تاريخ واحد وثلاث أصوليات

07-12-2015

تاريخ واحد وثلاث أصوليات

أعادت المجزرة المروّعة الَّتي اقترفتها “داعش” في باريس إلى الأذهان أحداث 11 أيلول 2001 في نيويرك. وأمكننا أن نقول أنَّها أحدثت بعض ما أحدثته مجزرة القاعدة في حينه من أثر في العقليَّة السّياسيَّة الَّتي تسيّر العالم على تنوّعه. أمَّا ردود الفعل والقراءات الفوريَّة المنقولة ببث مباشر فتبدو كعواصف غباريَّة تغطي ما حصل في العمق. حتَّى لو واصلت الحياة دورتها كما ألفناه في فرنسا أو سواها فإنَّ ما حصل فتح نُدبة أخرى في وجدان البشريَّة كما صاغته فكرة الدَّولة والحداثة منذ القرن السَّابع عشر. وقبل أن نعرض لهذه النُدبة حريٌّ بنا أن نستعرض هنا ولو بخطوط عريضة جذور الأصوليَّة كما عرفها علم الاجتماع الحديث وكما ظهرت في التَّاريخ. وهو شرط تمهيديٌّ لاستقراء جهة الرّيح ومآلات الوضع الَّذي قد ينشأ عن التَّصعيد المرجّح في نشاط الحركات الأصوليَّة العدميَّة كداعش في الشَّام وسواها في شمال أفريقيا وغربها.


هناكَ من يسعى إلى تضييق إطار المَفهمة بقراءة ما حصل ضمن مفهوم الرَّاهن ـ هنا والآن! بل نحن على اعتقاد أنَّ القراءات الطَّاغية تستمدّ نقاط ارتكازها من مفهوم الدَّولة القوميَّة على ما تعنيه من احتكار للقوَّة في سعيها إلى تثبيت سلطة القانون والأمن العام والشَّخصيّ. ومنهم مَن يقرأ ما حصل ضمن ظاهرة الإسلام السّياسيّ والنَّشاط العدمي لداعش وسواها أو في إطار تيمة الإرهاب. ومن هنا تقصر الطريق إلى قراءات الحدث بلغة الأمن القوميّ وأجهزة المخابرات. وهي قراءات ضروريَّة لكنَّها لا تكفي للفهم ولا لتأطير الأحداث ومَفهَمته. من هنا تعويلنا على التَّاريخ لتأطير الإرهاب وتأطير الأصوليَّة خاصَّة أنَّهما ظاهرة سياسيَّة ملازمة للحداثة. وهذا يعني أنَّها ليست ظاهرة جديدة أو راهنة بل تمتد في عمق التَّاريخ الحديث وأمكنته.


الأصوليَّة كحركات اجتماعيَّة فكريَّة دينيَّة مناهضة للحداثة، مسلّحة أو متمرّدة على الحداثة والدَّولة الحديثة غير محصورة لا بحركات الإسلام السّياسيّ أو العدمي ولا بالمتدينين من مختلف العقائد. بل هناك مَن اعتبر النَّازيَّة والستالينيَّة ضربا من الأصوليَّة العلمانيَّة من لدن أوساط تناهض مبدأ اللّيبراليَّة والحريّات المفتوحة (السُّوق الحرّة) كطور من أطوار الحداثة. ويؤكّد المؤرّخون وعلماء الاجتماع أنَّ الأصوليَّة إنَّما بدأت في المجتمعات المسيحيَّة الأوروبيَّة تحديدا الَّتي شهدت عصر التَّنوير وبدايات الحداثة. ومنها حركة اليعقوبيين وبعض المجموعات البروتستانتيَّة والمحليَّة الَّتي رأت في حقبة التَّنوير، ومن ثمَّ في الدَّولة الحديثة تقويضا لكياناتها ومعتقداتها ونسيجها الاجتماعيّ وتصفية أكيدة لمكتسباتها أو امتيازاتها. وكان الأمر بارزا بالنّسبة للحركات الدّينيَّة الَّتي دأبت على تنظيم نفسها وجعل المجتمع منظّما وفق اللاَّهوت وشرع الله وكتابه وفقه نصوصه ورُسله، أو وفق موروثها “المجيد” وتصوّرها للوجود. إنَّ بناء الدَّولة الحديثة على أساس من عقد اجتماعيّ وسلطة القانون وضمان الحريَّات والتَّطلُّع إلى المساواة بين الجميع أتى على امتيازات هذه المجموعات وسؤددها لا سيَّما القائم على اللاَّهوت. لأنَّ الدُّول الحديثة قامت في نهاية المطاف على أساس العقل البشريّ المدبّر وحكمة الإنسان والشَّرعيَّة المستمدَّة من الشَّعب ـ المواطنين ـ من خلال استفتائهم وسؤال رأيهم في انتخابات دوريَّة ودسترة العقد الاجتماعيّ. وفي هذا إعلان صريح لنهاية حقبة وبداية أخرى، لنهاية عقليَّة ومبانٍ وظهور أخرى. وهذا التَّوتُّر بين الحقبتين ولّد أشكالا من الأصوليَّة كردّ فعل على التَّحوُّل التَّاريخيّ الجذريّ المتمثّل في التَّحديث. ومن هنا فإنَّ الأصوليَّة ـ نسبة إلى الأصل أو الجذر ـ متَّصلة بشكل بنيويّ مع التَّحول الجذريّ في حركة التَّاريخ من الإقطاع والنّظام القروسطيّ إلى الحداثة والرَّأسماليَّة!


إلاَّ أنَّ هذه الحركات، في قسم منها، وصلت إلى تسويات مع الحداثة ومآلاتها ولاءمت فكرها لما نشأ وتطوّر خاصَّة وإنَّ الدَّولة الحديثة حفظت لهذه المجموعات مع مرور الوقت الحقَّ في الشَّعائر والتَّعبُّد والاعتقاد إضافة إلى الحريَّات ومنها حريَّة التَّنظُّم والتَّعبير وتداول أفكارها في الحيز العام. ولا تزال دول أوروبيَّة إلى الآن تحفظ حصّة من الموارد العامة للكنيسة ومؤسّساتها. وبدت هذه الحركات في نهاية المطاف متصالحة مع الدَّولة الحديثة والمفهوم الغربيّ للحداثة ومبدأ دسترة المجتمعات وإخضاع كلّ شيء لسلطة القانون البشريّ (لا لسلطة اللاَّهوت) ـ العقد الاجتماعيّ. هذا يعني أنَّ الأصوليَّة كحركة مضادَّة للحداثة، وإن بدأت قويَّة إلاَّ أنَّها ضعفت مع الوقت بتأثير من سطوة الحداثة وقوَّتها المتمثّلة في سلطة الدَّولة ومواردها وسياساتها وإجراءاتها بل خضعت نفسها للتَّحديث.


العصر الكولونيالي المتأخّر شكّل محرّك الموجات أخرى من الحركات الأصوليَّة المناهضة للحداثة في شكلها الاستعماريّ في كلّ المُستعمرات ومن بينها الأقطار العربيَّة والإسلاميَّة. وظهرت هذه الأصوليَّة من خلال ثلاثة نماذج واضحة وهي: الحركات الماركسيَّة اليساريَّة وما أبدته من عُنف تبرّره النَّظريات وظهرت هذه الأصوليَّة من خلال ثلاثة نماذج واضحة وهي: الحركات الماركسيَّة اليساريَّة وما أبدته من عُنف تبرّره النَّظريات والأيديولوجيا، والحركات القوميَّة الَّتي بنت ذاتها ووعي الجماهير من خلال رواية تقديس للذَّات ونزع شرعيَّة الكولونيالي وأصوله، والحركات ذات العقيدة الدّينيَّة أو الَّتي تؤسّس وعي ناسها على نصوص مقدّسة، من لدُن الإسلام السّياسيّ على مذاهبه الأكثر أصوليَّة أو الأقلّ أو غيره. وقد رأيت تشكيلات لهذه الحركات ولفِكرها الأصوليّ في كلّ الحيز العربيّ. إلاَّ أنَّ مرحلة الاستقلال العربيّ وتحرّر الشُّعوب المبنيَّة على أساس بناء دول حديثة على النَّموذج الغربيّ ـ الرَّأسماليّ أو الاشتراكيّ ـ خفّف من غلواء الأصوليَّة على مذاهبها وشدّها إلى عملية بناء المجتمعات الجديدة المابعد استعماريَّة وشاركها على هذا النَّحو أو ذاك في عمليَّة البناء فنزعت فتيل أصوليتها وجَتمَعتها. أو أنَّ الدَّولة العربيَّة الحديثة العهد على نُخبها الَّتي تبنّت النَّموذج الحديث للدَّولة قمعتها تماما ـ مصر وسوريَّة مثلا ـ وأسهمت في إضعافها بتفاوت بين قُطر وآخر. استمرّ الوضع على هذا النَّحو إلى الصحوة الإسلاميَّة الَّتي استطاعت أن تُعيد طرح الأصوليَّة الإسلاميَّة حلا في ضوء إخفاقات الحركات القوميَّة ـ البعث مثلا والنَّاصريَّة، أيضا. أمَّا اليسار العربيّ فقد بقي مُحاصرا بين النُخب الحاكمة وبين الإسلام السّياسيّ. بل استغلّت الأنظمة الإسلام السّياسيّ لضرب القوي اليساريَّة المدنية لا سيّما الماركسيَّة منها ـ كما حصل في مصر مثلا.


الأصوليَّة في الطَّور الرَّاهن للحداثة!


أمَّا الطَّور الأخير للحداثة الرَّأسماليَّة، وهو العولمة بما تعنيه من هتْك المجتمعات المستضعفة بما فيها العربيَّة، وهدم مبانيها ودوس تراثها وتاريخها مُضافة إلى إخفاق الدَّولة العربيَّة نهائيًّا، فقد بعث الرُّوح في أصوليَّة إسلاميَّة تستمدُّ زخمها من فشل الدّولة داخليًّا ومن مناهضة العولمة خارجيًّا. وقد استندت إلى المقدّس والتَّاريخ المجيد والمزج بينهما ـ كأيّ حركة أصوليَّة في العالم من قبل ومِن بعد، لجأت إلى تراثها وتاريخها ومقدّسها تصوغ منها روايتها وبرامجها ودعواها ضدَّ الدَّولة الحديثة وسلطتها.


في هذا الطَّور ـ العولمة ـ لم يعد همّ الأصوليَّة الإسلاميَّة العدمية ـ القاعدة وداعش- هدم الدَّولة العربيَّة وإقامة دولة مكانها بل هدم العالم كما هو الآن لإقامة دولة الخلافة باعتبارها مشروعا للعالم. وهو محاولة من هذه الحركات لوضع ناموس جديد للعالم والاجتماع غير الحداثة ومابعدها وغيرالعولمة وغير الدَّولة. بل ما دامت العولمة قد أعفت الدَّولة وسيادتها وأعطت الأولويَّة والقرار للكيانات الفوق قوميَّة مثل صندوق النَّقد الدُّوليّ والبنك الدُّوليّ ومؤسّسات ماليَّة عابرة للحدود القوميَّة والمنظمات الإقليميَّة ـ الاتّحاد الأوروبيّ مثلا ـ فلماذا لا تجرّب الأصوليَّة الإسلاميَّة حظّها في الانقضاض على الدَّولة من ناحية وفي طرح روايتها بديلا للعولمة كنظام يُفكّك ما هو قائم ويُخضعه للتَّسليع والاتّجار! ومن هنا فإنَّ الإسلام الأصوليّ يقترح نفسه بديلا لما هو قائم من اجتماع على العولمة ويخوض سِجالا متشاوفا ومستعليا على الغرب المأزوم بما وصل إليه. ويبزّه الإسلام العدمي حينما يُعلن حربا مُطلقة ضدَّ القائم من منظومات سياسيَّة اجتماعيَّة مفهوميَّة بذريعة أنَّ سلطة البشر فانية وأن لا بدّ من ردّ الاعتبار لناموس الله كما حدّد مفهومه الفقه الإسلامي وكما جسدّته حقبة الخلفاء الرَّاشدين باعتبارها الأصل الَّذي يُرجع إليه أو ينبغي الرُّجوع إليه ولو بالإخضاع والعنف وتمثيلاته المروّعة.


أصوليَّة ضمن التَّاريخ أصوليَّة خارج التَّاريخ!


في موازاة تطوّر الحداثة وانتقالها من حقبة إلى أخرى سارت الأصوليَّة وتشكّلاتها المسار نفسه تقريبا. نقول هذا بناء على الفرضيَّة الواردة آنفا بأنَّ الأصوليَّة مُطابق الحداثة والدَّولة الحديثة وردّ الفعل على سلطتها. نتبيّن هنا ثلاث حِقب أصوليَّة وهي:


الأصوليَّة الأولى ـ إذا صحّ التَّعبير ـ وكانت مسيحيَّة في مُعظمها وإن ضمّت مجموعات محليّة في مواقع مختلفة بما فيها أمريكا الشَّماليَّة. ظهرت داخل الثَّقافة المسيحيَّة الإصلاحيَّة الَّتي أفضت إلى الدَّولة. وهي أصوليَّة تصالحت في غالبيتها مع الدَّولة أو قبلت بسلطتها على مضض.


الأصوليَّة الثَّانية ـ وهي محايثة لحقبة الاستعمار الحديث وكانت ساحتها الأقطار الخاضعة للاستعمار الَّتي خاضت حروب تحرُّر وطنيّ وشملت ثقافات عديدة من أمريكا اللاَّتينيَّة حتَّى شرق آسيا مرورا بالشَّرق الأوسط، أيضا.


الأصوليَّة الثَّالثة ـ وهي تلك الرَّاهنة المناهضة للعولمة. وهي في معظمها إسلاميَّة العقيدة وإن أمكننا اعتبار حركات قومجيَّة ونازيَّة جديدة نوعا من أصوليَّة تتطوَّر في أوروبا تحديدا ردًّا على ذهاب القوميّ ضحيَّة القاري ـ أنظر كيف تطوَّرت في اليونان مثلا حركة يمينيَّة عنيفة مناهضة للأجانب ولإملاءات الاتّحاد الأوروبيّ بشأن الأزمة اليونانيَّة. ومن هنا هذا الميل إلى ربط الأصوليَّة والعدميَّة بالإسلام السّياسيّ والدّينيّ. ومن هنا التَّنظير الكثيف حول جذور هذه الأصوليَّة في النَّص الدّينيّ والموروث المقدَّس ومجمل الثَّقافة الإسلاميَّة علما بتفاوت طبيعتها ومضامينها من حِقبة تاريخيَّة لأخرى. بل نجدنا أحيانا غير قادرين على إقناع الآخرين بأنَّ للأصوليَّة جذورها في المسيحيَّة كثقافة وأنَّ ساحة لعبها الأولى كانت العلمانيَّة المسيحيَّة الَّتي أقامت سلطة الدَّولة الحديثة! ولا نقول هذا في معرض الدّفاع عن الإسلام السّياسيّ أو الدّين الإسلاميّ وإنّما من قبيل السَّعي المُخلص إلى ردّ الظواهر وهنا الأصوليَّة ـ إلى منابعها ونشوئها وحركتها ضمن مسار تاريخيّ يمتدُّ على ثلاثة قرون ونصف القرن (هذا، إذا اعتبرنا أن صلح وِسْتفاليا (1648) هو الحدث المؤسّس للدَّولة الحديثة). أمَّا العولمة الرَّاهنة فكأنَّها نقطة تأسيس ثانية في حركة التَّاريخ هذه أنتجت تصعيدا غير مسبوق مع الأصوليَّة الرَّاهنة بصيغة الإسلام السّياسيّ أو ذاك العدمي. لأنَّ العولمة تعني في مستوى منها تعميم الأفكار بخصوص الحريَّات وهدم البُنى التَّقليديَّة المحافظة ونشر فكرة حقوق الإنسان والجماعات وإشاعة ثقافة مفتوحة ومكشوفة للتَّأثيرات والسيرورات الحاصلة كانعكاس لحركة الاقتصاد الحرّ.


علينا أن ننتبه هنا إلى هول الضَّربات التي توجّهها العولمة للمجموعات التَّقليديَّة والمستضعفة بعد أن وهنت الدَّولة أمامها (ضعفت سيادتها وأنظمة الحماية الوطنيَّة فيها) وعجزت عن تأمين الحماية لهذه الجماعات الَّتي تشعر بأنَّ العودة إلى أصول متخيّلة هي الكفيلة بتوفير الطمأنينة في عالم هو سوق كبيرة يأكل القوي فيها الضَّعيف بغير حسيب أو رقيب. ونشير هنا إلى حقيقة أنَّ العالم الَّذي قام في المئتي سنة الأخيرة على أساس الدَّولة وعلى أعراف وقوانين دوليَّة وعلى أساس الاجتماع داخل الدَّولة يجد نفسه أمام تحدي العولمة الَّذي كسر هذه الرَّتابة وفكّكها وأدخل الدّمقراطيَّة كفكرة والدَّولة كنتاج لها في مأزق تستثمره الأصوليَّة في بناء ذاتها ومشروعها.


في تصادم كهذا بين العولمة وبين الأصوليَّة لا بدّ من مواضع كسر. وما حصل في باريس يشكّل أحد هذه المواضع. ونرجّح أنَّ مواضع الكسر ستتواصل سنين طويلة وأنَّها ستتَّخذ أشكالا مختلفة ربَّما أكثر ترويعا ممَّا شهدناه حتَّى الآن. بل سنجد الدَّولة في مواجهة مع فكرتها الأساسيَّة وأنَّ علم الاجتماع سيكون مضطرا للاشتغال في تحدي انفراط العقد الاجتماعيّ بسب من اختراق العولمة للمجتمعات وتفكيك اجتماعها وإرباك عِقدها. ومن هنا، تبدو لي كتابات بعضنا بالعربيَّة وفي اللُّغات الأخرى قاصرة عن إدراك حركة التَّاريخ وحراك الأصوليَّة في إطاره. ومن هنا أيضا، إعتقادي أنَّ أطنانا من الكلام حول دلالات أحداث باريس لا تُحيط بالحدث ولا تزال تُعطيه تسميات محدودة زمنا ومعنى.


عملت الأصوليَّة الأولى ضدَّ سلطة الدَّولة، أمَّا الثَّانية فعملت ضدَّ سلطة الاستعمار. بمعنى مَّا عملتا ضمن نموذج الحداثة وسلطة الدَّولة وحدودها وضمن فكرة الاجتماع. إلاَّ أنَّ الأصوليَّة الإسلاميَّة العدميَّة في الوقت الرَّاهن ـ أنظر باريس وأرض الشَّام والصومال ومناطق الحدود في الصَّحراء الكبرى وفي نيويورك من قبل ضدَّ النّظام العالميّ بما فيه الدُّول وكلّ صورة حديثة للاجتماع على أساس العقد الاجتماعيّ أو الشَّراكات الثَّقافيّة والاقتصاديّة، وأنَّها تريد إرجاع كلّ شيء للعقد الإلهيّ والشَّريعة كما يفسّرها “أبطال” هذه الحركات ورموزها. ومن هنا منبع الصّداميَّة الدَّمويَّة مع كلّ ما هو موجود من اجتماع ومَفهمة لهذا الاجتماع. ومن هنا هذه العدميَّة في مواجهة المختلف والآخر. وهي عدميَّة في مواجهة الزَّمن وسيروراته الكُبرى. فالغاية هي إخضاع العالم كلّه مرَّة أخرى لمشيئة الله ـ وهذه المرَّة لمشيئته كما يراها الأصوليون الإسلاميون العدميون في داعش أو مثيلاتها.


وعليه، فالأصوليَّة الرَّاهنة ليست وليدة الإسلام السّياسيّ وإن تدّعي تمثيله في صورته النّهائيَّة الجذريَّة. بل هي جزء من العولمة بالصّيغة الضديَّة لها. وهي في منبعها دفاع عن النَّفس بجعل الضعف قوَّة والنَّقيصة فضيلة من خلال العودة إلى الشَّرعيَّة الإلهيَّة وإحلالها مكان شرعيَّة الإنسان. وهذا تحديدا مصدر الصّدام بين عقل الانسان كما يُعبّر عنه الاجتماع (كما تطوّر منذ التَّنوير) بمفاهيمه الرَّاهنة في ظلّ العولمة وبين تنازل مُطلق عن العقل المفكّر لإله مُفترض له ناموسه وقانونه المضادُّ للعقل كليًّا. ومن هنا اعتقادنا أنَّ الأصوليَّة العدميَّة تحاول الانقضاض على التَّاريخ وتعديل مساره بالخروج عليه. صدام سنرى له أشكالا متسارعة في المدى المنظور.

مرزوق الحلبي

المصدر: الأوان

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...