حكايات مهجرة من حديقة " الصنائع"

23-07-2006

حكايات مهجرة من حديقة " الصنائع"

لم يسبق ان شهدت حديقة الصنائع هذا الحشد الكبير من الرواد وهذا العدد الكبير من الاطفال منذ انشائها. فهي منذ ليل 14€8€2006 تحتضن ما بين 250 و300 عائلة نازحة من مختلف المناطق اللبنانية. بعضهم اتى من قرى الجنوب, واكثرهم من الضاحية الجنوبية, ومن الاوزاعي وبئر حسن.
هؤلاء البشر النازحون يفترشون قلة قليلة من فرش الاسفنج التي قدمت لهم, وبعض الحرامات الصوفية ويلتحفون السماء. منهم من زار هذه الحديقة نازحاً في اجتياح سنة 1982, ومن كانوا رضعاً في تلك الايام اصبحوا امهات وآباء.
في حديقة الصنائع يتحلق النازحون بعضهم حول بعض. يتناولون الطعام, او القهوة والشاي. ويتسامرون في الشؤون العسكرية والسياسية, ويسألون الى متى تستمر غطرسة اسرائيل.
منذ لجأ المواطنون الى حديقة الصنائع التقى المتطوعون من الحزب القومي وتيار المستقبل مصادفة ومن دون تنسيق مسبق لتنظيم شؤونهم وتوزيع المساعدات التي قدمها اهل الخير لهم. ويحاولون تنظيم انتقالهم الى مدارس شتى يتم فتحها لهم في مناطق بيروت وضاحيتها الشرقية. المتطوعون يبلغون حوالى الـ20 يتناوبون على العمل ليل نهار محاولين التخفيف من معاناة النازحين وتأمين الحد الادنى من متطلبات صمودهم من طعام وماء وادوية ضرورية. النازحون والمتطوعون معاً يشكون من قلة الفرش والادوية.
في هذا التهجير القسري الى حديقة الصنائع يلتقي اللبنانيون والفلسطينيون معاً. جميعهم يأمل بأن لا تطول المعاناة وبأن تحرز المقاومة النصر على اسرائيل. سيدة لم تشأ ذكر اسمها تهجرت من منطقة السلطان ابراهيم مع زوجها واولادها الذين تتراوح اعمارهم بين 4و13 سنة, وهم كانوا السبب في نزوحها, تقول: «صواريخ اسرائيل لا ترحم المدنيين». وتخبرنا تلك السيدة بأنها اختبرت النزوح منذ طفولتها, «ففي عمر 8 سنين نزحت للمرة الاولى من مخيم تل الزعتر, وتوالت بعده معركة النزوح في مناسبات شتى». ترفض تلك السيدة الانتقال الى مدرسة وتقول «نزحت مع اهلي ولدي أخ مقعد على كرسي متحرك لاصابته في الحرب, وليس بالامكان ان نسكن في الطوابق العليا, كما ان اخي الثاني يتحرك على عكازين, لذلك حديقة الصنائع افضل لنا».
عائلة زيون النازحة من الجناح تتحلق حول بعضها تداوي واقع النزوح الصعب بروح رياضية. وعندما نسألهم لماذا لا ينتقلون الى مدرسة تكون فيها شروط الحياة افضل تجيب اميرة 14 سنة «انا خلصت جامعة كيف بدي ارجع ع المدرسة»؟ نبارك لها روحها الرياضية فتقول «تقبلنا خسارة البرازيل بروح رياضية, وان شاء الله نربح بهذه الحرب بروح رياضية ايضاً».
نسألهم ان كان معهم اطفال فيجيب شقيقها «انهم كثر لكنهم منتشرون في الحديقة ونحن لا نخشى عليهم من الضياع فهم يضيعون بلداً بكامله».
من بعيد نلمح عشرات الحمامات تتحلق حول سيدة وطفل, نقترب منها فاذا بها تقطع الخبز صغيراً وترميه لهم. مشهد جميل وسط حالة التيه التي يعيشها النازحون. السيدة تدعى حمدة نازحة من الاوزاعي تقول: «اطعم الطيور خبزاً قديماً بلكي الله يعطينا ثواب فيهم». وتقطع حديثها لتشتم صبيتين مراهقتين مرتا وسط الحمام وسببتا لها الذعر فطارت مخلفة وراءها عاصفة من الغبار. حمدة نزحت مع عائلتها وجيرانها تشكو من قلة الماء نظراً لكثرة النازحين في الحديقة, وتشكو عدم حصولها على دواء السكري. وهي جربت المبيت ليوم واحد في كلية الحقوق القريبة لكن الحساسية التي تعانيها تحركت بقوة فعادت ادراجها الى الحديقة. تعتب حمدة على العرب لأنهم لم يتحركوا بعد كل هذا القتل والتهجير والدمار الذي قامت به اسرائيل. ».
وتضيف: «واجهت التلفزيونات الاجنبية وفشيت خلقي بكل المتخاذلين عنا. ولما إجا تلفزيون بلير €طوني بلير€ الـ BBC قلت للصحفي البريطاني انت مع الكلب بوش ومع بلير»؟ فأشار لي بأصبعه ليسقط بلير, عندها سمحت لنفسي بالحديث معه وارجو ان يكون كل كلامي قد ظهر على شاشة بريطانيا ومنها للعالم اجمع ليسمعوا صرختنا بوجه الظلم الذي تلحقه اسرائيل بنا. لكن بالحقيقة لم اقبل التحدث لتلفزيون CNN لأنه مع اسرائيل.
اقتربنا من مجموعة شبان قالوا بأن اجواء الحديقة افضل من المدارس. احدهم يشكو من شلل نصفي نتيجة حادث عمل يفتقر لمتابعة العلاج الفيزيائي كما يشكو من معاملة قاسية احياناً من بعض المتطوعين ويقول «لازم يتعاطفوا معنا اكثر».

بيتي قصري
سيدة مهجرة من الاوزاعي ومعها ابنتها وعائلتها, وسلفها وعائلته وعائلات ابنائه. تقول جربنا العيش في احدى مدارس البسطة وفي كلية الحقوق, لكن الوضع هنا افضل خصوصا عندي بنات. نحن هنا لا نحتاج إلا لرحمة الله, ولبعض الفراش إذ حصلنا على فرشتين فقط, لكن الحرامات متوافرة بكثرة انما النوم عليها يؤدي الى آلام في الكليتين.
اعتدال يونس كانت تجلس وحيدة على أحد المقاعد والدمعة تكاد تنهمر من عينيها. تمنت لو تحصل على غرفة صغيرة تنفرد فيها مع عائلتها لتتمكن من رفع الحجاب عن رأسها. تقول: ذهبت الى كلية الحقوق ولم استطع الاستمرار لأكثر من ساعات. فكيف اجلس مع ابنتي مع كل هؤلاء الرجال الغرباء؟ بكت اعتدال وهي تتمنى اكثر من مرة الحصول على غرفة وقالت: الحمد لله لا يزال معنا مصاري نشتري الطعام والدواء, لكن ليس معنا ما يكفي لايجار غرفة في فندق.
حاج يرتدي الكوفية والعقال اتى من بيت باحون في الجنوب يجوب الحديقة بنشاط وحيوية. يقول: اسمي امين مكي تركت القرية الحدودية تقريباً مع حوالى الـ5 من ابنائي واحفادي. نسأله كم مرة كان في هذا الموقف على مدى عمره, فيجيب بلهجته الجنوبية «عدمتى ابنعدوش, وبعدني مستعد. الحمد لله صامد. اعتداءات اسرائيل تقويني. وانا منذ شبابي اطلب الموت او الحياة بكرامة. الله يوفق المقاومين بلكي بعد هالجولة منعيش بوطنا احرار».
كثر افراد عائلة حمزة النازحون من بئر حسن, شاب من بينهم ينبري للقول: صامدون ومعنوياتنا عالية والحمد لله. كل ما يحصل معنا ضيق نفس, يطل علينا السيد حسن بترجع معنوياتنا بتطلع الى السما». فيرد جاره بصوت مرتفع «هذا اذا صار عندنا ضيق نفس». واذا بسيدة اخرى تقول «نحنا نفسنا طويل».
في هذا الوقت يطلب الحديث معنا المتطوع مصطفى لأنه يحب سياسة «الكفاح العربي» ويقول: جئت الى لبنان قبل ثلاثة اشهر فانا مهاجر الى استراليا منذ 29 سنة. انها المرة الاولى التي احضر فيها حرباً في لبنان. ويومياً بعد منتصف الليل اغادر الحديقة لأنام عند اصدقائي في الرويس او الجاموس. انا مسرور بصمود الاهالي وتفاني المتطوعين, الجميع معنوياته عالية بفضل السيد حسن نصر الله. وغداً عندما اعود الى استراليا سوف اخبر عن ما شاهدته من العدوان الاسرائيلي. مصطفى سيعود الى سدني لأن عائلته تتصل ليل نهار مطالبة بعودته وهو وضع اسمه لدى السفارة وينتظر الاتصال به.
نعود الى عائلة حمزة الكبيرة لنلحظ وجود فتاة من التابعية السيريلانكية نسألها لماذا هي هنا فتقول: اسرائيل. وتضيف: «بحبو السيد حسن». وإذ بالرجل الذي كان يحاورنا من قبل يشير الى طفل في عمر الحادية عشرة ويقول: هذا شبل من اشبال السيد حسن نصر الله. الشبل يدعى سليم حمزة يقول انه تحدث لعشرات الاذاعات ومحطات التلفزيون المحلية والعالمية. ماذا قال لهم؟ قلت لهم: السيد حسن €نصر الله€ حامي لبنان ورافع رأس الأمة العربية. السيد حسن أهم من كل الدنيا. وانا لا اخاف اسرائيل.

النزوح الثاني
الوالدة باسمة حمزة تشير لنا الى ابنتها رنا التي كانت تحمل طفلا وتقول «سنة 1982 وإبان الاجتياح الاسرائيلي حملتها على يدي وهي في عمر العشر سنين ونزحنا الى هنا وفي هذا المكان بالتحديد من حديقة الصنائع, وها هي اليوم تحمل ابنها في المكان نفسه. انجبت عشرة اطفال دون ان يمرض احدهم لكن رنا مرضت كثيراً في طفولتها نتيجة النزوح لأنها التقطت ميكروبات.
عائلة حمزة من شمال فلسطين. تقول الوالدة باسمة: لبنان على راسي لكني اتضرع الى الله كي اعود الى وطني فلسطين.
بين النازحين من عائلة حمزة ابنتهم ومعها ثلاثة اطفال, محمد 10 سنين, يحيا 8 سنين ومنى 5 سنوات. محمد كان يبكي بحرقة كبيرة, اخبرتنا والدته انه يريد العودة الى والده في الولايات المتحدة. وتشرح الأم اوضاعها فتقول: جئنا الى لبنان من الولايات المتحدة في اواخر شهر أيار €مايو€. بالامس ذهبت الى السفارة الاميركية في عوكر وملأت طلباً كي أرحل مع اطفالي وقالوا نتصل بك. واليوم ايضاً ذهبت مع اطفالي وقالوا نتصل بك. ولست ادري ماذا سيحل بنا ومتى سيأتي دورنا للرحيل.
في حديقة الصنائع لا تهدأ حركة الصحافة الاجنبية وبخاصة التلفزيونات. واثناء وجودنا تجمهرت مجموعة من الشبان والفتية حول كاميرات تلفزيون ITN البريطاني الذي كان يطلب شاباً يتقن التعبير بالانكليزية, واذا بشاب يقل عن 18 سنة يتبرع بالحديث ويرد على سؤال طرحته الصحفية البريطانية: هل تؤيد المقاومة؟ يقول بصوت مرتفع: «دماؤنا للسيد حسن» ويؤكد لهم انه لا يخاف اسرائيل, حتى ان الاطفال لا يخافونها. وبعد انفضاض التلفزيون البريطاني عن المكان يدور نقاش بين الشاب ورفاقه الذين يقولون له: يجب ان تظهر لهم الحقيقة, فالاطفال يخافون من اصوات القنابل. لماذا المكابرة؟ يجب ان يعرف الغرب ان اسرائيل ترعب الاطفال وتقتلهم.
في حديقة الصنائع وجد الاطفال سلواهم في امكنة اللهو واللعب المخصصة لهم التي لم يروها ربما من قبل, ووجد الكبار سلواهم في تبادل الاحاديث, والبعض منهم يسير على غير هدى آملاً ان لا تطول ايام النزوح لما فيها من شقاء وعناء حتى وان كانت في القصور. وبين هذا الحشد السكاني الكبير يدور عمال «سوكلين» محاولين جمع ما امكنهم من الاوراق المنتشرة في المكان دون ان يتخلوا عن زيهم الرسمي حتى في عز اوقات الحرب. اما على شباك غرفة التطوع فالاطفال يتوافدون للحصول على اكياس «الشيبس» وعلب العصير التي قدمها اهل الخير. اهل الخير كثر ويظهرون في الاوقات الصعبة التي يمر بها الوطن. لكن احداً في حديقة الصنائع لم يذكر اسم الهيئة العليا للاغاثة. وحدهم رجال قوى الأمن الداخلي على مدخل الحديقة يشيرون الى وجود الدولة ربما لأن الحديقة تجاور وزارة الداخلية.

المصدر: الكفاح العربي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...