دبلوماسية مياه النيل على محور الخرطوم - القاهرة

28-07-2009

دبلوماسية مياه النيل على محور الخرطوم - القاهرة

الجمل: شهدت مدينة الإسكندرية المصرية يومي 27 و28 تموز 2009 انعقاد اجتماع وزراء الموارد المائية لدول حوض النيل وما كان لافتاً للنظر هذه المرة أن حرارة الاجتماع كانت مرتفعة للغاية ولم تنفع معها المسكنات التي درجت الدبلوماسية المصرية على تقديمها لضيوفها، وتشير الوقائع إلى أن ارتفاع الحرارة كان بسبب الخلافات الساخنة المتعلقة بأنصبة توزيع نسب المحاصصة المائية بين دول الحوض فالكثير من دوله أصبح يرى أن حصة مصر المائية كبيرة للغاية.
* إشكاليات محاصصة مياه النيل:
على أساس اعتبارات التصنيف الهيدرولوجي يمكن تقسيم دول حوض النيل إلى ثلاثة أنواع:
• دول المنبع: إثيوبيا – إريتيريا (منابع النيل الأزرق)، أوغندا – كينيا – رواندا – بوروندي – زائير – تنزانيا (منابع النيل الأبيض).
• دول الممر: السودان (تتجمع فروع النيل داخل الأراضي السودانية).
• دول المصب: مصر (يشق النهر الأرض المصرية ويصب في البحر المتوسط).
على أساس اعتبارات القانون الدولي من المعروف أن نصيب كل دولة يجب أن يكون بنفس طول المجرى المائي ضمن أراضيها ولما كان 70% من النهر مع روافده يوجد في السودان، والـ30% الباقية توجد في الدول الأخرى بما فيها مصر، فإن تطبيق هذه القاعدة التوزيعية سوف لن يتيح لمصر تغطية ربع احتياجاتها المائية.
تتمسك الحكومة المصرية بالعديد من الاتفاقيات السابقة التي تم توقيعها بين القوى الاستعمارية الأوروبية التي كانت تسيطر على دول حوض النيل، وعلى وجه الخصوص الاتفاقيات المائية البريطانية – الإيطالية، واتفاقية مياه النيل الموقعة بين الحكومتين المصرية والسودانية ولكن على خلفية التطورات المعاصرة برزت الإشكاليات الآتية:
• تسعى مصر إلى تأكيد حقوقها المائية من خلال الاستناد على الاتفاقيات التي سبق أن وقعتها القوى الاستعمارية باعتبارها حقوقاً مكتسبة وهو ما تزال ترفضه الدول الإفريقية.
• تسعى مصر والسودان إلى استخدام اتفاقية مياه النيل الموقعة بينهما كأساس لتأكيد حصتيهما المائية كحق مكتسب ولكن الدول الإفريقية ترفض ذلك على أساس أنها لم توقع على هذه الاتفاقات.
وعلى هذه الخلفية فمن الواضح أن التوصل إلى حل يعرف الحقوق المائية ضمن نسب جامعة مانعة هو أمر غير ممكن ولكن ما هو ممكن هو التوصل إلى الحلول التوفيقية التي سوف لن تتجاوز حدود إصدار بيان مشترك يعبر عن حسن النوايا والعمل من أجل تعزيز مستقبل الأمن المائي في حوض النيل.
* المعالم البارزة في دبلوماسية مياه النيل:
تتميز العلاقات الدبلوماسية بأنها إما أن تسعى إلى معالجة الاختلالات الموجودة وتأسيساً على ذلك تأخذ طابع "الدبلوماسية العلاجية" أو تأخذ طابع منع حدوث الاختلالات وتأسيساً على ذلك تأخذ طابع "الدبلوماسية الوقائية" ولما كانت الوقاية خير من العلاج فإن الدبلوماسية الوقائية بالضرورة أفضل من الدبلوماسية العلاجية.
تجاهلت الدبلوماسيتان المصرية والسودانية ملف مياه النيل وظل محور الخرطوم – القاهرة يعتمد على إرث الاتفاقيات المائية التقليدية التي يمكن الإشارة إلى أبرزها على النحو الآتي:
• اتفاقية مياه النيل عام 1929: تم توقيعها بين السلطات الاستعمارية البريطانية التي كانت تسيطر على مصر والحكومة البريطانية أي بين بريطانيا وبريطانيا، ولكن برغم ذلك فإن الحكومة المصرية تستند على هذه الاتفاقية باعتبار أن السلطات الاستعمارية البريطانية التي كانت تحكم مصر تمثل الطرف المصري وبأن الحكومة البريطانية التي كانت تحكم السودان وكينيا وأوغندا وتنزانيا كانت تمثل هذه الدول.
• اتفاقية مصر والسودان عام 1959: اتفق الجانبان على أن يكون نصيب مصر 55.5 مليار متر مكعب ونصيب السودان 18.5 مليار متر مكعب وهي اتفاقية لا تتمتع بالمصداقية لأن منابع النيل لا توجد لا في مصر ولا في السودان وبالتالي تبدو سخرية المفارقة من خلال السؤال القائل: كيف يلتزم الطرفان بتوزيع حصص مياه النيل التي لا يملكان مصادرها؟ إضافة لذلك فإن دول المنبع لم توقع على هذه الاتفاقية وبالتالي فهو قانون غير ملزم لها.
• إطار عمل تعاون القاهرة 1993: وهو تفاهم مصري – إثيوبي يشير إلى ضرورة أن تتعاون مصر وإثيوبيا من خلال الالتزام بعدم إقامة المشرعات التي تضر المصالح المائية الخاصة بالطرفين وأن تتعاون من أجل زيادة مستويات تدفق المياه، ونلاحظ أن دول الحوض الأخرى لم توقع على الاتفاقية إضافة إلى أن صيغة هذا التفاهم هي مجرد "إطار عمل للتعاون" وبالتالي فهو لا يأخذ صفة المعاهدة أو الاتفاقية الدولية.
• مبادرة حوض النيل 1999: وهي مبادرة تم إطلاقها بواسطة دول حوض النيل لجهة التعاون من أجل تنمية منطقة حوض النيل واقتسام المنافع الاقتصادية وتحقيق الأمن والسلام ونلاحظ أنها مجرد مبادرة وليست اتفاقية أو معاهدة.
أدركت الحكومتان المصرية والسودانية أن اتفاقيات مياه النيل السابقة لا تصلح لكي تكون سنداً قوياً لتأمين الاحتياجات المائية المصرية – السودانية وبرغم تجاهل الحكومة السودانية ملف مياه النيل بسبب وفرة مياه الأمطار التي تتيح للسودان الحصول على الموارد المائية فإن مصر كانت بسبب موقعها الحرج الأكثر اهتماماً لضرورة السعي لتأمين احتياجاتها من مياه النيل.
أسفرت الجهود عن انعقاد اجتماع لإجراء المحادثات حول مياه النيل وذلك في كينشاسا عاصمة الكونغو الديمقراطية (زائير) وقد انعقد الاجتماع في شهر أيار الماضي 2009 وقد فشل هذا الاجتماع بسبب رفض مصر التوقيع على الاتفاقية على أساس أن القاهرة لن توقع على أي اتفاقية مائية لا تعترف صراحة بحق مصر في الحصول على 55.5 مليار متر مكعب من المياه كحصة سنوية، إضافة إلى إعطائها حق الفيتو إزاء إقامة أي مشروع مائي في دول حوض النيل التسع الأخرى.
وإزاء تشدد مصر المطالبة بالاعتراف بحصة الـ55 مليار متر مكعب وحق الفيتو الذي قوبل برفض الدول التسعة فقد انهار الاجتماع والآن جاء اجتماع الإسكندرية الوزاري الذي دعت إليه مصر.
* هل ستندلع حرب المياه في حوض النيل؟
من الواضح أن ملف مياه النيل دخل مرحلة الحرب الباردة بين دول الحوض العشرة حيث تقف مصر كطرف والدول الإفريقية الثمانية الأخرى (إثيوبيا – إريتريا – أوغندا – كينيا – رواندا – بوروندي – الكونغو - تنزانيا) التي تقف كطرف ممانع للطلبات المصرية، أما السودان فهو رغم دعمه لمصر يسعى للتوفيق بين الأطراف وعدم تحويل ملف الصراع على المياه إلى صراع عربي – إفريقي.
أما بالنسبة للسيناريوهات المتوقعة حول مستقبل الصراع على مياه النيل فيمكن الإشارة إلى الآتي:
• السيناريو الأسوأ وهو سيناريو الحرب المائية وهو غير متوقع الحدوث لأن القدرات العسكرية المصرية لن تستطيع التقدم آلاف الكيلومترات لتواجه ثمانية دول تقع سبعة منها في الأحراش الاستوائية وواحدة من أكبر الهضاب الجبلية في العالم إضافة لذلك فإن الدول التي توجد فيها منابع النيل الرئيسية (أوغندا وإثيوبيا) تعتبر الدول الحليفة الرئيسية لأمريكا وإسرائيل في إفريقيا.
• السيناريو الأفضل وهو سيناريو التعاون وهو غير متوقع الحدوث لأن مصر لا تملك القدرات اللازمة لتمويل مشروعات التنمية المائية لتسعة دول إضافة إلى أن واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي والمؤسسات المالية والدولية التي تسيطر عليها واشنطن لن تقبل بتخصيص مواردها لدعم المشروعات المائية لمصلحة مصر طالما أن المساعدات التي تقدمها أمريكا لمصر هي بالأساس مساعدات مشروطة بالتطورات الجارية في ملف العلاقات المصرية – الإسرائيلية.
• السيناريو الوسط وهو سيناريو استمرار الخلافات والحرب الباردة وعلى الأغلب أن يستمر هذا السيناريو ولكن بشكل متقطع لأن مصر لن تستطيع التصعيد بما يصل إلى المواجهة العسكرية والدول الإفريقية لن تستطيع إقامة مشروعات المياه لأن الأمطار الاستوائية والمدارية الغزيرة ظلت تجعل من هذه البلدان بالأساس عرضة لمخاطر الفيضانات والسيول المائية.
عموماً تتعاون مصر وأمريكا وإسرائيل من جهة ولكن من الجهة الأخرى فإن أمريكا وإسرائيل تسعيان لاستهداف مصر عن طريق حث أوغندا وإثيوبيا على إقامة المشروعات المائية التي يمكن أن تهدد الأمن المائي المصري وبالتالي فإن القاهرة وإن كانت تسعى إلى التأكيد على أهمية تعاونها مع إسرائيل وأمريكا فإن على القاهرة أن تفهم أن صراعها المائي سيكون مع إسرائيل وأمريكا بالدرجة الأولى وليس مع أوغندا وإثيوبيا.

 

الجمل: قسم الدراسات والترجمة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...