء منهم ماجد العويد نموذجاً لعدد من المثقفين, لم نتمكن من التعرف اليهم جميعاً, يسعون لنقل مدينة نائية عن العاصمة وعن دوائر الاهتمام, إلى صميم الجغرافيا الثقافية, لتلعب الرقة دوراً في قلب الحياة الثقافية, ليس فقط المحلية بل العربية والدولية, وبإمكانات بسيطة لم تتجاوز ميزانياتها 600 ألف ليرة سورية حوالى €12 ألف $€, تمت دعوة أكثر من خمسين أديباً وناقداً ومثقفاً وإعلامياً من دول عربية وأجنبية ليقيموا أكثر من أربعة أيام.
أحد الخبثاء من الإعلاميين السوريين الآتين من دمشق اعتبر هذا الرقم فضيحة لغالبية المهرجانات الثقافية التي تقام في العاصمة وتهدر فيها ملايين الليرات, ولا يكون لها التأثير ذاته لمهرجان العجيلي من حيث إعادة الثقة والصلة بالمؤسسة الثقافية الرسمية, بالافادة من الهوامش المتاحة لتقديم نشاط ثقافي رسمي بطابع اجتماعي أهلي, يلبي الدعوة إليه قامات أدبية ونقدية عربية ودولية, حيث لا فنادق خمسة نجوم ولا خدمات سياحية باذخة, كتلك المتوافرة للمهرجانات الدولية في المدن الكبرى, وإنما كرم حقيقي وجهد مثالي, بالإضافة إلى حفاوة محلية صادقة تقدم الدعم بالدعوات إلى ولائم عامرة بخيرات المنطقة وطيباتها, من مناسف الرز والفريكة والثريد. وأيضاً بالمثابرة على الحضور ومتابعة الفعاليات بشغف وفخر, كطقوس باتت مفتقدة في غالبية المناطق البعيدة عن العاصمة في البلاد العربية عموماً, يضاف إليها اهتمام الشارع بضيوف مهرجان قد لا يعنيه ما يجري في داخله من مناقشات لقضايا ثقافية نقدية, بقدر ما يعنيه إكرام الضيف والتباهي بالمكون الثقافي الغني لمنطقة تضطجع على سرير الفرات الحاضن لأعرق الحضارات القديمة, من آشور إلى هارون الرشيد ولغاية عبد السلام العجيلي ومن تلاه من أجيال لا تمل ولا تكل, بالمبادرة لإقامة فعاليات تبقيهم على ساحة الثقافة والفنون, دون أن يحبطها الإهمال والتهميش, فتستمر فرقة الرقة للفنون الشعبية بإدارة إسماعيل العجيلي باستقطاب الشباب, ليتعاقبوا عليها منذ العام 1969 ولغاية اليوم, متطوعين بلا أي مكافآت مجزية ولا حتى رمزية تعينهم بأضعف الأيمان على تعويض نفقات الجيب والوقت, ولا سيما أن اغلبهم طلاب جامعة, وتقدم أروع اللوحات الراقصة المستمدة من تراث المنطقة, مع الإصرار على تحدي العادات والتقاليد في مجتمع تغلب عليه روح البداوة, ليس فقط في استمرار الفرقة كل تلك السنوات, بل لتمكنها من كسب إعجاب واعتراف المجتمع بالرقص والغناء كفن راق, فحين كنا نطلب من بائعي التسجيلات الغنائية, البومات لأغان تراثية, كانوا يستفسرون إذا ما كنا نريد غناء راقياً مثل الذي تقدمه فرقة الرقة, أو أغان شعبية رائجة €هابطة€!!
ولا ينبغي نكران ما لفرقة الرقة من فضل في لفت النظر إلى التراث الشفهي في البادية السورية والذي نهل منه الرحابنة منذ السبعينيات, كما جذبت إليها ملحنين ومغنين مشهورين من زكي ناصيف وشربل روحانا وعبد السلام سفر وغسان صليبا وغيرهم كثر ليتعاونوا معها سواء بتقديم ألحان أو كلمات أو المشاركة في الغناء, على نحو لم تشهده أي فرقة فنية سورية أخرى.
كما لا ينكر إسماعيل أيضا دعم ابن عمه الطبيب والأديب العجيلي للفرقة, فحين وقفت العائلة ضد ميول ابنها الفنية, شجعه عبد السلام العجيلي على تشكيل الفرقة وأعطاه المال سراً وكتب له حوالى ستة نصوص مسرحية طلب ألا يوضع اسمه عليها تجنباً لمواجهة لا شك ستكون خاسرة مع المجتمع, الذي تقبل الأمر بالنهاية, وربحت الرقة فرقة فنية ليس لها مثيل في أي من مدن الأطراف السورية.
حول منقل الحبابة خاتون, اجتمعنا وتحدثنا بمواضيع شتى, لم تخل من هموم وشكاوى وتمنيات بأن يأتي يوم ويلتفت القائمون إلى هذه المنطقة ويقدرون تلك المبادرات الفردية والجهود الخيرة بتقديم الدعم اللازم لها, خصوصا وإن انضواءها الشكلي تحت جناح المؤسسات الثقافية الرسمية, يحجمها ويحد طموحها بدل أن يطلقها لتتحول إلى تجربة تحتذى على الصعيد العربي, إذ لم يخفِ أي من المشاركين قلقهم من خفوت الوهج الثقافي في الرقة مع تغير المواقع والظروف, في ظل غياب ثقافة العمل المؤسساتي.
ما تحتاج اليه الحياة الثقافية في الرقة بعض من العناية ومزيد من الدعم المالي, والقليل لا يكسر ميزانية الحكومة وينعش روح الثقافة, كي لا يكون الرد على سؤال عشاق الثقافة: قلتلها روح وياك؟ قالت لا... لا نفسك دنية وزاد طبعي أقشر, الجواب الذي ربما يفضله القائمون على ميزانيات الثقافة.

بالاتفاق مع الكفاح العربي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...